خفاياه ما زالت حبيسة الأدراج.. القصة الكاملة للإيدز في العراق

علي الرسولي-بغداد

كل شيء يمكن تسخيره سلبا أو إيجابا، الدواء مثلا، فبدل أن يكون علاجا لمرض ما، يساء استخدامه أو يكون غير مطابق لشروط السلامة الصحية، أو يكون التعاقد مع شركة أدوية عالمية دون إخضاع عينات من تلك الأدوية للرقابة النوعية، فإنه حتما سيفتك بمتعاطيه.

الحديث هنا يدور عن تعاقد وزارة الصحة العراقية في ثمانينيات القرن الماضي مع شركة “ماريو” الفرنسية لتوريد الدواءين فاكتر 8 وفاكتر 9، اللذان يعملان على تخثر الدم لمرضى الهيموفيليا.

دم ملوث
وفي العام 1986 دخلت مجموعة من مرضى الهيموفيليا إلى مستشفيات بغداد لتلقي العلاج الفرنسي الذي استوردته وزارة الصحة من شركة ماريو المنتجة لهذه الأمصال، لكن سرعان ما تحولت إصاباتهم إلى مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، فبدؤوا يموتون الواحد تلو الآخر.

واتضح فيما بعد أن الشحنة التي أرسلتها الشركة الفرنسية كانت محملة بدم ملوث بفيروس الإيدز، فسجل العراق في العام نفسه أول إصابة بهذا المرض، في وقت لم يكن يمتلك حينها أي برنامج خاص بعلاج هذا المرض، فتفشت العدوى بين المرضى الذين نقل إليهم الدم الملوث.

وأشار صالح الحسناوي وزير الصحة العراقي الأسبق في تصريحات خاصة للجزيرة نت إلى أن الأمصال التي صدرتها هذه الشركة أصابت 286 شخصا بالإيدز، قامت الحكومة العراقية حينها بالتعتيم عليهم عبر حجزهم في مستشفى التويثة جنوب شرقي بغداد، لأكثر من 10 أعوام ومنعت زيارتهم، فمنهم من توفي نتيجة المرض ومنهم من انتحر وآخرون أصيبوا بالذهان.

ويضيف الحسناوي أن “الحكومة تكتمت على هذه القضية، وأعلنت عبر وسائل الإعلام خلو العراق من مرض الإيدز” في وقت كان البلد قد سجل أول إصابة بالمرض في تاريخه.

هذا الملف تسبب بفضيحة هزت أرجاء فرنسا وأطاحت برؤوس سياسية، من بينهم رئيس البرلمان الفرنسي وقتها لوران فابيوس، ووزيران سابقان أدينوا سنة 1999 أمام محكمة العدل الجمهورية في باريس.

أما تونس وليبيا والمغرب والأردن والبرتغال واليونان والأرجنتين التي كانت قد استوردت هذه الأمصال، فقاضت الشركة وتحصلت على تعويضات مالية بمئات الآلاف من الدولارات.

وأعلنت الشركة الفرنسية بعد دفع التعويضات للبلدان المتضررة إفلاسها، واشترتها أخرى تدعى سانوفي باستور.

مفاوضات متأخرة
لكن العراق، وبحسب الحسناوي، لم يرفع دعوى في ذلك الوقت، ولم يعلن كذلك أنه استورد أدوية من هذه الشركة وهي محملة بفيروس الإيدز، لكن بعد 2003 أثيرت هذه القضية وأخذ رئيس جمعية الهلال الأحمر العراقي هذا الملف على عاتقه بموافقة الحكومة، وجمع توكيلات من المرضى الذين بقوا على قيد الحياة ومن ذوي المتضررين وذهب إلى باريس للتفاوض بشأن التعويضات، لكن من دون جدوى.

وفي عام 2009، كشف الحسناوي عن تشكيل لجنة حكومية بناء على طلب من وزارة الصحة ضمت ممثلين عن الوزارة وممثلين قانونيين عن الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وذهبوا إلى فرنسا والتقوا بالشركة، لكن اتضح فيما بعد أن كافة العقود الموجودة لدى الشركة الفرنسية بهذا الشأن أتلفت قبل 2003، وطالبت الشركة اللجنة العراقية بتقديم إثباتات أن المصابين العراقيين بالإيدز كان بسبب استخدام العقاقير التي صدرتها عام 1986.

وفي المقابل، عادت اللجنة العراقية، وفقا للحسناوي، وقالت إن “كسب هذه القضية عبر المحاكم أمر صعب” لكن الأمر لم ينته إلى هذا الحد، إذ جرى تحريك هذه القضية مرة أخرى من قبل قوى المجتمع المدني في فرنسا، وجاؤوا إلى العراق وجمعوا معلومات عن القضية لكنها لم تثمر عن أية نتائج.

تحرك نيابي
اليوم وبعد 33 عاما، تعتزم لجنة الصحة والبيئة في البرلمان العراقي إعادة فتح ملف “الفيروس الفرنسي” الذي ورِّد للعراق، وإيجاد صيغة حل يمكن أن يعود بالفائدة على عائلات المتضررين منها.

لكن ناشطين وذوي الضحايا تساءلوا عما إذا كانت اللجنة ستفقد هذا العزم كسابقتها وتبقى خفايا الملف في الأدراج وموضوعة على رفوف استعادة حقوق العراقيين، وهل ستتوفر العلاجات اللازمة لمكافحة فايروس أخذ بالانتشار بعد أن كان العراق من البلدان ذات الوباء المنخفض لمرض الإيدز، وفقا لمنظمة الصحة العالمية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here