الملحدون في الأرض !

* د. رضا العطار

عندما كنت اسير في نفق للمشاة في احد شوارع لندن، استوقفتني مجموعة من الكتب معروضة على رصيف الشارع. وانا عادة انجذب بشدة الى الكتب على نحو ما ينجذب العاشق الى حبيبته التي غابت عنه زمنا ! لكني ما كدت القي نظرة سريعة على اسمائها حتى اكتشفت امرا غريبا، هو ان معظمها تدور حول موضوع ( الالحاد )، فهذا كتاب للفيلسوف الانكليزي المعاصر ( برتراند رسل ) عنوانه – لماذا لست مسيحيا ؟ – وذاك كتاب اخر للفيلسوف الالماني الشهير ( لودفيج فويرباخ ) عن جوهر المسيحية وتلك مجموعة كتب ( نيتشة )، هكذا تكلم زرادشت والى جوارها كتب (جان بول سارتر)
عن فلسفة الوجودية. فعجبت من هذه المظاهرة الالحادية وسألت البائعة العجوز عن سبب اقتصار كتبها على مادة الالحاد، فأجابت: نعم انها مقصودة ومتعمدة، فنحن عندنا
( جمعية عالمية لنشر الالحاد ). وافتتحنا لها فروعا في بلدان كثيرة من العالم ! ثم سكتت لحظات تلتقط انفاسها وعادت تسألني: من اين جئت يا سيد ؟
من العراق ! فقالت: لا ليس لدينا فرع في العراق. لكن بأمكانك ان تكون عضوا عامل ووكيلا دائما لنا في العالم العربي .. ! فقاطعتها متسائلا : اليس من الافضل في البداية ان اقف على اهداف جمعيتكم الموقرة !

وعدت اسألها: لكن الا تعتقدين ان في استطاعتكم انتزاع الايمان من نفوس الناس ؟
أيمكن لكم اقتلاع الحس الديني من اعماق البشر ؟ فأجابت المرأة بسرعة: كلا، نحن لا نعتقد ذلك ولا نتصوره بل ولا نفكر فيه. لكن هدفنا هدف رائع و نبيل. قلت: كيف ؟ قالت: ان نمنع تدريس الدين للاطفال في المدارس، لان الطفل ولا سيما في سنينه الاولى التي يلتحق فيها برياض الاطفال لا يكون سوى عجينة طيّعة يشكله المربون على هواهم، اننا لا نريد ان يفرض شئ على الطفل في مرحلة لا يستطيع فيها ان يدافع عن نفسه ! كل ما نود ان نصل اليه هو ان نمنع تدريس الدين في المدارس. فاذا ما شب الطفل وتمكن من ان يقرأ بنفسه ولنفسه عبر التجول في مختلف الديانات وان يتدبر افكارها في راسه، فله ان يختار منها ما يشاء!

تركت العجوز وكتبها وجمعيتها واهدافها، بعد ان شكرتها على وقتها، وواصلت السير في طريقي افكر، لا فيما قالته السيدة الطاعنة في السن، بل فيما تمارسه في قدرتها على النشاط والحركة. امرأة تناهز الثمانين من عمرها وتقترب من نهاية رحلتها، ما زالت تؤلف جمعية تستهدف كيت وكذا وتدعو الى الاشتراك فيها وتحمل استمارات جاهزة يملأها من يريد الاشتراك في العضوية والمساهمة معها في النشاط !! اي حيوية وتدفق عند هؤلاء القوم ؟ في هذه السن وما زال امامها – هدف – ايا كان نوعه – تسعى الى تحقيقه.

اللهم سبحانك ! المرأة في بلادنا ما زالت تُقبر وهي في عنفوان الشباب، وكأن مجتمعنا قد استعذب عهد الجاهلية و وأد البنات، فاذا كان الاسلام قد نهى عن ذلك ماديا، فلا اقل من ان نفعله نحن معنويا ! لو كانت هذه العجوز في بلادنا ولها هكذا افكار غريبة، لقلنا لها: ان عمرك – الافتراضي – قد انتهى منذ زمن بعيد وانت الان – تلعبين في الوقت الضائع – فأما ان تبقين في المنزل في انتظار الموت او ان ندفنك حيّة، وسوف يشكرنا على صنعنا هذا كثيرون!!
* مقتبس من كتابات الأديب العربي جبرا ابراهيم جبرا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here