أوراق بغداد…2

د. اكرم هواس
قبل كل شيء اود الاعتذار عن التأخر في مواصلة هذه السلسلة لانشغالي بتطورات الأوضاع المتلاحقة في الشرق الأوسط و بشكل خاص فيما يتعلق بالعراق…

في نهاية المقالة السابقة تطرقنا الى دور الشركات الأجنبية في استنزاف الطاقة العراقية … و في هذه المقالة اود التركيز على اشكالية التعليم في العراق و التي أضحت مؤشراً على دوامة العجز ليس فقط في الواقع السياسي و الاقتصادي و إنما ايضا في الواقع الاجتماعي حيث يبدو ان العلم و التعليم قد فقد قيمته الثقافية كما هي الحال بالنسبة الى قيمته الوظيفية في سوق العمل … حتى لا نتحدث أساسا عن استراتيجيات التنمية و التي لابد للتعليم ان يحظى لمكانه خاصة فيها ..

ارجو ان يتحملني الأعزاء في المؤسسات التعليمية المختلفة … لكن الاشكالية تتجاوز الامكانيات المحلية و اعتقد ان الاستثمار الأجنبي في السوق التعليمية العراقية لعب دوراً أساسياً في تعطيل قيمة التعليم و تحوله الى مجرد هواية او “گعده” في احد المقاهي الشعبية في مناطق بغداد العتيقة التي لا تعرف النخبة الحاكمة شيئا عنها ( ستكون احدى المقالات عن تلك المناطق في بغداد القديمة)..

في لحظة ما تبدو الأشياء متناقضة الى حد كبير … بالاضافة الى مدارس الدولة و جامعاتها الرسمية هناك انتشار واسع للجامعات الخاصة و المدارس الاجنبية التي تجدها في كل حي و شارع… لكن هذه المؤسسات “التعليمية” لا تعدو اكثر من سوق استثمارية تزيد من أرباح الاوليغاركية او “دكاكين” ايديولوجية للمعلقات الطائفية السياسية و الدينية و الاثنية و غيرها..

في جولاتي اليومية في بغداد و لقاءاتي الكثيرة مع الشباب (نساء و رجالا) لمست بشكل واضح الحالة المزرية لقيمة التعليم و مفهومه … هناك نسبة عالية من الشباب صغار السن تركوا المدرسة لمجرد انهم اصبحوا يدركون ان التعليم لم يعد بوابة للحصول على وظيفة … كما ان هيمنة المجموعات السياسية المطبقة على تطور الحياة اليومية لم يترك للمتعلمين اية مكانة اجتماعية معتبرة و لا اية فرصة حقيقية للارتقاء الاقتصادي دون المرور من خلال البيروقراطيات الحزبية و منظومة الفساد التي تشكو الحكومة ذاتها منها..

ربما تعود جذور هذه الاشكالية بشكل جدي الى فترة الحرب العراقية الايرانية حيث تحولت المدارس و الجامعات الى معسكرات للجيش الشعبي و صوامع لشرعنة احادية الحاكم و الحزب القائد… ثم ما فتأت ان تفاقمت المشكلة بعد حرب الكويت و خلال السنوات العجاف قبل دخول برنامج النفط مقابل الغذاء نهاية 1996… في هذه الفترة اندحرت القاعدة الاجتماعية بسبب الجوع و الفقر و تفككت الأواصر و فقدت القيم الثقافية قوتها في مسار التطور الاجتماعي و حلت محلها الانانية و الذاتية المفرطة و التي تحولت الى قوة طاغية في البنى السايكولوجية للفرد و القوى السياسية و الاقتصادية في المجتمع…

بكلام اخر … اصبح الاغتراب النفسي و الاجتماعي حالة عامة يرزح الجميع تحت وطئتها و لا شك ان التقاطعات المريرة و الدموية بالاضافة الى فقدان الثقة و صعوبة التوافق على اية قواسم مشتركة و بالتالي انتشار الفساد و اللا مبالاة تعكس هذه الحالة … (لا اريد الخوض كثيرا في هذا الموضوع حيث يمكن العودة الى مقالاتي العديدة و منها ما تعلقت بأسباب ظهور داعش و غيرها و سأناقشها ايضا في مقالة مقبلة عن محاضرة القيتها في جامعة المستنصرية خلال زيارتي )… لكن ما يهمنا هنا هو موضوع التعليم الذي لم ينل اهمية خاصة لدى حكومات ما بعد سقوط النظام السابق بل يبدو ان أمره قد ترك للظروف وفق منهج “ليبرالي” … او هكذا تخيل البعض… او ربما حالة من العولمة شأنها شأن السياسة و الاقتصاد حيث تطغى حالة من الضبابية التي لا يمكن معها الفصل بين الخيط الأبيض و الخيط و الأسود … اي لا يمكن معرفة ان كان هناك تعليم او لا تعليم في عراق الحضارة … وضع المدارس يعمه الفوضى و الاحباط ينخر في ألباب طلبة الجامعات و عقولهم حيث المناهج ما تزال بدائية و لا احد يجرؤ ان يفكر في إيجاد جواب للتساؤل المنطقي “لماذا ادرس..؟؟..”…

حتى نكون اكثر واقعية لابد من التذكير بحقيقة ان قضية التعليم تشكل تحدياً دائما في كل المجتمعات بما فيها الاكثر تقدماً في العالم بسبب التطور التكنولوجي المتسارع و النمو المضطرد في الأفكار و النظريات مما يستدعي اعادة بلورة استراتيجيات التعليم بشكل مستمر…

اما في دول العالم الثالث و خاصة في الشرق الأوسط فقد تحولت المشكلة الى دوامة يصعب الخروج منها بسبب نقص الامكانيات و هيمنة المسلمات المنهجية التي تحولت بفعل التراكم التقليدي الى ما يشبه المقدسات الطاردة للتغيير … و ازاء هذه الحال فان الممكن عمله قد يرتكز على اعادة تكييف الامكانيات بما بتوافق مع الواقع و محاولة التقليل من الانجراف وراء اليات الفساد و السوق العولمية …

المجتمع العراقي عانى من عوامل كثيرة و أزمان طويلة من التشوش و عليه فان التعليم يحتاج الى خطط واضحة لخلق ارضية أولية للبدء من جديد… حبي للجميع

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here