التفكير الصائب والتوافق الاجتماعي – 4

* د. رضا العطار

قلنا في الحلقة السابقة ان نفس الانسان لها اتجاهين مهمين، هما الاتجاه الذاتي والاتجاه الموضوعي – – وفي سبيل توضيح ذلك نضرب هذا المثل : يذهب الى محطة القطار رجلان احدهما ذاتي النزعة والاخر موضوعي. وهناك يُبلغان ان القطار قد غادر المحطة. فالذاتي يغضب ويشتم ويضرب الارض بقدمه. اما الموضوعي فيتأمل الساعة ثم يبحث من ميعاد القطار الثاني. ثم يهيء نفسه لقضاء ساعة قبل موعد الحركة, وهو يقضيها في تعقل.

والفيلسوف وهو اعلى طراز للشخصية الموضوعية، يبحث الشؤون البشرية وهو يحرص على ان لا تكون عواطفه ذاتية. والمجنون يصبغ كل حركاته بصبغة ذاتية. ولهذا فأنه دائم التعب معني بعاطفته.

وكلنا بلا استثناء تقريبا ذاتيون الى حد كبير، تنشأ فينا منذ الطفولة .
اذ كانت الأم حين يؤدي صغيرها عملا حسنا تقول له : انت احسنت او انت أسأت او انت ذكي او انت غبي . وكان عليها ان تقول :
هذا العمل حسن وهذا العمل سيء , يمكنك ان تصلحه من هنا ومن هنا

انها في الحالة الاولى توجه الأم طفلها وجهة ذاتية في كل شئ يحدث في الدنيا, فينشأ وهو عاطفي يحب ويكره. اما في الحالة الثانية فأنها توجهه وجهة موضوعية. بؤرة الاهتمام عنده ليست نفسه, بل هذا الشئ الذي امامه وحوله بل مجتمعه !

ان هذه الذاتية تشقينا في الحياة كثيرا. لانها لا تفتأ تنبه عواطفنا بدلا من عقلنا الذي يوقظ ذكائنا. فنحن نسلك في الحياة بالعواطف الجامدة العمياء بدلا من التعامل النير البصير . يجب علينا ان نسأل انفسنا في كل مأزق يصادفنا في الحياة ( هل انا هنا ذاتي النزعة اسير العاطفة ام موضوعي افكر واتعقل ؟ )

يجب ان نتذكر دوما, اننا عوملنا في طفولتنا بدلال مفرط بدل الجد والعدل، وهذا فيه ضرر بليغ, فقد جعلنا هذا الدلال ذاتيين, ولهذا نغضب بسرعة اذا لم تلبى طلباتنا. واحيانا نتورط في سلوك اجتماعي مضر وممقوت يسيئ الى سمعتنا.
اكثر من تسعين في المئة من اخطاء التفكير عندنا تعود الى سيطرة العاطفة على سلوكنا. و لاننا نرغب في اشباع هذه العاطفة نسوغ هذا النمط من التفكير بضروب من المكر والاحتيال حتى نقتنع باننا عقلانيون ولسنا عاطفيين. كما يحدث عندما نؤجل عملا يتطلب السرعة في الانجاز. لكننا نسوغ هذا التأجيل بالوان مختلفة من المنطق.

لنا ميول واهواء احدثها – العقل الباطن – مقنعة بالوجدان. تبدو وكأنها منطقية. ليس فيها من شك. كما يحدث لنا عندما نحب او نكره لأسباب يشق علينا فهمها. ولكنها تعود الى ما انغرس في نفوسنا ايام الطفولة, كالخوف من الظلام او الاشباح… الخ يحملنا على الاعتقاد بأن الارواح حقيقة واقعة. او لاننا استجملنا امهاتنا ايام الرضاع وبعده. تنشأ في نفوسنا انطباعات تأثر على مشاعرنا واحاسيسنا، حتى حين نسعى الى الزواج. لا نستجمل فتاة سوى تلك التي لها شبه بأمنا, في الوجه او القوام او الصوت او طراز اللبس، علما ان ضررها علينا بليغ, لان ذلك الميل العاطفي يجعلنا ان نتجاهل جميع عيوب الفتاة. والحالة ايضا مع الاحساس الطائفي, فكثير من مكارهه غرست فينا ايام الطفولة ثم اصطبغ بعدئذ بالتعصب مما افسد عقلنا في التفكير الموضعي.

عندما نعالج موضوعا او نتعامل مع شخص، علينا ان نتأمل قليلا لنتأكد, هل اننا معتمدين على العقيدة ام على المعرفة. فكثير من الناس يفسد تفكيرهم لانهم يعتمدون على عقائد ليس لها صلة بالحقيقة, ويسوء تصرفهم لهذا السبب. وكثيرا من الامهات في بلادنا يقضين على اطفالهن بالمرض او الموت لانهن يختارنّ الدواء عن عقيدة وليس عن معرفة.

يقول كاتب السطور : ايام مزاولة عملي في مستشفى الرمد في بغداد في القرن الماضي كنت اشاهد بعض حالات التهابات العيون عند الاطفال محدثة لهم اوجاع شديدة، وبعد الأستفسار اتضح بان الأم بدل ما تأخذ صغيرها الى الطبيب المختص، رجحت استعمال العلاج الشعبي، الذي يقضي في وضع مسحوق حجر مكة في عين طفلها، اعتقادا منها ان المسحوق (المقدس) سيعجل في شفاء مرضها.
الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

* مقتبس من كتاب عقلي وعقلك للعلامة سلامة موسى مع اضافة لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here