14 تموز 1958 – 14 تموز 2018 الاهداف والنتائج

د. حامد السهيل

ان الخلافات حادة فى توصيف حركة الضباط الاحرار 14 تموز 1958, هل هى ثورة ام انقلاب قامت به مجموعة منظمة من الضباط الاحرار الذين طوروا وعيا وحسا وطنياعاليا. كان النتيجه اسقاط النظام الملكى واعلان الجمهورية العراقية واستلام السلطة من قبل نخبة من الضباط, ومع السنين لم يبقى من الاهداف والطموحات الوطنية شيئا وتم اغتصاب السلطة من قبل جماعات وفئات ادعت الوطنية والقومية و حكمت البلاد وفق مزاجيات ووصفات سياسية ساقت البلد مع السنين الى حروب وكوارث وازمات لم تندمل اثارها ونتائجها لحد اليوم وقامت بتاسيس نظام تسلطى ارهابى عنيف كانت مهماته الحفاظ على استمرارية وادامة النظام الدكتاتورى.

ان العراقيين بعد ستون عاما, ما زالوا يحتفلون بـ 14 تموز الثورة/ الانقلاب سنويا انه يمثل لهم العيد الوطنى الحميم الذى ترتبط به السيادة الوطنية وامال المستقبل والتخطيط والبناء. ان ما تم انجازه فى السنين القليلة (4,5 سنة) ما زال ماثلا لحد الان وتم انجازه بسرعة كبيرة وغالبا بايدى عراقية, كما تم وضع خطط لبناء صناعة وطنية وصدر قانون الاصلاح الزراعى وتم تشريع قانون الاحوال المدنية الذى كان سابقا ومتقدما المرحله التاريخية, وارسلت البعثات الى اوربا وامريكا والاتحاد السوفيتى ….الخ. ان الذين عاشوا هذه السنين يعيشون ويتذكرون بشوق وحنين الفرحة والزعيم عبد الكريم قاسم والامل بالمنجزات الكبيرة فى الوقت الذى كانت امكانية الميزانية العامة ضعيفة جدا, ولكن الاخلاص بالعمل والارادة وتفاعل الشعب مع القيادة فجر امكانيات جديدة للعمل والابداع. ومع كل ذلك فان 14 تموز 1958 جاءت سابقة لاوانها ببضعة عقود, ان الاشكالية الكبيرة تكمن فى عدم تتطور ثقافة ورؤيا سياسية مستقبلية تنويرية من قبل القوى الوطنية والاحزاب السياسية وحتى لدى الضباط الاحرار عن العراق كدولة فتية وبأمكانيات مادية وبشرية محدودة ولذلك لم تستطيع تجاوز التحديات الداخلية والخارجية التى رافقتها وكانت محيطة بها: صراع القوى المحلية حول السلطة من ناحية ومطامع الاستعمار فى ثروات البلد وموقعة الستراتيجى فى اطار التكتلات التى حصلت فى سنين الحرب الباردة من الناحية الاخرى.

ان الدولة العراقية الفتية هى صناعة ونتاج الاستعمار البريطانى, ومع الاستعمار دخل العراق عصر الحداثة وتعرف لاول مرة على التكنلوجيا الحديثة واساليب الادارة والتنظيم

وخاصة فى المجال لعسكرى, هذا يعنى ان الدولة الفتية لم تكن من نتاجنا وذلك بعد اكثر من اربعة قرون من الاستعمار العثمانى, مما لاشك فيه فأن هذه الدولة فى تنظيمها وحركتها ومستقبلها تحدده بريطانيا, فقد جاءت بملك من الحجاز وتشكلت حكومة من الاغلبية السنية بعد ان رفض قادة الشيعة العمل مع المستعمر او انهم ما زالوا يفكروا بالوحدة الاسلامية. وتكون نظاما للحكومة والدولة, شكليا ومستنسخا, عن النظام الديمقراطى الانكليزى ولكن بدون الفاعلية على التشريع ومراقبة الحكومة. كانت الحكومة العراقية تتقدمها شخصيات تلقوا تعليمهم وخبراتهم فى الجيش او الادارة العثمانية, وكان هؤلاء, مع كل وطنيتهم واخلاصهم, يخضعون بشكل مباشر وغير مباشر الى السفارة البريطانية التى هى فى نهاية الامر صاحبة القرار, على الاقل فى القضايا الاساسية . ان القوى السياسية, احزاب الدولة, حزب الاتحاد الدستوى ورئيسه العتيد المرحوم نورى السعيد وحزب الاستقلال بزعامة السيد مهدى كبة والحزب الوطنى الديمقراطى بقيادة كامل الجادرجى بالاضافة الى حزب البعث العربى الاشتراكى, كانت هذه الاحزاب متفقة مع الخط العام لسياسة الحكومة وان كانت لها خلافات فى التفاصيل والاولويات. ان الحزب الوحيد الذى كان غير مسموح به ويعمل يعمل سريا هو الحزب الشيوعى العراقى الذى يحمل نظرية الاشتراكية العلمية وله ستراتيجية مغايرة وكان النموذج الذى يطمح الية ويأمل فى تحقيقه هو اشتراكية الاتحاد السوفيتى.

فى اطار الافاق الضيقة التى كان العراق يتحرك من خلالها ومع الامكانيات البشرية والمادية المحدودة, كان نفوس العراق حوالى 6 مليون, فقد تجاوز العراق كثيرا من الصعاب والاهم من ذلك توفر الارادة السياسية فى الاخذ بالتخطيط العلمى. كان العراق الى سنة 1958 اكثر دول الشرق الاوسط تقدما, فقد دخل التلفزيون واستخدم علاج الامراض بالنووى وتطور نظام الخدمات الصحية وكان نظام التعليم فى جميع مستوياته رفيعا متطورا وكانت شهادات الكليات العراقية معترف بها من قبل الدول الاوربية المتقدمة وكان هذه الكليات قبلة الطلبة العرب وبشكل خاص الكلية العسكرية. كان العراق يشكل الحداثة بشكلها المتطور بالنسبة للكثير من الدول العربية وخاصة دول الخليج

مما لاشك فية فقد كانت فرص العمل نادرة والفقر يحس به الانسان خاصة فى الريف العراقى وعدم توفر العدالة الاجتماعية, كما كانت اضرابات العمال فى مناطق استخراج النفط والمعامل فى بغداد بالاضافة الى اضرابات ومظاهرات الطلبة ضد مشاريع الاستعمار والاوضاع الاجتماعية/ الاقتصادية لم تكن جيدة ولكن لم تكن تنذر بعواقب وخيمة وانفجار فى الوضع العام وحتمية التغيير كما يؤكد د. عبد الخالق حسين (انظر د. عبد الخالق حسين, حتمية ثورة 14تموز, الاخبار, فى 17. 7. 2010 . الاخبار جريدة يومية عراقية تصدر فى الانترنت). لم يكن النظام الملكى ديمقراطيا مثاليا ولكنه لم يكن نظاما بوليسيا قمعيا ارهابيا. ان التحقيقات الجنائية, المؤسسه التى تماثل الامن العامة والمخابرات بناية بسيطة على شاطىء دجلة فى شارع النهر.

كان للحزب الشيوعى العراقى دورا فاعلا فى نشر وعى وطنى تجاوز الى حد كبير مستوى تطور قوى الانتاج وخلق حالة من الرفض والاتهام بكل ما تقوم به الدولة ويرجع اهداف المشاريع الاروائية والسدود وطرق المواصلات الى خصوصيتها العسكرية الموجهة ضد الاتحاد السوفيتى, كما انه وقف ضد مشروع الاستثمارات الاجنبية وحتى فى قضايا التربية والتعليم فى المدارس للاحداث ونظام ” الكشافة” لانه يقوم على التربية العسكرية الموجهة ضد السلام العالمى, كانت هذه السياسة فعالة الى درجة كبيرة واستطاع الحزب فى التاكيد على الاشتراكية وارجحيتها والتقدم الذى حصل فى الاتحاد السوفيتى فى سنين قليلة ان يجد صدى كبيرا بين جماهير واسعة من مختلف الشرائح الاجتماعية. كان انعكاس فعل ايديولوجية الحزب, البسيطة جدا ومعقولة وتبعث على الامل فى “وطن حر وشعب سعيد” مغرية جدا الى اندفاع الشباب وخاصة ابناء الطبقة الوسطى للانظمام الية, انها كانت كالسحر الذى لا يقاوم والغرام الاول فى مجتمع تحكمة “الاصوليات”الاسلامية.

لقد كان هذا التحشيد الاعلامى وتكفير الحكومة بكل ما تقوم به قد خلق حالة تعبوية قوية جدا قد قادت الى انفصمام العلاقة بين الشعب والحكومة والتى كانت لها عواقب وخيمة فى سلوك الافراد وتخريب انجازات حضارية فى المدينة دون التفكير بانها ملكية الشعب وفى خدمته. هذة التعبئة الجماهيرية الرافضة قد شملت ايضا القوات المسلحة والتى اخذت تتصاعد بقوة عندما جاء مشروع حلف بغداد والارتباط العسكرى بالغرب الذى اخذت الولايات المتحدة الامريكية قيادته, هذا بالاضافة الى ثورة/ انقلاب الضباط الاحرار عام 1952فى مصر والحرب العدوانية عام 1956 من قبل بريطانيا, فرنسا واسرائيل على اثر تأميم قناة السويس. كان الضباط الاحرار العراقيين عسكريين محملين بالمشاعر الامال الوطنية, ولكنهم لم يكونوا قد وحدوا مواقفهم السياسية وتصوراتهم لبرامج عمل وتنمية, وبشكل خاص موقف هذه الدولة والحكومة الجديدة من العلاقات والاحلاف الدولية ومصالحهم فى العراق, لذلك ظهرت الانقسامات بسرعة واخذت التوجهات الطائفية موقعها فى الصراع بين الضباط الاحرار وبين الحزب الشيوعى وحزب البعث التى قادت الى فوضى عارمة وتصاعد الارهاب والعنف المتبادل ومن ثم الانقلاب الذى قام به القوميون والبعثيون بقيادة عبد السلام عارف واخيرا نهاية 14 تموز فى عام 1963 والجرائم البشعة التى اقترفها الحرس القومى. ان الحزب الشيوعى يتحمل مسؤلية كبيرة فى تكوين ونشأة حركة الضباط الاحرار وفشله الذريع ان يكون له موقعا مؤثرا فى مجلس الوزراء واندفاعه فى رفع الشعارات المدوية دون ان يكون فاعلا بها, هذا بالاضافة الى عدم حماية اعضائه وجماهيره والشروع بمبادرات فعلية, لقد احترفوا الشعارات والمشاعر الجميلة.

ان السؤال, انذاك قبل وبعد 14 تموز وحاليا ايضا, امكانية استقلال القرار السياسى وتجاوز قرار ومصلحة القوى الاستعمارية, هذا الموضوع يشكل اهمية كبيره وستراتيجية بالنسبة لمسيرة الدول التى عاشت الحقبة الاستعمارية, وتحاول الان التخلص من هذا الارث الاستعمارى الرهيب. انى اطرح السؤال, هل كان ممكنا انذاك التخلص من هذا الارث, وقد لمسنا ذلك مباشرة فى محاولة الزعيم عبد الكريم قاسم ايجاد حلا للثروات

النفطية التى تسيطر عليها الشركات البريطانية وانحسار نشاطها فىمساحة وابار محدودة وعدم السماح للعمل بمواقع اخرى بما يمكن ان يقدم ايرادات ملحوظة للدولة العراقية. منذ هذه المباحثات بدأ التخطيط للانقضاض على الثورة وكان امكانيات مادية وبشرية محلية جاهزه لتنفيذ المخططات. ان النتجة مدمرة بكل المقاييس وما جاؤا به عام 1968 كان نموذج القائد الضرورة والذى سخر قدرات العراق بمختلف الاساليب والاشكال فى تدمير العراق والمنطقة بشكل عام. بعد الاحتلال الامريكى وحكومة المحاصصة وانتماءاتها القومية والدينية عجلت فى عقد اتفاقية مع امريكا لترحيل القوات المسلحة الامريكية, فى حجة واهية كاذبة للمحافضة على السيادة الوطنية. لقد قدموا خدمة كبيرة لامريكا ونزعوا عنها مسؤليتها فى امن العراق وفسح المجال واسعا لتركية وايران للتمدد فى العراق فى الوقت الذى كانت الاوضاع الامنية مضطربة جدا. ان نتيجة هذه المؤامرة هو استمرار الفوضى والفساد الحرب الشعبية ما زالت قائمة ولكن بشكل اخر.

نعود الى السؤال ثانية, اننا نعلم جيدا الابعاد الكارثية لموقف الرفض والصدام مع الاستعمار, ولكن ماذا كان يمكن ان يحصل اذا استمر الوجود البريطانى والاحلاف العسكرية (نظريا) والمسيرة”البطيئة الهادئة” فى التنمية والتخطيط العلمى وعملية تراكم كمى ونوعى تفرز بالضرورة حاجة ماسة الى علاقات مجتمعية جديدة, ليس بالضرورة تغيرات مجتمعية جذرية وانما فى تقوية وتنمية الطبقة الوسطى وتحسين اوضاع العمل والعمال وتحقيق اصلاح زراعى وتنمية العقلانية والعقل العلمى.

نحن نسال فى هذا الاطار, ماذا خسرت تركيا من ارتباطها بالغرب وبمشاريعه العسكرية, هل وصول تركيا الى ما وصلت اليه كدولة متقدمة صناعيا وزراعيا وعلميا ان يحصل ذلك فى موقف عدائى مع الغرب, ام انه حصل بالتفاعل من قبل قيادة سياسية وطنية تركية مدركة واستعداد الغرب للعمل معها لاهميتها الستراتيجية وكسبها كشريك.

فى الختام لابد من الوقوف وبشكل علمى وعملي على قدراتنا الذاتية ومحدوديتها, وان النخب الحاكمة التى اغرقت شعوبنا بالشعارات الحماسية والمشاعر الوطنية والقومية دون فائدة تذكر وانما على العكس عملت على بروز حالة مرضية خطيرة من تضخم الانا الفردية والجماعية والحلم الجميل بأيام زمان وحالة العجز والاحباط والدونية.

د. حاند السهيل/ بون فى 13/ 7/ 2018

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here