صور من الثقافه -6

د. حامد السهيل مسؤلية الرأسمال – الصوره-2

تعلمنا فى المدارس منذ الصغر بان العرب معروفون بالضيافة والكرم, وبلا شك فانها صفات حميدة يبارك عليها. كان العرب فى الجاهلية وعصور الاسلام الاولى يجوبون الصحراء طلبا للرزق, وبما ان البادية العربية لا تتوفر فيها مقومات الحياة الاساسية, كان المرور بالواحات امر لابد منه للتزود بالماء والغذاء, وكانوا يحلون “ضيوفا” على السكان. والحقيقة فان الضيافة تقتصر على تقديم الماء والعيش وفى احسن الاحوال كوبا من اللبن, اذا كان متوفرا, ان هذه الضيافة تمثل شكلا من التكافل الاجتماعى الذى اصبح مبدأ لاستمرار الحياة واحد مكونات الشعور الجمعى. اما”اسطورة” الامير حاتم الطائى الذى ذبح فرسه المفضل ليقوم بواجب الضيافة, فهذا نوع من “الخيال الصحراوى” الذى يؤكد على اهمية التكافل الاجتماعى, وعلى اى حال فان الامير حاتم الطائى, كما يبدو قد “وكع على الحديدة” كما يتداول المنطق الشعبى مثل هذه الحالات.

لقد تغيرت الاحوال وتطورت طرق ووسائل النقل الحديثة وتم ارساء شبكة اولية للخدمات الاساسية فى الاقطار العربيه التى انعكست على ضرورات “التكافل الاجتماعى” التى كانت قائمة انذاك. ان سكان المدن باوضاعهم المعيشية المعقدة وايراداتهم المالية المحدوده فرضت عليهم سلوكيات اخرى, واذا حصل وجود دواوين ضيافه فانها تعود الى شيوخ القبائل والعشائركتعبير عن الوجاهة والسلطه. ان العطاء الحر,المساعدة, الكرم والضيافة يمكن ان تحصل من قبل افراد وبشكل غير منظم, ويمكن ان يكون قرارا اانيا مؤقت ويرتبط بالمناسبات وخاصة الدينيه منها, سواء ان كانت بمناسبة عاشوراء او عملا بـ ” النذور” التى يتعهدوابها الناس ويقوموا بتوزيع اشكال من المأكولات على الجيران او فى المدن المقدسه, او يقوموا بطبخ (الرز والقيمه) ويوزع على الجيران والماره. ان ذروة هذا النشاط تصل فى مناسبة عشرة عاشوراء حيث تقوم عدة عوائل فى كل محلة سكنية بطبخ كميات كبيرة وتوزع على السكان والمارة. للاسف الشديد لم تحضى هذه العملية الى عقلنة فى الاداره وتقسيم العمل ويوزع هذا العطاء على مدى بضعة اشهر ليجد المعوزين مجالا للتزود بالغذاء. سواء كان الاغنياء المدعومون من الوقف الشيعى او ان مؤسسة الوقف الشيعى التى تنشط بشكل غير معقول بهذه المناسبة وتصرف مبالغ خيالية على “المواكب” والاطعمة والمشروبات, ويجد التباحى والتفاخر وتصرف عليها مبالغ كبيره تمثل حالة غريبه, غير معقوله حينما تمتد المائده المجهزة بكل انواع الطعام والفواكة والعصائر من النجف الاشرف الى مدينة كربلاء.!!

ان هذه النشاطات تمثل ضيافة وكرم مؤقته ترتبط بتقاليد ومناسبات دينيه. ولاعلاقة لها بعمل منظم دائم يمكن يقدم مساعدة للمحتاجين.

ان فكرة العطاء وصناديق الاوقاف المؤسساتيه التى تنشط مكملة لعمل الدولة وتعطى للحياة شعور اخر ومساحة واسعة للثقافة لاوجود لها فى مجتمعاتنا العربيه, واذا كان بعضا منها فهو ضئيلا صغيرا متلاشيا لاقيمة له وينحصر فى بناء المساجد والجوامع واحياء بعض المراسيم والشعائر الدينية, علما بان اصحاب الملايين والملياردات العرب كثيرون جدا, وبالرغم من ذلك لم يتطور فى عالمنا العربى نشاطا انسانيا يعبر عن بعضا من المسؤلية الاجتماعية ويتكامل مع مهمات الدولة. اما اصحاب الملايين والملياردات العراقيين الذين شقوا الارض مثل النباتات الخبيثه فقد وصلوا الى هذه الثروة الضخمة بسرعة هائلة وبدون عناء وتجاوزوا اساليب المافيا والجريمة المنظمة دون مراقبة او ملاحقة, انهم الدولة ومؤسساتها والحكومة ودواوينها, واثبتوا كفاءة عالية فى التضامن والتكافل كسراق وحراميه ومزورين. ان المليارات من موارد النفط التى تقارب 900مليار دولار تسربت الى خارج البلاد ووضع جزءا كبيرا منها فى حساباتهم البنكية فى مختلف دول العالم. مع كل هذه المليارات لم تبنى مستشفى ,مدرسه,ازمة الكهرباء المزمنه, المياه الصالحة للشرب,القضاء على الزراعة والصناعة, الفقر والعطالة التى بلغت نسبة قياسية…..الخ بالاضافة الى تفكيك الدوله وتعميم الفساد المالى والادارى …الخ, ورغم كل معاناة الشعب لم تتحرك ضمائرهم, لقد تحولوا الى قطع ادمية متحجرة, يعيشون فى القصور الفخمة التى بناها صدام حسين من قوت الشعب فى حالة بذخ مفرط وتبذير مقيت. ان هذه النفسية المشوهه قد انتقلت الى ابنائهم وعوائلهم والعاملين معهم من الصف الثالث والرابع. السيد المالكى يقيم حفلة عيد ميلاد لاحد بناته تكلف مليون دولار لان الاطعمة و(التورتا) جاءت مباشرة من باريس, وابنه ( احمد ) الذى يتسكع فى اوربا وامريكا مستعرضا سيارته” البورنجنينى” بلونها الذهبى التى سعرها 270 الف دولار, هذا بالاضافة الى القصر الفخم الذى اشتراه قرب منطقة (فرساى التاريخية) بمبلغ خيالى. واخر يشترى رقما خاصا لسيارته فى مزاد علنى فى الاردن بـ450 الف دينار اردنى, حوالى 550 الف دولار, واخر ينثر فئه الـ(100) دولار فى احد الكابريهات فى بيروت على راقصات الاستعراض, وابن اخر يقوم بنفس العمل فى احد بيوت الدعارة الخمس نجوم. اما اغلب عوائلهم فقد غادروا العراق ويعيشون على حساب الدولة فى فيلل وقصور وبجوازات دبلوماسية ونشاطهم المفضل التسوق وتناول الطعام فى المطاعم الراقية. ان مظهرهم وسلوكهم يثير الشفقه لفقدانه الذوق, التجانس والانسجام. اما رئيس الجمهوريه السابق الذى سافر الى باريس لحضور المؤتمر العالمى للمناخ يصاحبة وفدامؤلف من 50عضوا من الاداريين, دون ان يكونوا مدعوين له, لان المؤتمر كان للمتخصصين بالمناخ, وبعد التوسل والرجاء سمح لرئيس الجمهورية بحضور الجلسات التى لم يفهم منها شيئا ولاتهمه من قريب او بعيد ولكنه جلس كالطاووس ناشرا ريشه الملون. الا ان

تكاليف هذه السفرة السياحية, الطائرة الخاصةالمؤجره والاقامه بفنادق ومطاعم الخمس نجوم كانت بضعة عشرات الملايين من الدولارات, وتقاضوا على سفرتهم السياحية بدلات ايفاد من الدرجة الاولى على لا شىء, لقد ضحك عليناالعالم على الغباء اللامحدود الذى قدمه رئيس الجمهوريه والوفد المرافق له, خاصة لم يسمح للوفد بحضور الجلسات. نحن نسئل لماذا تحول قطاع كبير من التعليم الاولى وعددا كبيرا من الكليات الى استثمارات ذو ربيحية عالية جدا واغلب اصحابها من اصحاب العمائم وقارئى المجالس واصحاب قرار.

هل يمكن ان نظر الى نخبة قيادة المحاصصه بانهم مسلمون, يؤدون الفرائض ويحيون الاعراف والتقاليد ويقرؤا القران ويذكروا دائما حكم ومسيرة الامام على بن ابى طالب, وهل يمكن ان ننظر الى اغنياء اوربا وامريكا بعطائهم ومؤسساتهم وصناديق الاوقاف التى تبعث الحياة فى الفن والثقافة وتبنى الحضارة بانهم كفار و”نجسين”. هل يوجد من اصحاب الملايين العرب من يقترب من السيده ” اوفيرا” التى يقوم بالدراسة على حسابها الخاص بضعة مئات من الطلبة الامريكان السود. هل يوجد مليونير عربى تعهد بتمويل بضعة طلبة للدراسة على حسابه الخاص, اومساعدة رياضى, فنان او مدرس متقاعد ضاقت بهم الحياة بعد عطاء كبير, ان ملعب بغداد الدولى كان تبرعا من الارمنى كولبنكيان ويساعد ايضا عددا من الطلبه العراقيين. ان اغنياء الخليج والسعوديين بشكل خاص يبنون مساجد للعبادة, ولكن الافارقة والافغان وكل الشعوب الفقيرة المضطهدة بحاجة ماسه الى مدارس عامة ومدارس مهنية ومستوصفات وحفر ابار للمياة, والى فكر نقدى واعى يشد عزيمتهم للحياة ويجدوا فرصا للعمل والعيش.

ان على اصحاب الملايين والملياردات العرب, العراقيين بشكل خاص ان يدركوا مسؤليتهم الاجتماعية, مسؤلية الرأسمال, ويقوموا, كزملائهم الاوربيين والامريكان, ما يتكامل مع واجبات الدوله ويعطى فسحة مؤثرة جميلة للثقافة, الموسيقى, الفن والابداع,كما انالمرجعيات الشيعية والسنية يجب ان تجتهد فى فتح مشاريع متنوعة غير ربحية لتشغيل الايدى العاملة المعطلة, كما تفعل الكنائس الاوربيه والامريكية. وكما يبدو ان ايقاع الخير والتقدم فى اوطاننا, بفعل النخب الحاكمه, لم يعد له قيمة وتأثير.

د. حامد السهيل 4/ 6/ 2019

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here