معضلة المفكر العربي!!

المفكرون العرب وبلا إستثناء يقضون على أنفسهم بالإنحشار في الدين والتأريخ , وهذا سلوك متكرر منذ أن دعى الخليفة المأمون إلى ترجمة الكتب اليونانية وربما قبل ذلك وحتى اليوم.

فمنذ ذلك التأريخ والمفكرون العرب منشغلون بالفلسفة اليونانية , وإستنزفوا طاقاتهم وجهودهم في متاهاتها ودروبها ورموزها , التي أدت إلى ما أدت إليه من الإستحالات التصورية والإدراكية والتأويلية , فأوجعت المسيرة العربية ودفعت بها إلى التشظي والإضطراب والتصارعات المروعة.

وقد تساقط العديد من جهابذة الفكر بسبب إقتراباتهم من النص الديني بمنظار فلسفي وتأويلي , والبحث في الباطن النصي وعدم القبول بظاهره وحسب.

إذ تم تكفير الفارابي وإبن سينا وحتى إبن رشد وغيرهم بسبب التأويل للنصوص الدينية أو القرآنية.

وفي واقع الأمر أن التأويلات الفلسفية للنصوص القرآنية هي التي أوجدت التعددية في الدين , وتولدت بسببها المذاهب والمدارس والفئات والجماعات , لأنها قد حاولت أن ترى خارج النص , ولهذا تنوعت آراؤها ومفاهيمها وتصوراتها , وأخذت النص الديني إلى حيث ترى وتدرك , فظهرت الفرق التي فعلت فعلها في التأريخ العربي , وتساقط الضحايا الأبرياء بسبب تلك الإتجاهات التي تطل على الواقع العربي بين فترة وأخرى.

ومع أن الذين تفاعلوا بعقولهم مع النص القرآني هم من العلماء المعروفين في العلوم الطبيعية إضافة للفقه أو علوم الكلام , ففي تلك الأزمان كان من الممكن للعالم أن يجمع بين علوم الكلام والعلوم الطبيعية كالطب والفلك والرياضيات وغيرها.

ولأكثرهم كتب ذات قيمة علمية في مجالات غير فقهية , لكنهم تناسوا إنجازاتهم العلمية المتميزة وكتبهم الرصينة , وأصبحوا في مواجهة عقلية مع النص القرآني , مما جلب عليهم الويلات والتداعيات , ومنهم مَن ذاق مرارات القهر والظلم والعدوان والنفي وحتى القتل.

ولا يُعرف لماذا لم يركّزوا على مناهجهم العلمية في العلوم الطبيعية ويمعنوا في تطويرها , بدلا من الدخول في مواجهات خسرانية مع الذين يرون غير رأيهم في النص القرآني.

ولهذا تجد أن معظم علماء العرب والمسلمين مغيبين عن الوعي الجمعي العام لقرون , لأن الحالة التي ظهرت وتسيّدت هي ضدهم وعملت بجد وشراسة على محقهم من الذاكرة العربية , وفي العصر الحديث الذين أدلونا عليهم هم المستشرقون والأكادميون الأوربيون.

ويبدو أن المفكرين العرب قد إرتكبوا خطيئة حضارية بهذا السلوك , ولا يزالون يكررون ذات الخطيئة , فمعظم المفكرين المعاصرين يحصرون أنفسهم في زاوية النص الديني والتأريخ , ولا ينظرون للواقع العربي بعين أخرى , ويرون أن سبب ما يجري ويتحقق هو الدين والتأريخ , وهذا أكبر من خطيئة , بينما من المفروض أن يقرؤا الواقع بعيون العصر , ويستحضروا القوة التي جعلت

المجتمعات الأخرى تتقدم وتنطلق بسرعة حضارية غير مسبوقة , وهذه القوة واضحة وساطعة ولشدة سطوعها ربما يصعب رؤيتها , إنها قوة العلم والمنهج العلمي والتفكير العلمي .

فالمجتمعات القوية التي تتخذ من العلم سبيلا لرقيها , هي ذات أديان وتأريخ , وفيها ما عندنا من الفرق والجماعات المتطرفة والمغالية , والتي ترى أنها هي ولا أحد غيرها , لكن التفكير العلمي أصابها بالشلل والإنحسار والتلاشي وفقدان القيمة والدور , لأن العلم نور وما تدعو إليه نار تحرقها وتحرق ما حولها.

ولهذا فكأن المفكرين العرب يصبون الزيت على النار , ويعجزون عن الإتيان بأجوبة حضارية ذات قيمة معاصرة ونافعة للأجيال.

وإن لم يتحرر المفكرون العرب من هذه الدائرة المفرغة , ويتخذون من العلم طريقا للوعي والفهم , فأن الأصولية ستزداد أصولية والتطرف سيُراكم تطرفا , ولن تخرج الأمة من نفق الإنهيارات الذاتية والموضوعية إلا بالعلم.

فالعلم بكل ما يعنيه ويتصل به , هو البوصلة التي ستأخذ الأمة إلى آفاق التنوير الحضاري والمعرفي المتفق مع طاقاتها ومكنوناتها الإبداعية الأصيلة.

فلماذا لا يحث المفكرون العرب على المنهج العلمي والبحث العلمي , والإيمان بالعلم كسبيل للرقاء والنماء والشفاء من الداء , بدلا من الهراء الذي يعصف بواقع الأمة على مر القرون المثقلة بالشقاء؟!!

د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here