من يتفقدني عند قبري ؟ (*)

د. رضا العطار

لم يكد الشاب العابس الثائر يلتقي بي حتى انفجر كالسيل يشكو حاله، قوله:
ماذا حدث في هذه الدنيا ؟ كيف يتغير الناس بين ليلة وضحاها على هذا النحو، فينقلبون من النقيض الى النقيض ؟ كيف يمكن ان ينعدم الوفاء على هذا النحو ؟ هل صحيح ان الانسان سمّي انسانا لكثرة ما ينسى؟ ولكن لا يمكن ان يكون سريع النسيان لهذا الحد ؟
اخذت في تهدئته حتى بدأ يقص لي اسباب هياجه قائلا:
انت تعرف والدي جيدا، وتعرف انه كان – رحمه الله – محبوبا من قبل الجميع حتى ان بيتنا كان يعج بالوان من البشر لا حصر لها، فلم يكن يخلو في ساعة من ساعات الليل او النهار من انسان، صديق او قريب سائل او زائر .. فلم يكن والدي يصد احدا او يرفض طلبا وكأنه كان يتخذ تعاليم المسيح شعارا له قوله ( اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم الباب .. ثم جاء المرض اللعين. ورقد ابي ؤقدته الاخيرة: لكن حتى هذه اللحظة كان الجميع يهتمون بعيادته يوميا .. بل ان منهم من تبرع بوقته ليقوم على خدمته، او رعاية مصالح الاسرة .. الخ لكنه مات !! فكان الجميع ماتوا معه. انفض الحشد بعد انتهاء مجلس الفاتحة، ولم يعد يزورنا احد او يطرق بابنا، فتذكرت قول الشاعر:

دع الايام تفعل ما تشاء * * وطب نفسا اذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي * * فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلا على الاهوال جلدا * * وشيمتك السماحة والوفاء

وتوقف قليلا يلتقط انفاسه ويستجمع ذكرياته المرّة ثم استمر في شكواه:
انهيت دراستي الجامعية وبدأت ابحث عن عمل ونحن في اشد الحاجة اليه، ورحت اتلمس العون من اصدقاء والدي .. فلم اجد احدا ! حتى فلان الذي كان يعرف بانه الصديق الصدوق لابي زرته طلبا للمساعدة في البحث عن عمل فاستقبلني بترحاب ثم راح يتهرب ويختلق الاعذار حتى قطعت الذهاب اليه !! فعدت اتذكر ما قاله الشاعر:

اذ المرء لا يرعاك الاّ تكلفا * * فدعه، ولا تكثر عليه التأسفا
ففي الناس ابذال وفي الترك راحة * * وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا

ماذا حدث يا سيدي للناس وماذا جرى في هذه الدنيا ؟ ماذا نقول في امر الصديق والرفيق والزميل والقريب ؟؟ ام ان هذه كلها لافتات من زبد سريع الذوبان؟؟
قلت للشاب المنكود:
اما ان الانسان كونه سريع النسيان، فتلك حقيقة لا يشك فيها احد، اما اذا كان النسيان ظاهرة عامة في البشر فنسيان الاموات اشد عمومية، فكم من الاحباب والاصحاب والرفاق والعشاق طواهم التراب واصبحوا نسيا منسيا وليست تلك ظاهرة عربية تقتصر على مجتمعاتنا وحدها وانما هي ظاهرة انسانية عامة ! ولقد عبر عنها الشاعر الانكليزي توماس هاردي مع بدأ القرن العشرين في قصيدة رمزية بعنوان ( من جاء يتفقدني؟ ) يسخر فيها من وفاء الصديق وذاكرة البشر ويتهكم على الاموات الذين يظنون ان الاحياء ما زالوا يذكرونهم في كل مناسبة، وهنا يتخيل الشاعر سيدة فهذه سيدة وهي ترقد في قبرها ..( تسمع ) وقع اقدام بشر فوق قبرها فتظنه حبيبها، جاء ليزرع لها الازهار، فتسأله كيف حالك يا حبيب ؟ فيجيبها صوت من الغيب: كلا .. لقد ذهب حبيبك بالامس ليتزوج من فتاة رائعة الجمال وهو يقول عنك انك لا تغضبين ان سمعت هذا الخبر ..

اذن من جاء يتفقدني؟ هل احد الاقارب الاوفياء ؟
– كلا .. ان الاقارب يجلسون الان ويتسامرون ويتسائلون عن عدم جدوى وضع باقة زهور فوق قبرك، ويعتقدون ان العناية بقبرك لن يعيد اليك الحياة ..
– ولكن من جاء يتفقدني ؟، اهي عدوتي فلانه ؟
– كلا، ان فلانه لما سمعت انك فارقت الدنيا، لم تجدك بعد ذلك اهلا للبغض والكراهية ولم تعد تعبأ بك.
– اذن خبروني من ينبش التراب قرب قبري ؟
– فيأتي الجواب: انا كلبك الصغير سيدتي العزيزة الذي لا يزال يعيش قريبا منك، ارجو الا تكون حركاتي مصدر ازعاجك !
– اي احساس بالانسان يضارع وفاء الكلب ؟

ولعل هذا هو السبب في ان هذا الشاعر كان يعتقد ان قدرا كبيرا من دموع البكاء التي تذرفها العيون على انسان في لحظات الموت لا لزوم لها ! ومن هنا كان الشاعر يدعو الناس الى الاقلال منها، تخفيفا لظاهرة الرياء ! وقد اوصى ان يكتب على شاهدة قبره بعد موته العبارة التالية:

اذا كان البكاء على من يستغرق في * * النوم ضربا من الغفلة والجنون
فأي غافل او مجنون ذلك الذي يبكي * * على الموت احلى انواع المنون

وعندما التقيت بالشاب الثائر بعد سنوات، تذكرت انفعالاته العنيفة، ولم اسأله: متى زار قبر والده ؟ لاني اعرف انه ومنذ ذلك الحين يهبط الى القرية التي دفن فيها ابوه ولكنه ينسى زيارة قبره او حتى قراءة الفاتحة على روحه.

* مقتبس بتصرف من كتاب افكار ومواقف، لمؤلفه الامام عبد الفتاح امام

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here