الأمازيغ .. شعب وتأريخ

بقلم: عضيد جواد الخميسي

استوطن الأمازيغيون شمال أفريقيا ، وذلك تحديداً في دول المغرب العربي ، منذ ظهور التاريخ المدوّن وحتى الغزو الإسلامي في القرن السابع الميلادي . شكّل سكان الأمازيغ المجموعة العرقية المهيمنة في المنطقة الصحراوية ، أما حاضراً فهم يُعدّون أقليّة في شمال أفريقيا على الرغم من أنهم السكّان الأصليين فيها قبل غزو العرب لها . يشار إلى شعب الأمازيغ باسم (الليبيون ) في معظم النصوص القديمة ، وهم المجموعة العرقية المتنوعة والمنتشرة في بقعة جغرافية واسعة ، أمّا لغتهم فهي عبارة عن خليط من اللغات الأفرو-آسيوية ، ترتبط لغوياً بالمصريين ، والكوشيين ، والعرب ، والفينيقيين ، والقبائل المشرقية ، والصوماليين .
الرومان كانوا يسمونهم ( البربر)، وجاءت هذه التسمية من البربر اللاتيني (البربري) ، وذلك لتمييزهم ، باعتبارهم المجتمعات القبلية الأقل تطوراً في أفريقيا عن حضارتهم الهيلينية الأوروبية المتأصلة والمتقدمة ، ولأن (ليبيا ) هي كلمة يونانية قديمة مشتقة من كنية شعبية شائعة ، فقد استخدم هذا المصطلح بمفهوم إفريقي .

إن وجود المجتمعات الأمازيغية البدائية في عصور ما قبل التاريخ واضحاً في الكهوف الصحراوية ، حيث تشير الألواح الحجرية التي تصور الحياة المتنوعة قبل تصّحر المنطقة تدريجياً ، وتحولها إلى الصحراء التي نعرفها الآن ، إذ كانت منطقة شمال أفريقيا منطقة خصبة وغنية بالموارد وتسكنها تلك المجتمعات البدائية . كان الأمازيغ يعتمدون إثنين من الآلهة الأساسيين حسبما يشير إليه العلماء المتخصصون في شؤون الأمازيغ ، وهما شخصية شمسية وأخرى قمرية ، إذ تشبهان إلى حد بعيد آلهة المصريين ، مما يوحي بوجود أصل ثقافي مشترك . وحسب ما كتبه المؤرخ اليوناني هيرودوت في كتابه (التاريخ )عن الأمازيغ سنة 430 قبل الميلاد :
“يضّحون إلى الشمس والقمر ، ولكن ليس لأي إله آخر. وهذه العبادة هي شائعة لدى جميع الليبيين ” (رابعا ، ص198).
نفس الشيء عندما حصل مع شعوب بلاد مابين النهرين قبل الإبراهيمية ، كانت أهمية الأحجار شيئاً رئيسياً في التقاليد الأمازيغية. إذ ماتزال بعض الأضرحة الحجرية ، مثل (ضريح موريتاني) الملكي ( في دولة المغرب ) في العصر الروماني والذي بناه أحد ملوك الأمازيغ على الطراز التقليدي والذي مازال قائماً الى اليوم . التبجيل الأمازيغي للهياكل الحجرية كان كبيراً ، فدفنوا موتاهم تحت الصخور الناتئة في المرتفعات أو المنحوتات الصخرية القديمة ، مثل تلك الممارسات التي كان يتبعها الأنباط عند أداء الحجّ في الكعبة حيث الحجر الأسود المقدّس في مكة ليدفنوا الموتى من الحجّاج .

العلاقات مع مصر
تنبّه المصريون الى وجود قبائل شبه بدوية قوية كانت تستوطن المغرب الكبير منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وبعض تلك القبائل كان لديها نزاع ومعارك مع المصريين ، وأن معظم الأسر الفرعونية كانت نظرتها لهم سلبية جداً ، وأبرز هذه القبائل في تلك الفترة هما ( مشويتش ) و ( ريبو ) ، وأن الأخيرة هي التي اشتق منها المصطلح الروماني – اللاتيني ( البربر ) .
أمّا نظام الكتابة الهيروغليفية ، فقد تطوّر على أيدي الأمازيغ الأوائل ، وكان أسلوبهم في الكتابة مستمداً بوضوح من خلال المصريين الذين كانوا الأكثر تطوراً من هذه الناحية ، و تأثيرهم الثقافي الكبير في وادي النيل والعالم القديم ، بيد أن القرن الثالث قبل الميلاد قد شهد تحولا أدبياً لدى الأمازيغ ، فعند بداية كتابتهم للنصوص الخاصة ، كانت تستند بشكل رئيسي على الأبجدية الفينيقية .
لم يكن الأمازيغيون ينظرون إلى المصريين على أنهم خصوم لهم على الدوام ، وذلك لسبب حصولهم على قدر معيّن من الحماية منهم ، ولكن في القرن السادس قبل الميلاد، بدأ المستعمرون اليونانيون بترسيخ وجود أكبر في (ليبيا ) ( المقصود هنا جميع أراضي الشعب الأمازيغي ) من خلال تشييدهم مدينة القيروان ، (وليس كما هو شائع في التاريخ الإسلامي ، على ان من أنشأها القائد العربي المسلم عقبة بن نافع في القرن السابع الميلادي) . حسب ما كتبته المؤرخة سوزان وايز باور :
((” لم يكن ذلك الحال جيداً بالنسبة لشعب شمال إفريقيا.. فقد أرسلوا رسالة إلى مصر طالبين المساعدة ، و ( جعلوا أنفسهم تحت حماية الملك المصري أبريس Apries ). لذا أرسل أبريس جيشاً مصرياً فأهلكه اليونانيون ، إذ كان ، وبكلمات هيرودوت ، ” جيشاً مهزوماً تماماً إلى درجة أن أيّاً من أفراده لم يجد طريقه إلى مصر” . )) (ص 502) .

العلاقات مع قرطاج و روما
بحلول الوقت الذي تأسست فيه قرطاج تحت حكم الثالوثيين الفينيقيين في القرن التاسع قبل الميلاد ، انتقلت قبائل أمازيغية كثيرة من الصيد والرّعي إلى المجال الرّعوي الزراعي . فوجد السكان الأصليون عند المستعمرين الفينيقيين البحّارة ، بالضبط ما كانوا يبحثون عنه وهو (الشركاء التجاريون) . فعلى السواحل الافريقية أصبحت الزراعة سمة واضحة لدى شعب الأمازيغ والتي اعتمدت على الأرجح في زمن أبعد للتعامل مع شعب مصر وشعوب منطقة الهلال الخصيب .
كان أبرز مواطن التجمعات السكانية المستقرة للأمازيغ في القرن الثاني قبل الميلاد هما ، مملكة ( نوميديا )- ( تمتد من شرق جمهورية الجزائر وجزء من مساحة الجمهورية التونسية ، وأيضاً جزء من مساحة الجمهورية الليبية ) ، ​​و مملكة ( موريتانيا ) ( مملكة موريتانيا موري – وتمتد حدودها من غرب الجزائر وكامل مساحة مملكة المغرب الحالية ) ، ولم تكن هناك محاولات عسكرية جادة لإحتلالهما من قبل القرطاجيين باعتبارهما يمتلكان مساحات واسعة من الأراضي ويقعان خارج شبه الجزيرة التونسية ، علاوة على ذلك ، فلم يكن لساحل شمال إفريقيا تأثيراً كبيراً ومباشراً على وجود المستعمرين الفينيقيين في قرطاج . وهكذا تمتعت المملكتان الليبيتان نوميديان وموري طيلة فترة تاريخهما المشترك مع قرطاج بعلاقات تجارية مستقلة وناجحة .
النوميديون الأمازيغ كانوا أيضاً من السكان الأصليين في قرطاج نفسها ، فعمل الفينيقيون على استمالة طبقة النبلاء والتجار منهم في قرطاج ، وبدورهم قاموا باستغلال الأهالي بشكل رئيسي في القنانة والتجنيد العسكري . خلال هذا الوقت ، بدأ اليونانيون بمراقبة الأوضاع في شمال أفريقيا وممالكها ، حيث ألقوا المزيد من الاهتمام على قبائل الأمازيغ وعلاقتهم بقرطاج ، وكانوا هم أول من أطلق تسمية (الليبيون ) على شعب الأمازيغ .
كانت مملكة موريتانيا ( ماوري Mauri ) ، الواقعة إلى الشرق من شبه الجزيرة التونسية ، تتاجر بكثافة مع القرطاجيين في ساحل شمال أفريقيا تحت ظل قياداتها القبلية . [لا بد من الإشارة بأن المصطلح الروماني ( ماوري Mauri ) هو المصدر لمصطلح ( مورس Moors ) المستخدم في القرون اللاحقة بالإشارة إلى سكان شمال شرق أفريقيا ] .
انضمت القوات الماورية الى قوات ( ماسينيسا ) ملك مملكة نوميديا ​​(238-148 قبل الميلاد) خلال الحرب البونية الثانية ، فقد تم إختيار النوميديين في الصدارة ، وبالتالي شكّلوا نسبة كبيرة من سلاح الفرسان القرطاجيين خلال الحروب البونية . ومع ذلك ، تغيرت مكانة المملكة النوميدية بالنسبة لقرطاج بشكل كبير خلال الحرب البونية الثانية .
كان ماسينيسا ، الابن القوي لزعيم نوميديان وحليف قرطاج ، وعندما رأى المدينة المحصنة تفقد قوتها أمام قوات (سكيبيو ) في شبه الجزيرة الأيبيرية ، قرر اللجوء الى خدعة حلفائه القرطاجيين بانضمامه إلى القوات الرومانية في عام 206 قبل الميلاد. ونتيجة لذلك فإنه قد ضمن الدعم الروماني له في تولي عرش نوميديا ، ولم يكتف بهذا بل ساعد على هزيمة القرطاجيين في معركة (زاما Zama ) والتي جرى فيها القبض على قائد الجيش القرطاجي (هانيبال ) .

أنهى الانتصار الحاسم حرب البونية الثانية وأضفى الشرعية على نوميديا ​​كإقليم روماني ، وعلى الرغم من تقييد الإقليم سياسياً ، فإن تدخل الرومان في المفاصل الرئيسية والشؤون الداخلية لنوميديا في ظل حكم ماسينيسا ، أدّى إلى التقدم الحضاري والإنساني في مجتمع نوميديا الأمازيغي القبلي ، مع انتقال معظم المواطنين إلى أسلوب حياة مستقرة تماما في ظل تحول المجتمع بالكامل الى الزراعة ، واتجاه سياسة الاقليم بالمشاركة في مجال التجاري وعلى نحو متنام .
قبل سنتين من دحر قرطاج عسكريا عام 146 قبل الميلاد ، قررت الجمهورية الرومانية منح الشرعية لجميع زعماء القبائل النوميديين كحكّام أقاليم مستقلة على كامل أراضي مملكة نوميديا ، بمعنى تقسيم المملكة إلى دويلات منفصلة عن بعضها ، كي تضمن روما الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري لها في تلك المنطقة الاستراتيجية ، ولتحد من محاولة قيام اي حاكم ليبي بإنشاء إمبراطورية في شمال أفريقيا على حساب روما .
تم تجميع كل شمال أفريقيا تحت مسمى (أفريقيا بروكونسلاريس Africa Proconsularis ) . ومع ذلك فقد بذل رؤساء القبائل اللاحقين جهودا مضنية لتوطيد سلطاتهم في مناطقهم .
بعد قرن من انتصار الرومان في الحرب البونية الثانية ، قام زعيم احدى القبائل النوميدية و يدعى ( يوغرطة Jugurtha) وهو حفيد الملك ماسينيسا (160-140 قبل الميلاد) برشوة السلطات الرومانية لاحتلال عرش نوميديا واعلانها مملكة مستقلة بعيدة عن نفوذ روما، مما أدى إلى اشعال الحرب اليوغرطية الرومانية ، وهو أول صراع كبير بين روما و نيوميديا المستقلة. تم القبض على يوغرطة وإعدامه.. وبهذا استمرت نوميديا المسالمة تتبع سياسة روما وسلطتها حتى بروز ( يوبا الثاني – 85-46 قبل الميلاد) ، وهو الزعيم الذي وحد النوميديين والموريتانيين ضد قيصر روما .
هناك اعتقاد مرجّح لدى بعض المؤرخين ، بأن يوبا الثاني ، كان قلقا من احتمال جعل نوميديا أراضي محتلة من قبل روما بشكل مباشر بدلاً من دولة تدار بالوكالة ، لذلك تعاهد يوبا مع ( بومبيوس Pompeius ) بالحفاظ على الجمهورية خلال الحرب الأهلية الرومانية الكبرى ، وهو القرار الذي كلفه حياته في معركة ( تابسوس) 46 قبل الميلاد والتي انتهت بهزيمته في الحرب ، وكان من نتائجها قيام دكتاتورية القيصر الذي جعل نوميديا ​​كياناً سياسياً جديداً، وضمّها بالكامل الى روما كإقليم إفريقي (أفريكا نوفا) ، وبعد عدة سنوات أُعيد تسميتها وإعادة هيكلتها باسم نوميديا ​​(أفريقيا بروكونسلاريس) . خلال تلك السنوات من إعادة التنظيم وهيكلة الإمبراطورية ، فإن الذي جرى على نوميديا ، جرى على موريتانيا أيضا ، واللتان انضمّتا كإقليمين تحت سلطة القيصر .

كانت الهوية السياسية لنوميديا وموري الأمازيغيتان لم تتغير بشكل كبير خلال الفترة الرومانية ، وحتى لم يكن هناك أي تغيير يذكر في الروابط القومية بين القبائل ، على الرغم من أن زعمائها كانوا قادة مخلصين واوفياء للحكم الروماني . ولكن بعد ظهور الديانات الإبراهيمية المسيحية والإسلامية ، تغيرت أساليب وطبيعة حياة شعب الأمازيغ، وعلى الرغم من ذلك ، فإن العديد من تقاليده وأعرافه القديمة ظلّت قائمة ومزدهرة إلى يومنا هذا .

ينتشر الأمازيغ حاضراً في شمال القارة الأفريقية من المغرب غرباً إلى مصر شرقاً، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى نهر النيجر جنوباً. يتوزعون جغرافياً في المغرب (شمال البلاد ومنطقة الريف وجبال الأطلس) ، والجزائر (منطقة القبائل وشرق البلاد وشمال الصحراء الكبرى)، وتونس (جربة وتطاوين وشرق قفصة)، وليبيا (جبل نفوسة وزوارة)، ومصر (واحة سيوة)، ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا التي تتنقل عبر حدودها قبائل الطوارق .
وعلى الرغم ما تعرّض له هذا الشعب الأفريقي الأصيل لمختلف أشكال الإضطهاد والتشتيت ونكران حقوقه القومية في تقرير المصير ، إلاّ أنه مازال يكافح من أجل إسترداد حقوقه التاريخية والجغرافية المسلوبة في خضم الصراعات السياسية المضطربة في المنطقة …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لوسيان جوزيف بيرثولون ـ المستعمرات الأوروبية الأولى في شمال أفريقيا ـ فورغوتن للكتاب ـ آب /أغسطس 2018 .
كارلو أوتافيو كاستغلوني ـ الذاكرة الجغرافية والنقدية في الجزء الشرقي من مواطن البربر ـ فورغوتن للكتاب ـ آذار/ مارس 2018 .
ناحوم سلوش ـ مقدمة في تاريخ البربر ( الفهود الفينيقيون وثقافة اليهود ) ـ فورغوتن للكتاب ـ تشرين الأول/ اكتوبر 2017 .
هيرودوت ـ التاريخ ـ بنجن كلاسكس للنشر ـ أيار/ مايس 2003 .
سوزان وايز باور ـ من البدو الأوائل الى الامبراطورية الرومانية ـ ويل ترايند مايند للنشر ـ نيسان /أبريل 2006

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here