شهاب، يخرج من قلب الصحراء العربية، حارقا المعاقل الدينية المتخلفة ! *

د. رضا العطار

سمعت من يسأل : لماذا يقدس الناس الماضي ؟ – – فكان الجواب : ان الناس يقدسون الماضي لانهم يهابون ولوج المستقبل – فهو نوع من الخوف لا من الصلاح.
فالايمان بالماضي والاطمئنان اليه صورة من صور الفرار من المعركة،
معركة اقتحام المستقبل – وهو يشبه من يقبل بالهزيمة خوفا من اخطار محاولة التغيير والانتصار.

لم يكن مستغربا على شيخ كجمال الدين الافغاني او كالامام محمد عبدة في القرن التاسع عشر ان يناديا بالاصلاح الديني والسياسي بعدما عاشا في فرنسا فترة من الزمن وتشربا بفكر الثورة الفرنسية وبالثقافة الفرنسية الجديدة واصدرا دورية (العروة الوثقى).
ولم يك عجبا بعد ذلك ان يعود طه حسين وحسين هيكل وتوفيق الحكيم من فرنسا مبشرين بالحداثة وبالنظر العقلي في التاريخ العربي والاسلامي الذي تعلموه في السوربون. فطه حسين ثورة عارمة على فكر السلف المتزمت وثورة كاسحة على ثوابت التراث البالي، وكان توفيق الحكيم ثورة اخرى في الفن والادب.

ولم يك ملفتا للنظر ان يعود لنا جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة من امريكا في الثلاثينيات مجددين في النثر والشعر والفكر بعد ان درسا في امريكا واسسا هناك الرابطة القلمية عام 1920 واطلعا على فكر وثقافة الثورة الامريكية والافاق الجديدة التي فتحتها هذه الثورة في القرن الثامن عشر وما تلاه.

ولكننا بالمقابل كنا في غاية الدهشة والانبهار عندما خرج لنا (شهاب) من قلب الصحراء العربية لم يعرف طريقه الى مدارس الغرب وفكر الغرب وانوار الغرب وانما انطلق شهابه من منطقة القصيم، اكثر مناطق الجزيرة العربية تخلفا. وانغلاقا وانعزالا عن العالم الجديد وانواره، والتي خرج من اكواخها آلاف الشيوخ الوهابيين.

ولد عبد الله القصيمي عام 1907 في (الخب الحلوة) النجدية – وكلمة خب تعني القرى القابعة في متاهات الرمال الجافة والتي تمثل اهم وابرز معاقل التعليم الديني المتخلف،
اذ لا يزال ابنائها من يرفض الاخذ بالنظريات العلمية، قوام مظاهر الحضارة الحديثة.
وسط هذا كله، جاء مولد هذا المفكر العصري ليكون نقطة تحول مهمة في تاريخ تلك القرية الغافية لقرون سحيقة والتي كانت مجهولة حتى من ابناء المدن المجاورة. شانها شان العشرات من (الخبوب) التي لا تزال غير معروفة حتى الان. – – فكان ميلاد القصيمي في تلك القرية سببا لتحتل مكانة مرموقة في كثير من الحوارات الفكرية على امتداد الوطن العربي.

ما هي العوامل التي ادت بالقصيمي الى ان ينحرف بفكره بزاوية مقدارها 180 درجة من اقصى اليمين الى اقسى اليسار خلال مدة لا تتجاوز 10 سنوات، منذ ان بدأ يكتب عام 1931 كشيخ وهابي سلفي، كان اخره كتاب (الثورة الوهابية) الذي كان يمجد فيه بالفكر الوهابي ويبجلها كمنهاج اسلامي قويم.
الى ان جاء عام 1946 وكان عام (انفجار البركان) من خلال كتاب القصيمي العنيف (هذه هي الاغلال) الذي اعتبر هزة شديدة لمفهوم الثقافة العربية السائد في تلك المرحلة. وثورة في فهم العقل والدين والحياة. والذي اخرج القصيمي من زمرة الاشياخ السلفيين المتشددين وادخلته في زمرة المفكرين الليبراليين. مما دعا كاتبا اسلاميا بارزا كعباس محمود العقاد لان يعلق على الكتاب كونه ثورة في فهم العقل والدين والحياة. لانه يهجم على سلطان غشوم هو سلطان الجهل لدى الغوغاء، يرفع السيف والمعول بغير هوادة، هما سيف اليقين ومعول البرهان وهو يشن الغارة الشعواء على من يقدسون البلاهة والكسل باسم الاتكال على الله.
لكن الاصولية الاسلامية والسلفية الجهادية كفرت القصيمي واعتبرته خارجا عن الدين كما كفرت طه حسين ومن بعده حسين مروءة وصادق العظمم وغيرهم من لحم ودم الثقافة العربية واحلت دمهم.

لكننا نحن جمهرة المثقفين اكتفينا – كعادتنا – بالتصفيق والتبجيل للفكر الجديد الذي جاء به القصيمي من خلال بروقه ورعوده وامطاره التي لو وجدت ارضا عربية صالحة لها لأنبتت اطيب الثمار والذ الخضر.
ومن الجميل ان يوصف القصيمي ب (شهاب) – – – لقد كان متوقعا ان يحرق هذا المفكر الفذ، من قبل عرب الجزيرة حيا. مثلما احرق الطليان عالمهم برونو في القرن الخامس عشر. لقد جاء هذا الصحراوي لكي ينير لنا طريق الحرية كما انار الغربيان برونو وغاليلو وغيرهما بداية النهضة الاوربية.
ومن الرائع ان يوصف القصيمي بانه كان بذرة وقد صارت شجرة عظيمة زاهرة.
ومن البديع ان تقول مجلة (الاداب) البيروتية عن القصيمي انه (جوامع الكلم التي تمتاز بالقوة والبلاغة المعجزة ولا تقل عن مثيلاتها من كلمات مونتيسكو وديدور وجان جاك روسو من اعلام الفكر).

كل هذا جميل ورائع وبديع ولكن لو اكتفى الفرنسيون بتمجيد فولتير وغيره ولو اكتفى البريطانيون بتبجيل جون لوك وغيره ولو اكتفى الامريكيون بتعظيم توم بين وغيره دون دراسة هؤلاء جميعا وتفكيك خطاباتهم وفهمها وتحويلها الى دم ولحم ثقافتهم، لما قامت الثورات هناك ولما كان هناك عصر تنوير وسلطة العقل واهل العرفان والبرهان.

لقد كتب القصيمي عام 1955 في مجلة (الاداب) يقول ( الشعوب اربعة، شعب يبتكر الحضارة. وشعب يقلدها. وشعب ينفعل بها. وشعب لا يبتكرها ولا يقلدها ولا ينفعل بها – – – فمن اي الأربعة نحن ؟

* مقتبس بتصرف من كتاب (زوايا حرجة) لمؤلفه د. شاكر النابلسي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here