اليوم يموت انسان

نبيل عودة

كيف حدث ان صرت نسيًا منسيًا، ولماذا انت بالذات دون خلق الله اجمعين وفي اللحظة التي كدت ان تصل فيها الى القمة؟ لتتمهل بعض الشيء، ولتمسك أطراف الخيوط جيدًا، قد تفلت الحقائق من بين يديك إذا اندفعت وراء العاطفة، ان العاطفة والشيخوخة امران متناقضان. تعلم ذلك، وتعلم أكثر منه ان عاطفتك الشرقية في تركيبتها، لا تزال تتأجج بسهولة، حتى وانت في هذا الوضع المأزوم، ترى ما هي العلاقة بين العاطفة والشرق؟ هذه الافكار تسليك ولكن تعذبك احيانًا. غير أنك تمارسها. هي الرياضة الوحيدة المتوفرة لك في وحدتك. احيانًا تكره افكارك. تعذبك. تؤلمك حتى الاعماق. ترمي بك الى القلق وكثيرًا ما تثير حقدك الجنوني. أصعب الحقد حين يكبت في الصدر ولا يجد متنفسًا للتعبير عن ذاته.

الشيخوخة اقعدتك؟ هل ستستعيد يومًا ما قوتك؟ أو تستسلم؟ ما أكثر مشاكلك. منذ ولدتك أمك وانت صاحب مشاكل. يومًا انت نصف ميت وآخر متفجر بالحياة. ربما يكون ما ترسب في نفسك ليس الا استمرارًا لأيامك الاولى على الارض!

هل انت سعيد؟ تأخذ نفسًا طويلاً من سيجارتك، هل انت حزين؟ تنفث الدخان بقوة في الفضاء. اذن ماذا انت؟

انت أقرب شيء الى البشر. غير ان حياتك ليست حياة عنصر بشري، البديهيات تؤكد ذلك ويضاف أنك صنعت عددًا من الاولاد والبنات واكتفيت. بل لم تعد تستطيع. لكن الكائنات الحية الاخرى، حتى التي لا تفكر… تصنع اولادًا؟ ماذا تقول امام هذه الحجة؟

زعيق جنوني لفرامل سيارة .. ضجة .. صراخ .. واشياء اخرى غير واضحة. وصلنا كما يبدو الى نقطة هامة. او ربما نكون قد ابتعدنا. لا تستطيع ان تطرح الشيء الا إذا طرحت نقيضه. تندفع منطلقًا كالريح وراء افكارك المتسارعة. تشعر بحالة تحليق غريب. افكار وتخيلات كثيرة تتداعى في ذهنك دون نظام. انت مأساة. اجل انت نفسك المأساة. اما حياتك فلم تكن الا بقايا روح علقت بك منذ ايام الصغر.

البيت الذي كان

– يا اهل الله. يا رايحين وجايين. انا هو…

كثيرًا ما اردت ان تقف على منضدة في ذلك المقهى الذي يمتص ايامك بمراقبة الرائحين والغاديين: أنك انت هو… ولكن الجرأة كانت تتخلى عنك في اللحظة الاخيرة.

كنت تجادل نفسك ان ارضي يا نفس الكلب بما آلت اليه احوال الدنيا.

– تخلص مرة واحدة من نقائضك. اشعر مرة واحدة بكرامتك دون ان تشعر بوضاعتك. ربما لا تعلم ان الانسان حالات. ولكن انت حالات متراكبة متداخلة، لا تخرج من مأزق الا لتجد نفسك في مأزق غيره. لا نبعد كثيرًا عن الحقيقة إذا قلنا إنك اصبحت ذا خبرة حياتية. لا نقل ذلك بقصد السخرية، فانت شيخ أكبر منا، سنك يستحق الاحترام. اجل يا شيخ. ان خبرتك تقضي بعدم محاولة الخروج من المأزق، لان ذلك يعني في الوقت نفسه الدخول في مأزق غيره. اذن ما عليك الا القبول بما هو قائم وصلي على النبي وترحم عليه.

– وتخون ابنك الذي يحمل السلاح؟

– ولكنك لن تفصح عن مكنونات صدرك.. ما هي الا خدعة لراحة نفسك.

– وكيف ترتاح نفسك بعد ان صار بيتك اطلالاً؟

– كان بيتًا رائعًا.. واسعًا وبخمس غرف، ويطل على البلد من اعلى جبل فيها. وغرفة يلعب فيها الهواء الطلق في الصيف.

– وعلى ابوابه سجلت تاريخ ميلاد اولادك.

– جميلة ولدت يوم احتلال اللد والرملة.

– ولغباوتك لم تسجل انها سقطت شهيدة في عملية اسميت اللد والرملة…

– اليت نسفوه.. طار، تناثرت حجارته.

– وتريد ايها المسخ ان تنسى؟

– وما فائدتك بعد ان صرت نسيًا منسيًا؟

حزيران وأيلول

ليتك تعلم اين بقية اولادك، وليتك تبقى جاهلاً بهم. قد يفرحك اي خبر عنهم وقد يقتلك. بعثرهم حزيران الاول، وعندما كدت تشم رائحتهم جاء ايلول الاسود فما عدت تعرف شيئًا عنهم، وأنت … اصبحت نسيًا منسيًا، تلوك الايام بعينيك وتمضغ الحزن اربعًا وعشرين ساعة كل يوم.

– ما اصعب الانتظار.

– بل ما احلاه.

– لولا الانتظار لاستعدت حيوتك.

– او ربما يتضاعف بؤسك.

– قد يعود اولادك فتشرق لك الدنيا؟

– قد يلحقون بجميلة فتكون نهايتك اتعس نهاية.

– ولكن مصيرك ان تعرف!

الظاهرة والعمق

تتنازعك شتى الهواجس. تتقاذفك شتى الافكار. وتبقى متكورًا في زاوية قهوتك تحرق الدخان واعصابك. وتريد ان تقنع نفسك بأفضلية التسليم، فيلوح لك بيتك بحجارته وابوابه وأثاثه المحطم المحروق… فتمتلئ بالحقد وبالدموع. انها تعابير داخلية لا تطفو على السطح. وجهك بلحيته البيضاء الكثة، وبالعينين الصغيرتين الكالحتين لم يعد يعطي اي تعبير. فقد قابليته للتأثر. خسر ميزة بشرية هامة. حتى الى هذه الزاوية الضيقة يلاحقك النسيان. من المؤكد أنك تمارس عملية التفكير بوعي. انت متمالك لحركات فكرك كلها، بدون شك أنك مسيطر على جميع شطحاته التخيلية. المجانين يعتقدون ان الجنون في غيرهم، وتراهم مقتنعين انهم قمة التعقل والمنطق. ترى ما هي حالتك بالضبط؟

كفى يا شيخ توجسًا، ان الذي تخاف منه تجلس عليه. القلق والحزن يتراوحان في تعذيبك. لكل شيء اصول، حتى للموت… لماذا لا تبتعد عن ضجيج الحياة؟ قد تنسى هواجسك، وتهدأ ترقباتك، وتغوص في النسيان؟

– كيف تفعل ذلك؟

– بالإرادة.

– لم يعد لها معنى.

– ما لك وللمعاني.. المهم هو الفعل.

تنفخ دخان سيجارتك بتأوه ومرارة. لم ترتعش ابدًا. ولم يبد على وجهك انعكاس للمرارة والتأوه، ونقطة ما، لا اعلم مقدار بعدها او قربها منك… لا تمل عن التحديق فيها، تغيرها بين سيجارة وأخرى.

صرت قطعة ملازمة للمقهى، إذا غبت يفتقدك جميع رواده، رغم أنك انت منسي .. ولا يذكرك أحد اطلاقًا. يعرفونك كشيء يجلس في تلك الزاوية يناجي صمته ويلاعب سجائره. اما غير ذلك فصمت مطبق.

في البدء كانت الكلمة

لم تكن الأحاديث التي تسمعها تجلب اهتمامك وما أكثر ما سمعت. كنت تنتظر كلمة ما لا تعرف ما هي تمامًا، لكنك متأكد ان هذه الكلمة هي المنطلق الى حل ما انت فيه، غير ان الانتظار يطول ولا تبدو له نهاية.

لماذا لا تفعل شيئًا؟

يهزك غضبك هزًا عنيفًا، تشعر بألم داخلي عميق، ربما ما تعانيه كابوسًا؟ حلما مزعجا؟ شطحة مروعة؟ تتلمس الاشياء حولك بنظرات صامتة. هل يطول الكابوس خمس سنين؟ هل يمتد الحلم الاف الساعات؟ يجب ان ينتهي كل شيء. لو كنت أقدر قليلاً لهانت عليك أكثر المصاعب. ولكنك عاجز ومنسي! انت تفهم جيدًا الآن انضمام اولادك للمقاومة…

– كأنك تبرر موت جميلة؟.

– ابدًا، كانت احب اولادك الى نفسك.

– قتلت لأنها فدائية.

– وانت يقتلك الضياع والتشرد والنسيان.. وبيتك هدموه.

تهتز عاطفتك احيانًا فتعتريك حمية غريبة، ان تفعل اشياء وان تقول اشياء… اياك يا شيخ والعاطفة. ماذا تستطيع ان تفعل امام الرصاص سوى الخوف لا غير؟

اجل! هل تعرف ما هو الخوف؟ انه الترقب، ولا خوف أعنف من الترقب. انتظار اللحظة. توقع الشيء. ترقب المجهول. ان الخوف كما خبرته مرادف للقلق. مضى العمر في ترقب الآتي الذي جاء دائمًا بنقيضه، فلماذا تكثر اذن على نفسك تناقضاتها؟ دع الامور تسير كما هي، فما انت الا بقايا روح، نسي منسيا.

كيف صرت منسيًا؟

عودة الى الاشياء المجردة. اتراك لا تكف عن البحث والتنقيب في آلامك؟ أتجد متعة في صلب نفسك ودقها بالمسامير؟ لماذا لا تحاول الابتعاد؟

الابتعاد؟ يا للسخرية! وهل بقي لك شيء غير الماضي تعيش على ذكراه؟ حتى لو كانت ذكرى أليمه؟ فما الذي بقي لك غير الموت؟ الموت اولى بك لولا بقايا روح!

هل تبقى هكذا مجمدًا؟

عل مهلك يا شيخ! لماذا تستفزك العاطفة؟ جرى الاتفاق ان تتمالك عواطفك. العاطفة افيون شرقي. هل باستطاعتكم ان ترتكبوا ضدهم نصف ما ارتكبوه ضدكم؟

كنت تود الاسترسال في بحث يراود فكرك. ولكن خيل اليك أنك سمعت شيئًا. هل هي الكلمة المنتظرة؟ ربما! استحوذت عليك حاسة السمع. حتى حاسة النظر اصبحت تابعًا لحاسة السمع. وانفاسك تقطعت بشكل اصبحت تبدو للملاحظ كمؤثرات هوائية لملء الفراغ بين كلمات المذيع وجمله. لم تكن متأكدًا مما سمعت. تسارعت دقات قلبك وازدادت يداك ارتعاشًا. كل علامات التأثر الداخلي تشير الى ان العقل الباطني استوعب الموقف وابعاده. ولكنك لم تنتظر ان يكون لقاؤك بأحد اولادك على هذه الصورة. كيف القى القبض عليه؟ واي واحد هو؟ جميل، عباس ام خضر؟. او لعله أحد احفادك، صباح او يوسف؟ اما الباقون فلا يزالون صغارًا على هذه الأشياء، او هكذا عهدتهم. اعتراك شعور من الراحة. ستعرف مصير اولادك وترتاح. ولكنك ستفقد ابنًا أو حفيدًا؟ تمنيت ان يكون ما تصورت غير صحيح. ربما لم تسمع جيدًا كلمات المذيع؟

ما العمل الآن؟ ها…

– واليكم نشرة الاخبار بالتفصيل..

حسنًا. قد يكون في ذلك شيء يشفي غليلك.

– القت دورية من دوريات جيش الدفاع… القبض على ثلاثة مخربين، تسللوا مساء أمس.

تسللوا؟ عندما تذهب للنوم في خرائب بيتك، هل يسمى ذلك تسللاً وتستحق عليه السجن او الموت؟ اذن الى اين تذهب؟ الى اين؟!

كدت ان تصرخ بذلك لولا بقية من اعصاب. انت مركب من بقايا بشرية. نعم، الآن تأكدت انه أحد ابنائك. سمعت بوضوح واستوعبت الصورة بكل هدوء واستسلام. لا! لم يعد للاستسلام مكان.

تخاف الموت. اهي العاطفة؟ لتكن! لأول مرة تشحذك المآسي بقوة فولاذية. لأول مرة تشعر بعمق روحك وعنفوانها. لأول مرة يتحرك الجمود من تعابيرك الانسانية. لأول مرة منذ خمس سنين تفتح عينيك واذنيك جيدًا. يجب ان تراه. ان تقبله. ان تطمئن على المنتظرين. تريد ان تشم رائحة أولادك. الآن تشعر بانه اصبحت لك قيمة. لم تعد مهملاً ولن تبقى نسيًا منسيًا!!

لترعد في الجو اصوات القنابل، ولتشعل الحرائق في كل مكان. انت في آخر عمرك ولكن بقي لك شيء تعمله. عندما انتصبت واقفًا شعرت بنشاط غريب يدب في ساقيك. لم تكن ترى شيئًا امامك. كانت الدموع تحجب سبيلك للرؤية. ولكنك تعرف الطريق بالتجربة، تعرفها بالممارسة. تقدمت مندفعًا. دموعك تنهمر بغزارة وتصميم. وجسدك يرتعش من البكاء والغضب. انفجرت وانتهى الامر. عندما بلغت منتصف شارعٍ الاسفلت هز سمعك صوت فرامل سيارة مسرعة زعقت بوحشية وبعدها صرت نسبيًا منسيًا.

( قصة من الدفتر القديم / تمضي السنوات ويبتعد الحلم- 1971)

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here