الباحثون عن الحياة بين أكوام النفايات

سمير داود حنوش
في مكان ما من هذه الارض الشاسعة وفي بقعة محروقة سوداء من بلاد السواد، وفي مساحات ومناطق يطلق عليها (الطمر الصحي) ،بنيت هناك بيوت بـ(التنك) يسكنها بشر لا تربطهم بالحياة صلة سوى نوبات الشهيق والزفير. عناصر اللوحة لم تكتمل الا بوجود قطعان الماشية التي تحولت من آكلات للعشب الى آكلات للنفايات.
وللحق أقول أنني منحت حواسي اجازة أجبارية عندما وطئت قدمي تلك الارض. استوقفت رجلا كان يهيم في تلك الارض وسألته:
* تعيش هنا ؟
ـ نعم
* تحت صفيح ساخن وبيت قوامه (تنكات) الزيت في موقع مخصص لدفن النفايات !!؟
ـ هذا ماأقدر عليه!!
* كم من الاطفال عندك ؟
ـ خمسة
*رقم صعب وواقع مؤلم …
سألته عم يبحث في النفايات ؟
– أجاب أبحث عن العيشة لأبنائي …
* كيف ؟
– أبيع ماأجمعه من البلاستك ، الخبز اليابس ، الزجاج ، القواطي ،…الخ
*والصفيح ؟
– كلا (لااعلم لم شعرت انه يريد القول ان الصفيح لايصلح للبيع ، فلا يمكن ان يبيع مايمكن ان يكون لهم سكنا).
سبق وان كتبت الصحافة عن مواقع الطمر الصحي وعن أناس منقطعين عن عالمنا يحتلونها ويعيثون فيها فسادا وتعيث بهم مرضا وفقرا… وبالرغم ان هذه حقيقة مرة ولكن احدا لم يفكر في تخليص هؤلاء الناس من هذه المواقع التي تشكل بواقعها اليوم مصدر خطر بيئي وصحي .
هم مخطئون … بحق أنفسهم أولا وبحق البيئة ثانيا ، ولكن هل يدرك معظمهم خطورة اوضاعهم؟ لا ندري على من نلقي اللوم على هؤلاء المنبوذين ام على من اوصلهم الى هذه النتيجة.
على جانب الطريق المؤدي الى منطقة ابو غريب في ضواحي بغداد أستدارت بنا السيارة لتحط بنا الرحال في هذه المناطق التي تتمركز في ضواحيها أماكن الطمر الصحي والتي توسعت لتشمل مساحات أضافية حسب ماقاله السكان هناك.
الواقع مؤلم للذين اتخذوا من هذه المواقع مكانا للعمل والسكن في آن واحد. أما المناطق المحيطة أو المتاخمة لهذه المواقع فهؤلاء هم المغلوبون على امرهم والضحية الاكبر من جراء مايحدث والكثير منهم كان متخوفا من سيول الفيضانات التي وصلت الى أطراف بغداد قبل أسابيع والتي كانت ستجرف مناطق الطمر الصحي هذه مماستؤدي الى كارثة بيئية. الصبية والصبايا سّخروا بطريقة مؤلمة للبحث في النفايات الى جانب النساء (بشكل خاص) اما الرجال فالبعض منهم راح يتولى المهمة النهائية لعملية الأتجار بما جمعه الأطفال والنسوة .
الاطفال من شتى الاعمار لم يلتحق السواد الأعظم منهم بالمدرسة تجيب أحداهن :
– ماذا يفعلون بالقراءة والكتابة ، نحن لانبحث عن العلم هنا ، نحن نبحث عن العيشة بين أكوام الازبال ، وهذا أمر لايحتاج الى قلم أو دفتر .
*وهل تريدين لأبنائك حياة كالتي عشتيها ومازلت تعانين منها؟
– (تضع يدها على بطنها المنتفخة) وتقول:
هم ولِدوا هنا وأغلب الظن أنهم سيموتون هنا أيضاً.
تلك هي المخاطر التي تحدثنا عنها قبل قليل ..واليكم تفاصيل اخرى عن هذه الرحلة:
يقف (مهدي) الى جانب اخته (رغد) التي تصغره ، كما يبدو ببضعة اعوام.. عندما سألتها:
* الا تعثرون على اشياء ثمينة هنا؟
– تجيب بالتأكيد فقد وجدت بنفسي قبل اسابيع خاتم من (تنك) ومدت كفها التي بدأ عليها أثار البحث في النفايات مشيرة الى خاتم يلف بنصرها يشبه الذي يظهر للأطفال في (مكعب المفاجآت) في محاولة لأقناعي بانها وجدت كنزاً.وهنا يقول مهدي:
– ان حياتنا تتلخص برعي الماشية في النفايات فنحن (غنّامة) الى جانب البحث عن البلاستك والزجاج وغيرها … هذه هي حياتنا…
* وكيف تسلمون من الأمراض المترتبة على عملكم ومعيشتكم هنا؟
– لااخفيك ان البعض منا تظهر عليه اعراض لأمراض ماانزل الله بها من سلطان.. أما البعض الأقوى فقد اكتسب مناعة دائمية.
واكاد اجزم ان عدد الكلاب السائبة والتي عقدت صداقة مع سكان الموقع توازي عدد السكان هناك.
مع ملاحظة مهمة اسوقها للقراء وهي ان وسيلة المواصلات المعتمدة هناك في أغلبها هي (الحمير).
يقترب مني شاب في العشرين من عمره ، مستنجداً ليقول ليتكم تجدون لنا حلاً.
* سألته ، انت من هنا؟
– نعم واسمي (علي شناو) يأخذ نفساً عميقاً … يزفره مع هذه الكلمات:
ماذنب هؤلاء الأطفال … فأذا كان الكبار قد اختاروا سبيل العيش هذا ، فأن هؤلاء الأطفال لاحول لهم ولا قوة ، قبل سنين وفي أيام العنف الطائفي (والحديث لعلي) كانت ترمى جثث في هذه المناطق مازلت اذكر الرعب الذي علا وجوه الأطفال عندما كانوا يشاهدون تلك الصور.
أي ذاكرة سوف يحملونها معهم عندما يكبرون؟
* وكيف تعاملتم مع الموقف؟
– اخبرنا الشرطة التي جاءت واتخذت الأجراءات المطلوبة.
ـ وماذا تقترحون من حلول؟
– الحل لدى الجهات المسؤولة … فتسييج المواقع ليس امراً مستحيلاً مع وضع رقابة على مداخله.
* كلام مقبول ، فعلاً يتحتم على الجهات المسؤولة ان تجد حلاً سريعاً لهذه المشكلة ، فنحن نؤمن تماماً بأن في ايدي المختصين من الحلول مانعجز عن وضعه او اقتراحه . ويبقى السؤال: هل تحظى هذه المواقع بموافقة دوائر البيئة؟
(أبو محمد) من سكان المناطق القريبة من مواقع الطمر، فّضل عدم ذكر أسمه الصريح .
ـ أغيثونا (الله يخليكم)…. خلصونا من محرقة النفايات التي أتت على ماتبقى من رئة ولدي التي تعاني (الربو والحساسية) لقد زحفت النفايات لتشمل أزقتنا المتواضعة (وين نولي وجهنا).
* ولكنك أخترت السكن هنا مع قيام هذا الواقع .
– لم يكن الأمر كذلك قبل سنوات قليلة ، لقد أستفحل الأمر ليشمل الطمر مناطقنا لقد أختلف ألامر كليا.
ملاحظة مهمة جدا:
تركت هؤلاء القوم يهيمون بين النفايات ويتنقلون بين اكداس التنك المخصص لسكنهم ورجعت إلى بيتي وأنا اردد هل هؤلاء فعلا عراقيين؟!.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here