لماذا البلدان البروتستانتية أغنى من البلدان الكاثوليكية والأرثوذوكسية؟

Attachment thumbnail
إيهاب مقبل

 يمكن للمرء ملاحظة أن أمريكا الشمالية ذات الغالبية البروتستانتية أغنى من أمريكا الجنوبية ذات الغالبية الكاثوليكية. وكذلك، يُمكن في أوروبا ملاحظة أن بريطانيا ذات الغالبية البروتستانتية أغنى من إيطاليا ذات الغالبية الكاثوليكية ومن اليونان ذات الغالبية الأرثوذوكسية. وإذا نظرت إلى قائمة البلدان العشر التي يتمتع أفرادها بأعلى دخل لسنة 2019م، فسترى أن أربعة من هذه البلدان «النرويج وأيسلندا والدنمارك وأمريكا الشمالية» هي في الواقع بلدان ذات غالبية بروتستانتية، مُقابل ثلاثة من البلدان «لوكسمبورغ وسويسرا وأيرلندا» ذات الغالبية الكاثوليكية، بينما تختفي البلدان الأرثوذوكسية، كروسيا الغنية بالثروات الطبيعية، من صدارة القائمة. ويُوزع المسيحيون على ثلاث فرق رئيسية، هي بحسب الترتيب من حيث النسب المئوية: «الكاثوليكية 50%، والبروتستانتية 37%، والأرثوذكسية 12%». والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا البلدان البروتستانتية أغنى من البلدان الكاثوليكية والأرثوذوكسية؟

 

هناك في الواقع العديد من الأسباب التي جعلت من البلدان البروتستانتية أو البلدان ذات الخلفية البروتستانتية أغنى من البلدان الكاثوليكية والأرثوذوكسية، ولعل في مقدمتها «التعليم»، وذلك لأن هدف الإصلاح البروتستانتي، الذي قاده الراهب الألماني مارتن لوثر ضد الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي، يتمحور أساسًا حول محو الأمية، بهدف تشجيع الناس على قراءة «الكتاب المقدس»، بينما كان رجال الدين في البلدان الكاثوليكية والأرثوذوكسية هم فقط من يحددون حدود التعليم، وضمن تقليد الكنيسة المعلّمة النابع من اللاهوت. ولذلك، بلغَ معدل الإلمام بالقراءة والكتابة في القرن الثامن عشر الميلادي نحو 70% من التعداد الإجمالي لسكان بريطانيا البروتستانتية، بينما لم يبلغ معدل الإلمام بالقراءة والكتابة في إسبانيا الكاثوليكية في تلك الفترة سوى 10% فقط.

 

كما سمحت البروتستانتية بحرية «العلوم»، كالرياضيات والفيزياء والطبيعة والفلك، بدلًا من اعتبار سفر التكوين والنصوص المقدسة الأخرى مصدر الإلهام الوحيد للعلوم، ولذلك قادت بريطانيا البروتستانتية الثورة الصناعية في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي. فلا عجب إذا أنجبت البلدان البروتستانتية العديد من العلماء بالفطرة، فهي لم تسجن العلماء، ولم تحرقهم في الساحات العامة، وهم أحياء، بتهمة السحر أو الزندقة.

 

وتدعوا البروتستانتية إلى تقديس «العمل»، بجودةٍ وأخلاقٍ، وحجتهم عادةً نابعة من سفر التكوين: «وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها»، 2: 15، بينما تعتبر البلدان الكاثوليكية والأرثوذوكسية العمل، عقوبة أرضية من الرّب عندما تم طرد آدم من الجنة.

 

وتحظر البروتستانتية «الكذب» و«السرقة»، وتعدهما خطيئتين خطيرتين للغاية، لأنهما قدْ ذُكرا في الوصايا العشر بجانب القتل. ولذلك، في أمريكا الشمالية، يُزج بالسياسي في السجن إذا حرر شيك بدون رصيد أو إذا تعدى على الملكية العامة أو الخاصة، بينما يسقط الكذب في فضاء «الخطيئة الوريدية» في إيطاليا الكاثوليكية، لدرجة عدم القدرة على الوثوق بأي سياسي أو إداري أو مالي في تلك البلاد، إما السرقة فهي مباحة للسياسيين في روسيا الأرثوذوكسية بشرط الولاء للكرملين. وعلى هذا النحو، تتصدر البلدان البروتستانتية، كالدنمارك وفنلندا والسويد، قائمة «مؤشر مدركات الفساد»، لضمان عدم إساءة استغلال السلطة من قبل الموظفين والسياسيين.

 

وتجد في البلدان البروتستانتية التزامًا واضحًا بـ«الحرية»، وفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكذلك فصل كنيسة الدولة، وتقسيم الصلاحيات بحيث تكون موازنة لها. وعلى النقيض من ذلك، غرقت البلدان الكاثوليكية في جنوب أوروبا في عدد لا يحصى من الملكيات المطلقة والحروب الأهلية والانقلابات التي حكمتها بالفقر والتخلف. ولايزال الفاتيكان آخر ثيوقراطية «حكم الكهنة» في أوروبا، حيث تحاول الكنيسة الكاثوليكية لحد اليوم وضع السلطة المدنية تحت ملابس السلطة الدينية، بينما تعمل الكنيسة الأرثوذوكسية في روسيا، ومنذ انهيار الإتحاد السوفيتي السابق سنة 1991م، على إعادة فرض هيمنتها على الدولة بهدف إعادة «أمجاد دوقية موسكو الكبرى».

 

وما يميز البلدان البروتستانتية عن البلدان الكاثوليكية والأرثوذوكسية، هو اعتمادها على الذات، فقدْ اثبتت التجارب في الحياةِ أن الاعتماد على الذات هو الطريق الذي يؤدي إلى النمو الإقتصادي أكثر من التسلسل الهرمي «البابوات والبطاركة والأساقفة والكرادلة» في الكنيسة الكاثوليكية أو درجات الكهنوت «البطاركة والأساقفة والقساوسة» في الكنيسة الأرثوذوكسية، والمرهونينِ بفكرة أن «رجال الدين يعرفون كل شيء بشكل أفضل، فلا تهتم بالتفكير بنفسك، بل ثق بالسلطات ورجال السياسة».

 

وأخيرًا، لابد من الإشارة إلى أن المقصود ليس الزعم بأن البروتستانتية أفضل من الكاثوليكية والأرثوذوكسية، بل هي مقارنة بين سيء وأسوأ، بما فيها من ايجابيات تُحسب للبروتستانت، وسلبيات تُحسب على الكاثوليك والأرثوذوكس، وذلك لأن البلدان البروتستانتية قدْ سمحت على سبيل المثال لليهود بالسيطرة على معظم البنوك والمصارف، مما نجمَ عنها ديون وفوائد مالية خيالية، أدت في كثير من الأحيان إلى إفلاس العديد من الأبرياء في هذه البلدان.

https://4.top4top.net/p_13093nq1x1.jpg

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here