وفات القطار

وفات القطار
“أصبح عمرك 25 عاما، لن يتقدم إليك أحد بعد الآن.. ماذا تنتظرين”
” سأتزوج بمن يختاره عقلي وقلبي حتى لو أصبح عمري اربعين عاما ”

رؤية إجتماعية / علياء الانصاري
” أمي تقول لي دائما: أصبح عمرك 25 عاما، لن يتقدم اليك احد بعد الآن.. عليك ان تتزوجي “.
هذا ما قالته (أيناس)، وهي تبكي..
يفكر الأهل بأن الفتاة إن كبرت في العمر ولم تتزوج فهذا يشكل معضلة حياتية او مصيبة تحل بالأسرة..
يعتقد غالبية الناس أن على الفتاة الموافقة على أي عريس يتقدم عليها بغض النظر عن رغباتها، أحلامها، ماذا تريد، المهم ان تتزوج، لأن الزواج غاية مقدسة يجب ان تدركها الفتاة، ومن لم تحظى بفرصة زواج، فهذا يعني ان القطار قد فاتها.. ولكن أيُّ قطار؟
كما ينمط المجتمع، الفتاة التي يتأخر زواجها وتصل الى ما بعد منتصف العشرين من عمرها، بمكانة (العانس)!!
يا ترى ماذا يعنون بالعنوسة؟ عنست عن ماذا؟
ولماذا تعتبر المجتمعات هذه الكلمة، توهين للفتاة وتقليل من شأنها أو حظها؟ هي مفردة حالها حال مفردات اللغة الاخرى، هي كمفردة لا عيب فيها، ولكن نمطية تفكير المجتمع تجاه الفتاة التي (أسنّت ولم تتزوج)، هي التي أوحت بسلبية هذه الكلمة وتأثيرها غير الحسن على نفسية الفتاة.
تقول (فاتن البالغة من العمر 40 عاما ولم تتزوج): ” دائما ما يعيرني الأهل والمقربون بكلمة (عانس)، اسمعهم يتهامسون بها من وراءي، هذه العانس.. نعم أنا عانس.. ولكن ليس بيدي، لم يكن هذا خياري.. ما ذنبي ان لم يتقدم لي أحد؟!! ولم أحظى بفرصة زواج؟” .
من المهم، التعمق في هذه النظرة النمطية وتكسيرها..
هذه النظرة التي جاءت من قناعة (المرأة خلقت للزواج، وجودها الحقيقي كي تتزوج وتنجب، فان لم يحدث هذا فهي أصبحت عاطلة عن الوجود.. عاطلة عن الحياة).
هذه النظرة جزء من منظومة معرفية خاطئة تشكلت تجاه حقيقة المرأة وحقيقة دورها في الحياة.. هذا جزء من التمييز الجندري المعرفي ضد المرأة.
لنعيد صياغة السؤال بطريقة أخرى: (هل الرجل غير المتزوج، وهناك نسبة منهم في المجتمع، يعتبر عدم زواجه خلل في حياته، أو ثلمة يُعاب عليها؟ وهل تقدم عمر الرجل في السنّ، يعتبر عاملا محبطا لارتباطه كما تقدم العمر لدى المرأة؟).
تقول (ام فاروق البالغة من العمر 54 عاما): ” الرجل لا يعيبه العمر، مهما كان عمره فبامكانه الزواج، بل الزواج من فتاة صغيرة ايضا.. ولا تسأليني لماذا.. هو هكذا، كبرنا ونشأنا على هذا الامر، المجتمع لا يعيب عمر الرجل” .
ويؤيدها في هذا القول، (ابومحمد البالغ من العمر 40 عاما) : ” بإمكان الرجل ان يتزوج حتى لو كبر في العمر سواء زواج أول أو ثاني.. ولكن المرأة اذا تقدمت بالعمر سيقل حظها في العثور على عريس.. هكذا يفكر مجتمعنا.. وهكذا تربينا ولا يمكن تغيير هذا الأمر بسهولة “.
إذن، مجتمعنا لا يمتلك معايير واضحة ودقيقة ومنطقية في قناعاته، فالمعيار في قضيتنا هنا، هو (الجنس)، ان تكون رجلا أو أمرأة هذا هو المعيار في فرصة الزواج.. أو حظّ العثور على الشريك الآخر. فالرجل لا يهمه العمر، فيما يصبح العمر (قلقا) مرافقا للفتاة وأهلها كلما تقدم بها.
أيناس الفتاة ذات الخامسة والعشرون عاما والحاصلة على شهادة جامعية، وافقت على شاب يكبرها بثمان سنوات وأخر شهادة كانت له هي (الابتدائية)، لأن أهلها يعتقدون بانها قد (كبرت) وستصبح (عانسا) وسيفوتها القطار، لم يكن لديها أي معيار لاختيار شريك حياتها، سوى (الخوف) من فوت القطار.
هذه القناعة الجائرة هي التي دفعت بأهل السيدة (م.ع) البالغة من العمر خمسين عاما، لتزويجها وهي في الثانية عشر من عمرها، حيث تصف حالها قائلة: ” العادات والتقاليد فرضت عليّ الزواج بعمر الثانية عشر، وتمخض زواجي عن انجاب فتاة ولاني لم اكن اعرف ماذا يعني الزواج ولصعوبة الحياة التي كنت اعيشها، اضطررت الى الطلاق لكي اعيش بسلام، وهذا الامر لم يكن سهلا ايضا، فحتى انال الطلاق اضطررت الى التنازل عن فتاتي الصغيرة لابيها، ورغم صعوبة الظروف التي عشتها لكني اكملت دراستي وحصلت على وظيفة حكومية وانا الان موظفة في دائرة حكومية، وبعد ان فهمت الحياة ونضجت تزوجت مرة اخرى، ولم اكترث للمجتمع وقساوته وانا الآن لدي اسرة سعيدة وهانئة “.
أما أماني كاظم ذات السبعة والثلاثين عاما، تعمل ناشطة مجتمعية في أحدى منظمات المجتمع المدني تحكي عن تجربتها قائلة: ” نظرة المجتمع لي بدت تزداد سوءا بعد تجاوزي عمر العشرين عاما كون ان هذا السن هو الحد المسوح لنا الزواج به وكوني من اسرة محافظة والخوف الذي كنت أشاهده بعيني والدتي من (كلام الناس) كوني ناشطة مجتمعية ولدي الحرية بالخروج داخل وخارج المحافظة، والحمدلله فأن أهلي متفهمون لعملي ولم يجبروني على شيء فقد كان قرار تحديد مصيري في اختيار شريك الحياة بيدي، وبعد تقدم العمر بي حيث وصلت الى الستة والثلاثين عاما وبدأت استمع الى الكلام الجارح الذي بدء يزعزع من ثقتي بنفسي كوني قد كبرت وفرصتي بالزواج قلت، حتى وان حصلت على زوج فكبر سني سيؤثر على فرصتي بالانجاب ولكن هذا الامر لم يثني من عزيمتي، رغم أن هذا الامر يؤلمني داخليا، ولكني لن اتزوج من شخص غير مناسب فقط لأني قد كبرت بالعمر، سأتزوج بمن يختاره قلبي وعقلي حتى لو اصبح عمري اربعين عاما “.
من جانب آخر، فان العديد من الشباب الذكور يعزفون عن الزواج لأسباب عديدة، لكن هذا العزوف لا يشكل لهم قلقا.. ولا يولد لديهم أحساس بالخوف من المستقبل، بل هو خيار يعتمد على أسس منطقية.. لا يفكرون كيف ينظر اليهم المجتمع، ولا يهمهم ماذا يقول..
يخبرنا الشاب (امير محمود شاكر)، البالغ من العمر (36) عاما، عن قراره بالعزوف عن الزواج قائلا: ” دائما اسال عن سبب عزوفي عن الزواج, فأجيب بين مُجامل وصادق في بعض الاحيان, لأن هُناك أسباب عديدة: منها الوضع السياسي الذي مر به البلد فولد عندي خوف من تأسيس أسرة في جوٍ مضطرب, مليء بالموت والخوف مما هو قادم, أي بمعنى أن جو البلد لا يحمل السلبية فقط, هناك أمور ايجابية كثيرة لكن جو الخوف كما قلت من فوضى الموت كان احد الأسباب الرئيسية التي دفعتني للتفكير بالهجرة في فترة ما من البلد كي اتزوج في جو طبيعي لا يطردني شبح الفوضى التي نعيشها لحد اليوم لكن بمستوى أقل للنصف كي أكون صادقاً. أما السبب الآخر هو الظروف المادية المُتقلبة بين يسرها وعسرها وهي ايضا تولد التردد في العمل على الارتباط بامرأة, كان ولازال بعض الشيء من العوامل المقلقة بالنسبة لي. وهُناك سبب يولدهُ الأصدقاء المتزوجون والأقارب وحتى الغرباء الذين يصادفونا في طريق الحياة هو الشكوى من فشل الزواج والمشاكل التي تحدث بين الأزواج, الموضوع حقيقي وموجود على أرض الواقع كصراع بين الزوج والزوجة على أتفه الامور ولستُ أعني الكُل لكن أغلب الحالات حدثت وتحدث يومياً بسبب أو بدون سبب على اتفه الأشياء التي تكبر حين يتدخلون الأهل والأصدقاء, بمعنى لا وجود لاستقلالية الرجل والمرأة في عش الزوجية حتى ولو سكنوا في بيتٍ بعيد عن كُل هذه التدخلات, ولدت عندي شعور مقلق من ناحية الطلاقات الكثيرة, واختيار شريكة الحياة التي لا أعرف كيف أكشف طبيعتها وهي بالمقابل تكشف طباعي حتى وجدت الأمر بالغ التعقيد. المؤثرات المحيطة بي أو بأخرين هي سبب آخر كما قلت لكن هذا لا يمنع أن الحياة مليئة بالمشاكل ويجب المغامرة فيها حتى لو كانت التحديات كبيرة, أي وجود طريقة بالخروج من الجو السلبي, ويصبح بالإضافة لذلك تلذذ بالعزوبية والانسلاخ من المسؤولية التي لا بد منها” .
في أي وقت يقرر أمير الزواج، سيكون له ذلك، وسيختار من يريد وربما تكون أصغر منه سنا بكثير، المهم سيختار وسيتزوج في الوقت الذي يحلو له.. ولكن أماني وكثيرات مثلها لا يملكن هذا الاختيار، يبقى القلق يحاصرهن في كل يوم يمرّ عليهن.. مع كل غياب للشمس معلنة عن نهاية يوم في تقويم عمرهن، يتضاعف قلقهن.. وتزداد محنة الأهل..
في مجتمعاتنا العربية، دائما ما يكون جنس (الأنثى)، هو من يتحمل أعباء مضاعفة في كل مفاصل الحياة، دائما ما يكون المعيار في كل مفاصل حياتها، هو جنسها.. وليس شيء آخر..
الجنس هو من يحدد الأدوار والحقوق والفرص ومناخ النمو والتمتع بإمكانيات الحياة..
وهذه النظرة النمطية، بحاجة الى (تكسير)، هذه القيود الفكرية التي تحجم عقلية المجتمع بحاجة الى تفكيك.. ومن ذلك: النظرة النمطية للزواج بالنسبة للفتاة.. وأقترانه بعمرها … لا بعقلها وإمكانياتها وقدراتها البدنية والفكرية ومؤهلاتها لتصبح زوجة وقائدة أسرة ومربية للأجيال..
كما ان الزواج، خيار شخصي لكلا الجنسين، المرأة والرجل، يتخذانه في الوقت المناسب الذي يرونه.. وهو خيار لا يرفع من شأنهما الانساني ولا يقلل منه.. هو دور يمارس ضمن مجموعة أدوار حياتية تتكامل من خلالها ديناميكية وجودهما … فإذا لم تسنح الفرصة لممارسة هذا الدور، فهناك أدوار أخرى تتنظرهما داخل الساحة الاجتماعية.
ولعل ما قالته (لمياء) الفتاة البالغة من العمر التاسعة عشر ينفع لنختم به رؤيتنا، حيث قالت: ” هدفي الاول في الحياة ان أكمل دراستي وأكون فردا منتجا في المجتمع، فان وجدت الرجل الذي سيساعدني لبلوغ هذا الهدف وسيكون سندي في انتاجيتي المجتمعية فسأتزوجه، وأن لم أجد، فسأكتفي بنفسي
لن أكرر أخطاء أمي وأخواتي، والفتيات من حولي.. لن يخيفني شبح (العنوسية) فأنا أقوى منه”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here