عالم عراقي في المهجر

في الخارج وُجد علماء عراقيون تميزوا، وأبدعوا وساهموا في بناء صرح العلم والمعرفة العالمية، كان منهم عبد الجبار عبد الله، وفخري البزاز، وصالح جواد الوكيل. واليوم ينتشر أربعون من امثالهم في ارجاء أمريكا وبريطانيا وأوروبا وأستراليا، التقوا ضمن إطار “شبكة العلماء العراقيين في الخارج”، ليضعوا علومهم في خدمة وطنهم، ومن أجل توفير الخبرة، والدعم في مجال العلوم، والتكنولوجيا وفروع المعرفة الاخرى، باعتبارها جزءا حيويا من التنمية والتطوير في العراق، ولتبادل المعرفة وتدريب الاخصائيين والفنيين والخبراء.

اريد ان اتحدث عن عالم عراقي من هؤلاء الاعلام العراقيين اضطرته المآسي التي تسببها نظام البعث للهجرة من وطنه من دون ان يدير ظهره للوطن:

بروفسور حكمت جميل، تخرج من جامعة بغداد، كلية الطب عام 1962 وذهب الى جامعة لندن ليحصل على الماجستير في الطب المهني، ثم ليكمل دراسة الدكتوراه في مانشستر، المملكة المتحدة. عاد الى كلية الطب عام 1978 ليساهم في استحداث الدبلوم والماجستير والدكتوراه لدراسة الطب المهني في العراق، وفي تأسيس الجمعية العراقية للصحة والسلامة المهنية، وليمارس مهنة الطب في العيادة الاستشارية لجامعة بغداد، حيث كان اول طبيب عراقي مختص في امراض المهنة (Occupational medicine).

أصبح زميل كلية الجراحين الملكية في ايرلندة، وزميل كلية الأطباء الملكية الإنكليزية. اختير كأفضل عضو هيئة تدريس في جامعة بغداد عام 1993 إلا ان مجلس الجامعة رفض تكريمه. وبعد اختياره للمرة الثانية لهذا اللقب قام مجلس الجامعة بإلغاء اللقب جملة وتفصيلا من الجوائز التكريمية للجامعة. الدكتور حكمت جميل مقدم برنامج “سلامتك” الذي كان يذاع يوميا من إذاعة بغداد في الثمانينيات، وهو من ادخل “حزام الأمان” للعراق عام 1982. أصدر صحيفة “نداء السلامة” في نفس العام، ومجلة طب المجتمع التي لازالت تصدر من قبل الجامعة المستنصرية.

ترك العراق الى عمان عام 1996 بعد ملاحقات ومضايقات مستمرة من قبل النظام البعثي، ومنها اعتقاله بعد انقلاب 1963 وهو ضابط احتياط طبيب، ونقل بما يعرف بقطار الموت الى سجن نقرة السلمان، وحُكِم عليه بالسجن لسنة ونصف وأُطلق سراحه في عام 1965، وأوقف مرة عن العمل ووجهت له تهمة الخيانة العظمى، الا انه تمت تبرئته بعد التحقق من عدم صحة التهمة.

غادر عمان الى ميتشغان في الولايات المتحدة ليصبح محط اهتمام من قبل جامعة وين ستيت في ميتشغان بعمر يناهز 62 عاما، وليحتل في وقت لاحق كرسي البروفسورية في الجامعة ويصبح من أكثر اساتذتها إنتاجية واهتماما لشدة حماسه، فيكافأ بحصد الجوائز التقديرية، وجوائز التفوق، والمنح المالية في خلال سنين معدودة من العمل في الجامعة، ويصبح عضوا في أكثر من مجلس ولجنة حكومية على الصعيد الوطني الأمريكي، ليثبت في ذلك صحة قول الكاتب الإنكليزي الدوس هيكسلي: “يكمن سر العبقرية في تمكنك من نقل روح الطفل إلى سن الشيخوخة، مما يعني عدم فقد حماسك أبدًا”.

نجح حكمت جميل في بناء تعاون بحثي مع منظمات المجتمع المحلي الأمريكي، والمؤسسات غير الربحية، والمعاهد الأكاديمية على المستوى الدولي وخاصة بين دول الشرق الأوسط، وتميزت دراساته البحثية حول الصحة العقلية لدى اللاجئين العراقيين، ودور الضغوطات الاجتماعية بعد النزوح بأهمية خاصة. نشر ما لا يقل عن مائتين من البحوث العلمية، وكتب ما لا يقل عن عشرين كتابا وفصلا، ثمانية من هذه الكتب لا زالت محط اهتمام التدريسيين في الجامعات العراقية.

كان خطيبا معرفيا بارعا دُعيَ من قبل مختلف المؤسسات الصحية والاجتماعية في انحاء العالم حيث قدَّم بأكثر من مائتين محاضرة علمية. كفاءة حكمت جميل جعلته يحظى بثقة وتقدير مؤسسات علمية عالمية مكنته من الحصول على أكثر من ستة ملايين دولار كتمويل للبحوث التي أجراها على الجالية العربية واللاجئين العراقيين في ميتشغان منذ عام 2000.

ورغم صعوبات انشاء المشاريع الجديدة وتفشي الفساد في العراق، أقدم حكمت على تحقيق حلمه لاستحداث كلية الصحة العامة في العراق فتقدم للحكومة العراقية عام 2011 بمشروعه وبالتنسيق مع جامعة وين ويست في ميتشغان، فزار العراق عدة مرات لتحقيق مشروعه، وبعد محادثات مضنية تم له الحصول على موافقة أولية في كانون الثاني 2013 حيث تبنت جامعة الكوفة المشروع، الا إن المشروع توقف في نيسان 2014 ولم يرى النور ليومنا هذا. ولا زال حكمت مؤمنا بأن العراق يمكنه ان يوفر إمكانيات هائلة لتحقيق هذا المشروع، ومشاريع صحية مجتمعية شريطة تبسيط الإجراءات ومنع الفساد وتوفير بيئة آمنة، لذلك تجده يحلم بدعوته من قبل السلطات العراقية ليطوي المسافة بين ميتشغان وبغداد وهو في عمر الرابعة والثمانين.

ألا يستحق هذا العالم الجليل والطبيب القدير ان نعبر له عن فخرنا وتقديرنا؟

أ.د. محمد الربيعي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here