التفكير : ماذا يعني ؟ *

د. رضا العطار

يقولون : (ان الانسان كائن ناطق) والنطق لا يعني مجرد القول او التلفظ او التعبير بل هو يعني التأمل و التعقل و التفكير. ولكننا ما نكاد نتحدث عن (التفكير) حتى نجد انفسنا بأزاء انماط مختلفة من التفكير ! فهناك تفكير العالم وتفكير الفيلسوف وتفكير الفنان وتفكير السياسي وتفكير رجل الدين وتفكير الرجل العادي، والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هو : ما الذي يجمع بين كل هذه الانماط المختلفة من التفكير ؟

وردنا على هذا التساؤل ان التفكير صورة مترقية من صور السلوك القائم على المهارة، وان كنا هنا بصدد سلوك من نوع خاص لانه سلوك لا يعبر عن نفسه الا من خلال مجموعة من الرموز او العلامات – – – ولما كان (التفكير) مظهرا من مظاهر (المهارة) فليس بدعا ان نراه يخلو من عناصر التهور والاندفاع والاستجابة العشوائية لكي يتسم بسمات التدبير والتقدير وحساب النتائج. ومعنى هذا ان المهارة العقلية مهارة هادفة لها توقيتها ومراحل توقفها ومظاهر حتميتها او ضرورتها ودلائل غائيتها او اتجاهها القصدي.

ان كل هذه الصفات تدلنا على ان (التفكير) وظيفة مترقية من وظائف السلوك، صحيح انه لا يزيد عن كونه مظهرا من مظاهر (التكيف) مع البيئة ولكننا هنا بازاء (تكيف) راق هو على قدر كبير من (المرونة) وهذا هو السبب في اننا بمجرد ما (نفكر) فاننا نتجه نحو ( الاستجابة المباشرة) السريعة، تعمل عقولنا في (البحث) عن الطريقة المثلى لمواجهة (الموقف) الذي نحن بصدده – – – وليس الاستدلال والقياس والاستنباط والاستقراء وشتى عمليات الانتقال من المقدمات الى النتائج سوى مظاهر متنوعة لذلك (النشاط الفكري) الذي يقوم به الكائن الناطق حين ينتقل من (المعلوم) الى (المجهول).

ولما كانت ال (مهارة) تستلزم التعليم والمران والتدريب فضلا عن انها قد تكلف صاحبها الكثير من العناء والجهد والمشقة، فليس من الغرابة في شئ ان تقترن عملية (التفكير) بمعاني العسر والشدة والتوتر. وحينما قال تولستوي (ان التفكير يشقي البشر اكثر مما يشفيهم فانه لم يكن يرى في التفكير سوى جانبه الأليم.

بيد انه لا بد لنا من ان نتوقف قليلا عند عملية (التفكير) لنطلع على طبيعة تلك الظاهرة البشرية التي لاتنقطع في مجرى شعورنا. ونحن نعرف كيف كان ديكارت المولود عام 1596 يقول : ( انا افكر اذن انا موجود) بمعنى ان المرء لا يكف عن التفكير دون ان يكف عن الوجود ! فهو يفكر دائما، يفكر وهو طفل يفكر وهو نائم يفكر وهو في حالة اللاوعي وآية ذلك ان الفكر عنده مبهم غامض مؤلفا من احاسيس صماء.

ولا يقتصر ديكارت على القول بان المرء حين يدرك ذاته كمفكر بالفعل فانه يدرك حقا وجوده بل هو يذهب الى ان الفكر يعبر عن طبيعة الانسان باسرها نظرا لانه يرى ان الفكر ماهيتها وصفتها الذاتية. وواضح من كل هذه العبارات ان ديكارت يستخلص (الوجود) نفسه من (الفكر).

ثم جاء الفيلسوف كيركجارد المولود عام 1813 ابو الوجودية الحديثة. فثار على المثالية الديكاردتية واعلن ان بين (الفكر) و (الوجود) من النزاع الباطني ما يجعل من المستحيل علينا اثبات الوجود عن طريق الفكر، فقد راح يقول : ( انا افكر اذن انا غير موجود) والظاهر ان الفلاسفة لفرط ما تحدثوا عن المعرفة قد نسوا ما هو (الوجود) ! والحق انه (كلما زاد فكري، قل وجودي، وكلما قل فكري، زاد وجودي) ومن هنا فان الفيلسوف الوجودي يعود الى الفردية والذاتية لكي يحدثنا عن الحقيقة المعاشة بدلا من ان يصف لنا من المعرفة الموضوعية المجردة !

فليس المهم في نظر كيركجارد ان نعمل على زيادة حظ الانسان من المعرفة بل المهم ان يعلم الفرد كيف يكون (انسانا) – و(الأنسان) بعيد كل البعد عن ان يكون مجرد (فكر) محض او مجرد معرفة خالصة اذ هو (ذات فردية) لها وجودها الحي القائم على التوتر والتمزق والتناقض – – – وليس يعنينا في هذا المقام ان نفصّل في الخصومة الفلسفية وانما حسبنا ان نقول ان الفلسفة الوجودية لم تر في الانسان مجرد شئ مفكر بل هي قد وجدت فيه (ذاتا) تحيا.

* مقتبس من كتاب فلسفة مشكلة الحياة، د. زكريا ابراهيم – جامعة القاهرة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here