يوميات نصراوي: الهاجس الثقافي

نبيل عودة

(ملاحظة: “ما يعيدني لتسجيلاتي القديمة من دفتري الشخصي، هي رؤيتي ان لا شيء

تغير للأحسن في ثقافتنا ان لم يكن قد تغير فعلا للأسوأ، او ما زلنا نراوح في نفس المكان)

دعيت قبل سنوات للمشاركة بندوة عن اهم إنجازات الثقافة العربية خلال عام (2007)، قبلت الدعوة قبل ان أفكر بالموضوع.

حين اختليت الى نفسي مفكرا مستعرضا ما هو أهم حدث ثقافي، أصبت بالحيرة التي سرعان ما تحولت الى كابوس ثقيل.

لا ادعي أنى مطلع على كل ما أنجزته الثقافة العربية في اسرائيل او الوطن العربي، ولكني أعيش الثقافة بمفهومها الأوسع من مجرد اصدار أدبي هنا أو هناك، أعيش الثقافة بكونها كل انجازات المجتمع البشري من قيم مادية وروحية، تطور اقتصادي، اتساع رقعة الحرية والتعدية الفكرية والشخصية، تعمق الرفاه الاجتماعي وتعمق الديموقراطية.

غني عن القول، ان الثقافة العربية، بصفتها المعبر عن الضمير الوطني العربي، وعن الحلم الذي قيد في سجون ودوائر مخابرات ملوك الطوائف، يعاني من ضمور وتشرذم وتعتريه حالات تجاهل الواقع حتى الهروب من الوطن، بانتظار انتفاضة تعيد للحلم حريته، وتعيد للإنسان العربي كرامته المهدورة في وطنه، من أنظمته أولا، ثم من الدخلاء الطامعين على اشكالهم المتعددة. لكننا نعرف اليوم ان انتفاضة الربيع العربي جرت المجتمعات العربية الى أسوأ مآسي في التاريخ الحديث. لست بباب تحليل السبب فهو واضح بظل أنظمة القمع لكل تنظيم يجرؤ عل نقد نصف الإله المتربع على العرش او على سدة الرئاسة!!

ما جرى انتفاضة شعبية صادقة افتقدت لقيادات قادرة على قيادتها وتوجيهها، فتبوأت الأوساط الأصولية الصدارة.

من زاوية أخرى، لا يمكن نفي انجازات الثقافة العربية المتمردة على البغاء الرسمي. الفكر العربي المعارض لم يشكل التيار المركزي لأنه فكر مقموع ومقيد. وما عدا ما ينتج في دول المهجر لا اكاد المس فكرا ثوريا عربيا قادرا على التعبئة والمواجهة، لذا الحديث عن انجازات الثقافة العربية في ساحة الفكر هو انجاز يفتقد للقاعدة المادية لتطور الفكر، وأعني تطور المجتمع العربي (اقرأ تطور النظام العربي) اقتصاديا، علميا ورفاهية.

أحيانا يبدو لي ان استعمال صيغة “العالم العربي” لوصف ممالك وجمهوريات العرب هو نوع من المهزلة، أو السخرية على الذات. هل أنظمة مبنية على الطوائف والقبائل، بل وعلى مجموعة ضيقة من العائلات، يجوز ان تحظى بصفة “عالم عربي”، أم نعود الى الصيغة الأكثر دقة وواقعية: “دول الطوائف”؟

هل من نظام عربي يعتمد استقلالية المؤسسات والرقابة على فباطنة السلطة؟ جهاز قضائي مستقل. جهاز تشريعي مستقل وسلطة تنفيذية تملك حرية القرار؟

اليس النظام هو جزء جوهري من الثقافة السائدة؟

هل من برلمان عربي قادر حقا على التصويت ضد أصغر وزير في أنظمة الطوائف؟

هل من انتخابات عربية لا يحظى فيها الرئيس بالإجماع من الأحياء والأموات، من الذين يبحثون عن الطعام في القمامة، حتى الذين ينزفون في زنازين المخابرات؟

في ظل هذا الوضع يستشري الفساد في ظل هذا الوضع يقمع أصحاب الموقف. في طل هذا الوضع يقمع الضمير. في ظل هذا الوضع يتعفن المعارضون في سجون وزنازين أنظمة عصر العرب الحجري الجديد.

ومع ذلك استطاع الفكر العربي المتنور، المتحرر من عقلية العصر الحجري، ان يجد انطلاقته في المنفى (المهجر)، وبعضه يواصل التحدي ودفع الثمن بالحرية الشخصية، حاملا دمه على كفه.

الثقافة العربية لم تقف مكتوفة الأيدي. ولكن بجانب واحد فقط. الجانب الفكري والابداعي الروحي.

الثقافة بمفهومها المادي، الذي يشمل كل ما يبدعه الانسان في مجتمعه من ثروات مادية ونهضة عمرانية علمية وتعليمية ظل مفقودا وغائبا لأنه ليس بإرادة الشعوب العربية.

هذه هي الرؤية العامة التي واجهتني وانا اراجع واقع الثقافة العربية.

وماذا مع أهم حدث ثقافي للعرب في اسرائيل .. وهو الموضوع الذي يشغلني بالتأكيد؟

لا شك ان الأمور تختلف. ولا شك ان اسقاطات الواقع الحجري العربي يترك سلبيات واسقاطات مدمرة ليس من السهل القفز فوقها… بل وبدأت تثمر فاكهة مشوهة في حقلنا الأدبي. غاب الثمر الجيد تقريبا من حقولنا، الا القليل الذي لا يشكل صوتا أدبيا مؤثرا.

غير ان واقع العربي في اسرائيل مختلف في الكثير من الحسابات لذلك أجد نفسي أتخذ معايير مختلفة للحديث عن أبرز انجاز ثقافي في العام 2007.

العصر الحجري العربي ألحق بنا أضرارا فكرية عديدة. أفسد زعماء ظنوا ان مساحة النشاط الفكري والسياسي والثقافي في اسرائيل لا تتسع لمقاسهم. واوهم آخرون ان عصر المنطق السياسي ولى وصارت الأقوال العشوائية تطرح بكل مناسبة وبكل ظرف.

قد يرفع البعض حاجبية ويوسع حدقتا عينية مستهجنا: ما دخل السياسة بالثقافة؟

يكفيني ان أقول ان أبرز مفكر عربي وعالمي معاصر ومؤثر على الفكر والثقافة والسياسة العربية والعالمية، المرحوم ادوارد سعيد، ما كان ليصل الى مكانته الثقافية الدولية والعربية، لو فصل الثقافة عن السياسة، بل وأطلق على أحد أهم كتبه عنوانا سياسيا ثقافيا مثيرا: ” الثقافة والإمبريالية “. يسجل في مقدمة كتابه رؤيته الثاقبة، يكتب:” ان معظم محترفي العلوم الانسانية، عاجزون عن أن يعقدوا الصلة بين الفظاظة المديدة الأثيمة لممارسات مثل الرق والاضطهاد الاستعماري والعنصري، والاخضاع الامبريالي، من جهة … وبين الشعر والرواية والفلسفة التي ينتجها المجتمع الذي يقوم بمثل هذه الممارسات من جهة أخرى.” وبالطبع يثبت اندماج الثقافة مع امبرياليتها، والمنطق ان الثقافة مثل سائر المنتوجات الاجتماعية المادية، هي جزء من العمران الذي أنجزه المجتمع البشري.

هذا العمران نفتقده تماما في ممالكنا الطائفية. ولكننا نعيشه نسبيا في الواقع الإسرائيلي. ومع ذلك الواقع الثقافي العربي في اسرائيل في وضع بالغ التعقيد، لأسباب أخرى.

الفصل بين السياسي والثقافي أنجز التدهور الثقافي والتدهور السياسي أيضا، الذي يجد تعبيرا عنه في الغرق في مستنقع سياسة أوهام آسنة.

بعض الزعماء الأشاوس يظنون ان تل أبيب ستصبح (بدل لندن) مربط لخيول العرب، ويظنون ان الدمقراطية تعني فلتان اللسان بتصريحات تفتقد لأبسط منطق سياسي وعقلاني.

الفكر السياسي غائب من التطبيق وغائب من رؤوس زعماء آخر زمان. أبرز نموذج لذلك وثيقتي “التصور المستقبلي” و”وثيقة حيفا ” التي صاغتها مجموعة من الأكاديميين والمثقفين الحزبيين العرب من اسرائيل وشارك بوثيقة حيفا زملاء من العالم العربي أيضا، لا الومهم لرؤيتهم السياسية المتأثرة بنهج وهمي قوميي انتفاعي أوصل صاحبه الى “الخروج من الوطن قسرا” كما أعلن أحسن ممثل له د. عزمي بشارة، الذي استقر في امارة قطر!!).

الوثيقتان الحقتا الضرر السياسي بالنضال العربي داخل اسرائيل، وكانتا تعبيرا عن الانقطاع الفكري والمعرفي لأصول وضع استراتيجيات وتكتيكات العمل السياسي.

ما انجزناه في أسوأ ظروف سياسية قمعية واجهتها الجماهير العربية في إسرائيل، من فكر سياسي ومن ثقافة روحية (ابداع شعري وقصصي) بهرت الجماهير العربية من الخليج الى المحيط، تواجه اليوم حالة أعاقة وتهريج … ولا أرى ان حالتنا تبشر بالاطمئنان.

هذا ما أدخلني بحيرة، هل الغي مشاركتي بالندوة، حتى لا أبدو مرة أخرى بأني ناقد سلبي، أو “حاد وجاد بشكل مبالغ ” كما وصفني أديب معروف في رسالة وصلت لصديق آخر لي؟

هل من قيمة للثقافة إذا خلت من الجدية والاستقامة؟

هل من قيمة لصفة المثقف، إذا استثنيت الاستقامة الشخصية، السياسية والثقافية من صفات حاملها؟

حتى في السياسة، لا بد للمثقف، والسياسي أيضا، ان يلتزم بالاستقامة، ومن مثلي يعرف صعوبة الاستقامة السياسية في ملاعب السياسة العربية، وأصعبها صارت ملاعب العرب في اسرائيل، عندما تصبح السياسة “الطريق لمغادرة الوطن قسرا”، والطريق للترفه بنعيم الكنيست، والمضحك عندما يقسم عضو الكنيست العربي يمين الولاء لدولة اسرائيل وقوانينها وحمايتها، ثم يرفض يهوديتها، ويرفض المشاركة باحتفالات استقلالها. على الأقل ليتعلموها من محمود عباس أبو مازن عندما قال لوزيرة الخارجية في ذلك الوقت تسيفي ليفني التي طالبته بالاعتراف بيهودية دولة اسرائيل، قال:” لماذا تريدين اعترافي؟ سمي دولتك كما تشائين “. حقا هذا ليس مربط خيلنا السياسي، التسمية تقررها الأكثرية وهذا لن يتغير في اسرائيل أيضا، وما يشغلني ليس يهودية الدولة، انما ضمان دمقراطية ومساواة كاملة، وحقوقنا كمواطنين وابناء لأقلية قومية لها مميزاتها القومية ولغتها وحقوقها التي يجب اقرارها والحفاظ عليها وتطويرها، والمساهمة من موقعنا في انجاز الحلم القومي لشعبنا الفلسطيني.

هل الطرح السياسي المريض والمتلعثم، كان قادرا على خلق انبعاث ثقافي، أسوة بما انجزناه في سنوات الخمسين والستين والسبعين من القرن الماضي؟

كل الدلائل والمعطيات سلبية وبل سلبية جدا!!

الصحافة الحزبية الشيوعية في اسرائيل، شكلت تاريخيا منبرا ومدرسة ونافذة على الثقافة والحضارة العالمية، لكنها تهاوت سياسيا أولا، ثم ثقافيا. اختفى أهم منبر أدبي عرفته الثقافة العربية (مجلة الجديد)، ليس في اسرائيل فقط، انما على مستوى العالم العربي، المجلة شكلت مدرسة نضالية فكرية ثقافية حضارية في وقت اشتد فيه الحصار الثقافي على الجماهير العربية بعد النكبة، واغلقت كل ابواب التواصل مع ثقافتنا العربية، فبرزت (مجلة الجديد) بدورها الثقافي النضالي الشرس لصيانة هويتنا الثقافية، ولو لم ينجز الحزب الشيوعي بكل تاريخه السياسي الا هذا الانجاز لكفاه فخرا.

اليوم لا أجد الا الضحالة الثقافية، والضحالة الفكرية، والضحالة السياسية. اليوم لا أجد فكرا. لا أجد رؤية أكثر اتساعا من قاعدة كرسي البرلمان. لا أجد ثقافة تتجاوز صياغة الشعارات. صحافتنا أضحت بلا محرر أدبي، من يحتاجه؟ أجور الصحفيين بالحضيض، وتكاد لا تسد الرمق. الفكر غائب، الغيبيات أصبحت صاحبة الميدان.

عندما تقرأ لمنظر سياسي ومحرر صحيفة هامة (أو كانت) مقالا تحليليا عقائديا يكتشف فيه، ويكشف لقراء صحيفته الملتزمون، ومن عنوان المقال أيضا ان: “الإمبريالية الأمريكية عدوة الشعوب”، هل توجد عبقرية سياسية أفظع من هذا الاكتشاف؟!

عندما تسمع شباب متحمسون لزعيمهم الراحل يهتفون بأنه علمهم وقال: “ان أمريكا رأس الحية”.

حقا كنا بحاجة الى قرن كامل لنستوعب هذا الدرس السياسي الخطير!!

والأمثلة المضحكة كثيرة.

كان رأيي ان اتركز في حديثي على انه لا حدث ثقافي يستحق الاشارة اليه، وإذا كان لا بد من الاشارة الى حدث، فهو استمرار تدهورنا الثقافي وغياب الاصدارات الأدبية الجيدة نسبيا. وأقول نسبيا لأني لم أرصد الا اصدارا ادبيا واحدا يستحق صفة الأدب وهي مجموعة قصصية للأديبة راوية بربارة ” شقائق الأسيل”.

أقول هذا بلا تردد، وبمعرفة أنى اثير غضب زملاء أعزهم، ولكنهم محبطون من الواقع الكئيب.

ولكن حدثت مفاجئة غير عادية.

وصلني ديوانان شعريان لشاعر أصيل أحترمه، وهو مميز بشعره واستقامته واخلاصه لفنه وأدبه وفكره.

وغرقت أقرا شعرا حقيقيا، ولا اريد أن أضيف وصفا آخر.

شعرا يعبر فيه صاحبه عن احاسيسه، والأهم انه قادر على نقل احاسيسه للقارئ.

هل يريد الشاعر أكثر من ذلك؟

انه الشاعر الرائع حسين مهنا، ابن قرية البقيعة – قرية الشعراء الجليلية.

أصدر في الأيام الأخيرة من كانون أول 2007 ديوانين شعريين.

الديوان الأول: “تضيق الخيمة … يتسع القلب” ويشمل عشر قصائد وخمس منثورات.

يفتتحه بقصيدة يقول مطلعها:

كأني أراكم

كما قد رأتكم دمائي

على باب (عاي)

تشدون خيلا

وتعدون خلفي

ويوم صرختم بباب (اريحا):

تموت … تموت

وراحاب تحيا ..!!

حملت الحياة على راحتي

وسرت على مهل أنثر الحب والشعر

سرت .. سرت .. سرت ..

انا استزيد الحياة حياة

وأنتم تشدون خيلا

وتبغون حتفي …

الديون الثاني: “الكتابان ” -ويبدأ بالثاني وينتهي بالأول.

يقول في قصيدة: “تمرين أو لا تمرين”

تمرين أو لا تمرين

قلبي تعود طول انتظارك

انت تعيدين للقلب

ما قد تناثر،

فوق دروب الحياة

ليصبح شكل الحياة

جميل التفاصيل،

كي لا تصير الدماء مدادا

وكي لا يظل الحبيب رهين القصيدة.

وفي قصيدة: “سموت بحبك” يقول:

سموت بحبك العذري خلقا

وزدت حضارة وصفوت ذوقا

وطهرني غرامك من ذنوب

تحاصر مهجتي وتشد طوقا

وأودع بي جمالا بعد ظرف

وشوقا للحياة فصار عشقا

وعلمني بأن الحب عدل

فلا أشقى ولا المحبوب يشقى

بالطبع هذه مقاطع اخترتها عشوائيا، وانا أؤمن ان القصيدة الجيدة لا تحتاج الى “مفسر أحلام”، بل تتسرب كالماء الى وجدان القارئ وتدمجه بأحاسيس الشاعر.

لذلك وجدت ما يصح ان يكون حديثا عن أبرز حدث ثقافي في ادبنا العربي الفلسطيني في اسرائيل. سأقول بكل بوضوح انه لو لم يصدر الشاعر حسين مهنا ديوانين شعريين جديدين في الأيام الأخيرة من عام 2007، ولو لم تصدر راوية بربارة “شقائق الأسيل” لكانت اجابتي انه لا حدث ثقافي يستحق الاشارة اليه، وان أبرز حدث ثقافي، هو استمرار تدهورنا الثقافي. ولكن الشاعر حسين مهنا والكاتبة راوية بربارة ” تآمرا” لإنقاذ الثقافة العربية داخل اسرائيل، والى حد ما بعد بعد اسرائيل، بإصدارات جديدة قبل افول نجم الليلة الأخيرة من العام 2007 أعادا فيها للسرد وللشعر بعض الاعتبار والقيمة.

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here