فنون العراق الجميلة – الموسيقى والغناء

* د. رضا العطار

يمكن القول ان عدة مغنين في بغداد قد بشروا بصناعة جديدة للغناء وتقاليده وفيها الابتعاد عن اصول الاقدمين وتعاليمهم الكبرى. كان هؤلاء في بغداد، مغنيان شهيران: احدهما ابن جامع المكي المتوفي عام 188 للهجرة وهو من اصل عربي يغني غناء حرا، والثاني ابرهيم المهدي ت عام 225 للهجرة ، شقيق هارون الرشيد وعم الامين والمامون، وقد اشتدت روح المنافسة بين اسحاق الموصلي وبين ابراهيم المهدي، اذ تمنع الاخير بصوت آسر، عميق الوقع قوي النبرات فصيح النطق، بارع في الغناء والموسيقى فعظم شانه في عاصمة العباسيين على الرغم من فضيحته التي اثارها في الاوساط الدينية جراء اشتغاله في الغناء. ولقد قيل في صوته النوادر حتى اسمعنا التاريخ ( ان الحيوانات كانت تقترب منه وتمد اعناقها وقد طربت لصوته )

وكان لدخول ابراهيم المهدي ساحة الغناء وهو من نسب عربي كريم يشكل تحديا للفن الذي يمتهنه اسحاق وتلامذته. وقد ردّ ابراهيم المهدي قائلا :
( انا ملك ابن ملك اغني كما يطيب لي واختار من الغناء ما تستطيبه نفسي، فانا امارس الانشاد بغية الطرب وليس للكسب المادي، اغني لنفسي وليس للأخرين )
ورغم شحة المصادر التي توميء الى الاختلافات الجوهرية بين فن ابراهيم المهدي وفن اسحاق الموصلي غير انه يمكن القول ان ابراهيم المهدي سعى الى مغايرة تقاليد الغناء الموروثة. فالغى اقساما وابقى اخرى ولم يلتزم بقواعد الايقاع بل انه ادخل تعديلا لها ولا نرى في هذا الفعل التطويري الذي قاد اسحاق الموصلي الاسماع اليه ضعفا في الثقافة الموسيقية ولا تقصيرا في المهنة انما هو في احسن الاحوال يشكل فتحا جديدا امام الموسيقى العراقية في العصر العباسي، لان تكون اكثر تحررا من اشكالها ولكي تقترب من الروح الرومانتيكية الباحثة عن الجديد من فنون الغناء والتلحين.

ورغم اختلاف وجهات النظر التاريخية بشان قيمة هذه التطور النوعي الذي احدثه ابراهيم المهدي وابن جامع، فان الراي العام البغدادي بشهادة الاصفهاني في كتابه الموسوعي (الاغاني) عندما يكتب ملمحا الى ابراهيم المهدي فيصف المغنين الجدد (بانهم افسدوا الغناء ورغبوا في ان يقرب عليهم مأخذه ويكرهون ما ثقل ادواره ويستطيلون الزمان في اخذ الغناء الجيد على حريتهم بقصر معرفتهم وقد تبعهم جاهلون لم يعطوا الغناء الوقت والجهد اللذين يتطلبهما)

بيد ان المؤرخ الكبير الاصفهاني يعترف بان الاصول التقليدية في ذلك الوقت (القرن العاشر) قد منيت بعدة تشويهات، ثم يعدد لنا اسماء مؤسسي المدارس الغنائية العديدين فنجد بينهم مقلدين لأبراهيم المهدي وآخرين لأسحاق الموصلي.
لقد بقى اسم اسحاق الموصلي يلمع باهرا في تاريخ الموسيقى العراقية والعربية وان اجيالا من الموسيقيين والمغنين وعلى وجه الخصوص في بغداد وربما حتى ايامنا هذه تنتسب الى فنه العظيم. ويوم رحيله قدرت اعماله بابعمائة صوت وهو رقم لم يقف موقفا الند مع تركة ابيه الضخمة، غير ان اسحاق كان يفتخر بنتاجه المحدد ويصيح في وجه ناقديه ( انما انقر في صخرة ) ولم يكن الخليفة المتوكل ذلك العالم بملامح الخصائص الجمالية للموسيقى، غير انه قال عند وفاة اسحاق الموصلي ( اليوم ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته )

* مقتبس من كتاب حضارة العراق لعادل الهاشمي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here