“الخسفة” مقابر العراق الجماعية الغامضة… عائلات ضحايا “داعش” تنتظر فتحها

نوزت شمدين – صحافي عراقي
كل طرقة بابٍ أو رنة جرس أو هاتف، تعني بالنسبة إلى عائلة الحاج سعيد خبراً محتملاً عن ابنها رضوان الذي أكمل سنة غيابه الخامسة، معلقاً بين موت وحياة لا يمكن إثباتهما، بسبب عدم العثور على جثته أو حتى على ما يؤكد مقتله.

في الثالث من أيلول/ سبتمبر 2014، بعد نحو ثلاثة أشهر من سيطرة تنظيم “داعش” على الموصل، عثر عناصر من التنظيم في منطقة النبي شيت في الجانب الأيمن للمدينة، على هاتف نقال مزود بكاميرا بحوزة رضوان الذي بالكاد كان قد بلغ 16 من عمره. وشهد صديقان له كانا برفقته كيف أنهم وضعوه في شاحنة (بيك آب) “شوفرلي”، بعدما بحثوا في صور هاتفه وسألوه عن اسمه وعمره.

الجهات التابعة للتنظيم التي تواصل معها والده الحاج سعيد نفت أن يكون عندها، وهُدد في النهاية بالاعتقال إن ألح في سؤاله. فصار يجوب المؤسسات الصحية ويتنقل بين مقبرتي المدينة الرئيستين (وادي عكاب وكوكجلي) لعله يصل إلى نهاية ما مهما كان موجعة.

كان من بين الأوائل الذين وصلوا إلى بناية الطب العدلي في الجانب الايمن للموصل يوم أعلن التنظيم في الخامس من آب/ أغسطس 2015 عن تصفية 2070 شخصاً من مدينة الموصل، وعلق عناصره قوائم بأسمائهم على جدرانها. عجز وقتها حين عثر على اسم ابنه الوحيد عن كتم صيحة الحزن ليجره عابرون من المكان خوفاً عليه من عيون عناصر التنظيم وآذانهم المتربصة.

لكن غمامة الحزن لم تمكث طويلاً ولم تحجب عن العائلة أمل عودته، بحسب مقربين منها. فرفض الوالدان الاستسلام لفجيعتهما إلى أن أن يشاهدا بأعينهما جثته وإلا فإن عودته في أي لحظة احتمال خزّنا لأجله كل ما يستطيعان من أمل.

“إذا فتحوا تلك الحفرة ووجدوه سيعطوننا حقوق شهيد. لن أكون أنا وأولادي في حاجة إلى أحد عندها. لكن ماذا لو لم يعثروا على جثته أبداً. ماذا سيحدث لنا؟”.

تضمنت القوائم المعلقة، التي دقق أهالي المختطفين بين سطورها بصمت، الأسماء الثلاثية للضحايا فقط، من دون إشارة إلى عناوينهم أو وظائفهم، وكان بينهم نساء وصبية صغار، ومنتسبون في الجيش والشرطة بعضهم تقاعد منذ سنوات، وناشطون سياسيون وموظفون في مفوضية الانتخابات ومواطنون عاديون لم تتسلم “الطب العدلي” سوى أسمائهم وبقي مكان دفن جثثهم لغزاً يقض مضاجع الأهالي حتى الآن.

كان التنظيم أعلن عن دولته الإسلامية للتو وبدأ تنفيذ قوانينها المميتة. ووجه أوامر صارمة لذوي الضحايا بعدم التتبع أو الاستفسار عن مكان دفنهم والامتناع عن إقامة مجالس عزاء عن أرواحهم.

لذا ألقى مئات أهالي الضحايا وبعيون دامعة نظرة على أسماء أبنائهم في قوائم الموت وعادوا ليعلنوا عن أحزانهم خلف أبواب بيوتهم الموصدة. فيما كان ذوو مفقودين آخرين يتسللون بين حين وآخر إلى المكان ذاته، وقلوبهم تأمل بألا يعثروا على أسماء أبنائهم ليواصلوا رحلة البحث الصامتة

تداول حينها مدونون في وسائل التواصل الاجتماعي عدداً من تلك الأسماء، التقطوها من ذاكرة الشهود لأن التنظيم منع تصوير القوائم منعاً باتاً. وكانت هذه الطريقة التي عرف بها بعض النازحين عن المدينة مصير أبنائهم الموجع.

الاعتقالات كانت تحصل في مختلف الأوقات وفي كل المناطق الخاضعة للتنظيم، وغالباً ما كان المشهد ذاته يتكرر: رتل من السيارات (الأمنية) يترجل منها مجموعة من المدججين بالأسلحة ومتوشحين بالسواد. لا يتكلمون كثيراً ويوحون لذوي المعتقل بأنها مجرد استفسارات، عليه الإجابة عنها وسيعود خلال يوم أو اثنين.

ويكون الأمر مغايراً تماماً عندما يكون المطلوب هارباً ويستدلون على مكانه بواسطة مخبر إذ كان يقيد وتعصب عيناه، وأحياناً يتم التعامل معه بعنف شديد.

يونس حسان اتهمه التنظيم بالردة بسبب ارتباطه بأحد المرشحين السياسيين، اقتيد من منزله في عصر يوم الجمعة في السادس من شباط/ فبراير 2015. يقول ابنه البكر إن عناصر التنظيم “تعاملوا بطريقة لا توحي بأنهم سيقتلونه”، حتى أن قائد المجموعة الذي عرف بأنه غير عراقي من خلال لهجته أكد مبتسماً بأنه “سيعيده إلى المنزل بنفسه”.

يتنفس بعمق قبل أن يكمل: “عثرنا بعدها بأشهر على أسمه في القوائم المعلقة على جدران الطب العدلي، ولم نعثر على جثته حتى بعد مرور أربع سنوات ونصف السنة”.

“القانون يشترط وجود جثة قتل صاحبها نتيجة الأعمال العسكرية لتعويض أهله أو في الأقل صرف مستمسكات تؤكد ما آل إليه”. ويدعو إلى تقليل بعض الإجراءات للحصول على شهادات الوفاة، باعتبار ذلك من أبسط حقوقهم. ويتساءل “من دون فتح الخسفة وغيرها من المقابر كيف يمكن أن نثبت وفاة أبنائنا. أليس شرط وجود جثة هنا تعجيزياً؟”.

حفرة الموت

في شهر آب ذاته، شاع خبر قديم تجدد بأن التنظيم يلقي ضحاياه بناءً على قرارات تصدرها محاكمه في هوة سحيقة بمنطقة نائية (تبعد 20 كلم جنوب الموصل) بين قرية (العذبة) والطريق الدولي الرابط بين الموصل وبغداد. تحيطها تلال وأودية يعرفها الأهالي هناك بالخفسة، لكن الاسم الأكثر شيوعاً يلفظُ “خسفة”.

والخسفة فجوة أرضية طبيعية يزيد قطر فوهتها عن أربعين متراً وعمقها عن 150 متراً، بحسب دراسة أكاديمية أجريت لها قبل سنوات في جامعة الموصل، أشارت إلى أن وجودها في منطقة شبه صحراوية تضم رمالاً متراكمة تسحب أي جسم ثقيل إلى الداخل.

وأهالي القرى القريبة منها يقولون إنها عميقة وذات انحدار شديد، يصعب النزول إليها، فلا أحد يعرف تحديداً ماذا كان في قعرها قبل أن ينشط التنظيم في نينوى بعد 2006 ويفرض سيطرته المطلقة عليها صيف 2014، إذ استخدمها مقبرة لضحاياه وهم من مختلف فئات المجتمع في نينوى. ومن هنا استمدت أسماؤها المتعددة، حفرة الموت أو الرعب أو مقبرة الخسفة.

ويروي مواطنون من قرية العذبة التي تفصلها عن الخسفة نحو 5 كلم، كيف أن فرق إعدام تابعة للتنظيم اعتادت بعد حزيران/ يونيو 2014 على تنفيذ عمليات إعدام جماعية لعراقيين تقتادهم من أماكن مجهولة، ثم تلقي بجثثهم في الخسفة، التي لم يكن يبقى لها من أثر سوى خطوط الدماء التي تخلفها على حافة الفوهة.

يقول شاب من القرية، طلب أن نطلق عليه اسم هشام، إن التنظيم خلال فترة سيطرته على نينوى أتخذ من (الخفسة) مقبرة يجلب إليها عناصره كل يوم تقريباً جثثاً بواسطة سيارات (بيك آب) وحتى حافلات أو شاحنات صغيرة وكبيرة في بعض الأحيان ثم يلقونها فيها، أو أحياءً معصوبي الأعين وموثوقي الأيدي، يطلقون عليهم النار بالقرب من فوهتها ويركلون الجثث لتختفي في ظلام الفجوة.

معظم تلك القصص كان ينقلها مقربون من التنظيم، فقليلون شهدوا عمليات تصفية هناك.

لكن هشاماً يؤكدها ويقول إنه شاهد تفاصيل واحدة من عمليات القتل بأم عينه، حيث أطلقت فرقة الإعدامات وابلاً من الرصاص على امرأة، فتدحرجت لتظهر ثيابها الداخلية وتظل معلقة في حافة الخسفة من دون أن تتلقفهاً أعماقها. وأردف: “إنهم يدعون الإسلام، فأي إسلام هذا الذي يسمح لهم بفعل شيء كهذا مع امرأة”.

ويلفت هشام إلى أن سكان قريته كانوا يتحدثون خلال تلك الفترة عن سماع أصوات أنين ليلاً مصدرها الخسفة ويقولون بأن هنالك حيوانات تقتات على الجثث المتراكمة فيها. لكنه ينفي ذلك “الأمر لا يصدق”، ويرى ان الرعب الذي كان يشعر به الناس جعلهم يختلقون قصصاً “فلا يمكن لإنسان البقاء حياً عند السقوط في الخفسة، كما لا يمكن لحيوان النزول الى هناك”.

ويشير إلى أن التنظيم وقبل فترة وجيزة من سقوطه بعد معارك التحرير منتصف 2017 قام بردم الخسفة بشكل كامل، إذ ألقى عناصره هياكل مركبات وأنقاض أبنية في جوفها، قبل أن تستغرق الجرافات ساعات طويلة في إهالة التراب عليها.

مقبرة الجميع

“إخفاء الضحايا في الخسفة أمر قديم”، وفق رجل في العقد السادس من قرية (الجرن) جنوب المنطقة التي تقع فيها الخسفة. يقول: “كانت القوات العراقية تلقي بمسلحي داعش في الخسفة قبل سنوات من سيطرة التنظيم على نينوى”. ويضيف: “هذا أمر معروف في المنطقة. وعندما انهارت قوات الأمن وأمسك التنظيم بمقاليد السلطة قام بالشيء ذاته، نافياً أن يكون أحد على دراية بعدد الذين أُلقوا في الخسفة”، مردداً، “هم بالآلاف”.

(ماجد، ع) من سكان ناحية القيارة التابعة لقضاء الموصل، كان ضابطاً في الشرطة المحلية برتبة ملازم أول، صرف من الخدمة بعد سيطرة “داعش” على المحافظة. يقول إن تنظيم القاعدة هو أول من استخدم الخسفة، إذ ألقى فيها جثث من اتهمهم بالتعامل مع القوات الأميركية. وكان ذلك بعد 11/11/2004 أو ما يعرفه الموصليون بـ”السقوط الثاني”، عندما سيطر عناصر التنظيم على مراكز الشرطة ودخلت في حرب شوارع مع القوات الأميركية.

ويضيف: “ما زالت عائلات كثيرة لا تعرف مصير أبنائها الذين اختفوا حتى قبل الإعلان عن تأسيس الدولة الإسلامية داعش (نهاية 2006). وهم منتسبو شرطة محلية وموظفون في مختلف المؤسسات الحكومية التي كانت تحتك بالقوات الأميركية، فضلاً عن سائقي شاحنات نقل المؤونة ورافضين لمنح الاتاوة الشهرية للتنظيم وغيرهم”. 

أحمد الجبوري النائب عن محافظة نينوى، يقول إن أغلب المدفونين في الخسفة هم منتسبو الشرطة والجيش، الذين لم يتمكنوا من الفرار في حزيران 2014، وقدر عددهم بـ1600 شخص.

يرجع مراقبون وناشطون سبب عدم مغادرة هؤلاء الضحايا نينوى، إلى وقوعهم ضحية وعود و”مكيدة” لـ”داعش”، الذي أوهمهم بعدم الملاحقة بمجرد أن يوقعوا على (بطاقة التوبة)، وفيها حقول عن الاسم الثلاثي ورقم بطاقة الهوية الشخصية والمواليد ومكان العمل والرتبة وتاريخ التوبة ونوع السلاح ورقمه ومكان السكن الحالي ورقم الهاتف مع إرفاق صورة حديثة للتائب.

لكن “داعش” نظم حملة تم خلالها اعتقال غالبيتهم وتمت تصفيتهم ودفن جثثهم في الخسفة أو في مقابر جماعية أخرى.

ومع أن التنظيم كان يحرص على نشر صور ومقاطع فيديو لضحاياه خلال إعدامهم، إلا أنه كان أيضاً يحرص على عدم إظهار الأماكن التي يواري فيها الجثث. لأنه يعدهم غير مسلمين وعدم إعلان أمكنة دفنهم عقوبة إضافية.

ما جعل الخسفة مصدر رعب، ليس طبيعتها ولا وجودها في منطقة نائية فقط، بل أيضاً السيطرة الفعلية لبعض التنظيمات المسلحة على المناطق القريبة منها حتى قبل حزيران 2014 عندما انهار جهاز الأمن ومسك عناصره الأرض.

يقول معاذ ح. ن. وهو مدرس من ناحية حمام العليل (30 كلم جنوب شرقي الموصل) إن “داعش” كان له وجود في بعض المناطق القريبة من الخسفة، وكان يقوم بعمليات شبه يومية ضد قطعات الأمن المارة بالطريق الرابط بين بغداد والموصل (يبعد من الخسفة 6 كلم).

بسبب ذلك لم يجرؤ الناس على الاقتراب من الحفرة، كما يرى معاذ، بل إن سكان بلدات وقرى جنوبي الموصل زادت رهبتهم منها مع تزايد الأخبار عن المقبرة، عقب إعلان الدولة الإسلامية حتى من دون أن يسورها التنظيم أو يضع حراسة عليها.

يقول: “كانوا يستهزئون بضحاياهم ويستمتعون بعذابهم… يطلبون مثلاً من المتهم المعصوب العينين الترجل من العجلة والسير إلى الأمام، موهمينه بأنهم أطلقوا سراحه، فيحث الخطى إلى الأمام من دون أن يدري بأنه يتوجه صوب الخسفة، فيسقط فيها ولا يسمع غير صراخه الذي يختفي شيئاً فشيئاً، قبل أن ينفجروا بالضحك ساخرين منه”.

 

مقابر نينوى والتي يقع معظمها بالقرب من مدينة الموصل تضم بين 4000 و10500 جثة، وأن الحكومة العراقية تعتقد بأن الخسفة وحدها تضم نحو 4000 جثة. 

 

متهمون: دفنا فيها 370 شخصاً

روايات الدفن في الخسفة، أكدها عناصر في التنظيم خلال التحقيق معهم. فالمتحدث باسم مجلس القضاء الأعلى في العراق القاضي عبد الستار البيرقدار، أعلن في الأول من آب 2018 عن محاكمة 8 أشخاص من عائلة واحدة، منتمين لتنظيم الدولة الإسلامية بتهمة قتل 370 منتسباً للقوات الأمنية العراقية وإلقاء جثثهم في حفرة الخسفة بحسب اعترافاتهم خلال التحقيق.

هذا الإعلان بالنسبة إلى المحامي علي يونس، الذي يعمل في محاكم استئناف منطقة نينوى، دليلٌ كافٍ للحكومة على وجود مقبرة جماعية يجب فتحها.

ويقول إن الجهات المختصة قانوناً أو التي تمنحها الأذن، هي المخولة فتح الخسفة أو غيرها،من المقابر الجماعية، وأي جهة أخرى تفعل ذلك تعتبر عبثت في مسرح جريمة، ما يهدد القيمة الإثباتية وبالتالي يكون هدر للعدالة والمساءلة القانونية للجاني.

ويشير يونس الى القانون رقم (5) لسنة 2006 الخاص بالمقابر الجماعية والذي تم تعديله عام 2015 ليشمل المقابر الجماعية التي أنشأتها الجماعات المسلحة.

جهود التقصي عن الخسفة قادتنا إلى مقابر جماعية كبيرة أخرى يشير إليها أهالي جنوب نينوى وغربها، إحداها تعرف بـ”بئر علو” في قضاء تلعفر وناحية العياضية (65 كلم غرب الموصل)، والتي استخدمها التنظيم أيضاً مقبرة لدفن ضحاياه الذين يقدر الأهالي هناك أعدادهم بالآلاف أيضاً.

وهناك مقبرة جماعية أخرى يطلق عليها السكان “الخندق” تقع في قرية الزكَروطية في منطقة ألبو سيف، جنوب شرقي الموصل بالقرب من ضفة نهر دجلة. وعلى بعد نحو 30 كلم جنوبها، وتحديداً قرب كلية الزراعة والغابات في ناحية حمام العليل هنالك مقبرة جماعية لضحايا “داعش”، ومثلها في قضاء الحضر (80 كلم جنوب الموصل). وهناك مقابر جماعية عدة في سنجار (وصل عددها بحسب مديرية اوقاف الايزيديين إلى نحو 80 مقبرة مختلفة الحجم)، وكلها تنتظر إجراءات حكومية لتسوية أوضاع المدفونين فيها قانونياً أو في أقل تقدير ليعرف الأهالي شيئاً عن مفقوديهم.

هذه المقابر هي من أصل 95 مقبرة جماعية، دفن فيها تنظيم “داعش” ضحاياه في نينوى بين 2014 و2017 بحسب تقرير لمكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان/ بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق – يونامي، أي تقريباً نصف عدد المقابر الجماعية التي قدرها التحقيق ذاته بـ202 مقبرة في كل من نينوى والأنبار وصلاح الدين وكركوك.

وذكر التقرير عينه أن مقابر نينوى والتي يقع معظمها بالقرب من مدينة الموصل تضم بين 4000 و10500 جثة، وأن الحكومة العراقية تعتقد بأن الخسفة وحدها تضم نحو 4000 جثة. 

صعوبات فتح الخسفة

يقول نائب رئيس مجلس محافظة نينوى نور الدين قبلان، إن الخسفة تضم رفات آلاف من مواطني نينوى، بينهم مدنيون ومنتسبون للجيش والشرطة العراقيين، وأن فتحها خارج إمكانات الحكومة المحلية والأمر يتطلب جهداً وإمكانات دولية لا تتوافر في العراق حالياً.

ويؤكد قبلان مفاتحة منظمات إنسانية دولية عدة للقيام بتلك المهمة، لكنها رفضت من دون أن يورد الأسباب مكتفياً بالقول إن ذلك “يفوق إمكاناتها أيضاً”.

ويفرق الباحث الجيولوجي الدكتور محمد سعيد، بين فتح مقبرة جماعية عادية وأخرى كالخسفة. فالأولى سهلة بحكم تجربة سنوات في فتح مقابر نظام حزب البعث وتراكم الخبرة في التعامل معها خاصة انها تكون قريبة من سطح الأرض. “أما بالنسبة إلى مقبرة مثل الخسفة فهناك حاجة إلى آليات خاصة لا يملكها العراق، إضافة إلى فرق خبيرة بمعدات للوقاية من الغازات السامة الموجودة أصلاً في الأغوار السحيقة، إلى جانب الحاجة إلى تحلل الجثث المتراكمة”.

ويرى أن الدعم الدولي مهم “لأن عمقاً يزيد عن 150 متراً سيعني بالتأكيد وجود مياه، وبالمحصلة فإن نظرة أولية تعني عدداً كبيراً من الجثث في بركة هائلة من الماء. ويشكل ردم الحفرة بمئات أطنان أنقاض الأبنية وهياكل المركبات والرمال ضغطاً كبيراً جداً على الجثث المتحللة أصلاً في المياه”.

بسمة بسيم عضو مجلس النواب العراقي عن نينوى، وعدت في تصريح صحافي بأن تعمل على قيام رئيس مجلس النواب بمقابلة ممثلين عن عائلات المغيبين ومنهم مغيبو الخسفة.

أهالي مفقودين اعتبروا ذلك إجراءً خجولاً ولا يتوافق مع حجم الكارثة التي ألمت بهم، لا سيما أن ذلك يحدث بعد نحو سنتين من تحرير نينوى. ويرى نشطاء أن التقاعس الحكومي لفتح مقبرة الخسفة الجماعية “غير مفهوم”.

المفودون ليسوا “شهداء”

في حزيران 2019 قدم 61 نائباً طلباً إلى رئاسة مجلس النواب لااعتبار المفقودين وضحايا الخسفة شهداء، ولاتخاذ الإجراءات في هذا الملف، لكن أي تقدم لم يتحقق.

وفي حينها طالب النائب عن محافظة نينوى نايف الشمري، بمعالجة فورية لملف “المغدورين والمعتقلين لدى داعش”، وحسمه باعتبارهم شهداء، متهماً الحكومة بالتنصل عن مسؤولياتها، قائلاً: “نستغرب إهمال ملفات تنتظر معالجات سريعة ولا تحتمل التأخير… التقصير الحكومي لم يكن في عدم متابعة الموضوع فقط بل بالتنصل من مسؤلياتها تجاه ذوي الضحايا الذين يعانون اصعب الظروف بسبب فقدان من كان يعيلهم”.

يؤكد أحمد العبد ربه، مسؤول لجنة شؤون المواطنين في مجلس محافظة نينوى، استلام 500 طلبٍ من ذوي المفقودين أثناء سيطرة “داعش” على الموصل. ويقول إن لجنته تلقت في شهر آب 2019 من لجنة حقوق الإنسان النيابية والأمانة العامة لمجلس الوزراء طلباً “بتوحيد أسماء المفقودين لغرض البحث والتحري عنهم”، وأن قوائم بذلك تعد في الوقت الراهن.

وتوقع مصدر في مجلس محافظة نينوى أن تزيد الطلبات المقدمة عن 4000 طلب، خصوصاً أن بلاغات بهذا العدد تقريباً قُدمت إلى الجهات الأمنية من قبل الأهالي في وقت سابق، إنما هناك أعداد أخرى “فالكثير من الأهالي لم يقدموا بلاغات بسبب النزوح أو ربما عدم الثقة بالإجراءات الحكومية”.

الموقف الحكومي هذا وعدم وجود خطة لفتح الخسفة لهما تداعيات عميقة على آلاف من ذوي المفقودين الذين يتعين عليهم إثبات حالة الوفاة للحصول على امتيازات الدولة للشهداء والحصول على شهادة الوفاة لتسيير المعاملات الرسمية في الدوائر الحكومية المتعلقة بالأحوال الشخصية من إرث وغيرها، وكل ذلك يستلزم وجود جثة قانوناً للحصول على شهادة وفاة.

عن ذلك يقول شيروان الدوبردان النائب عن محافظة نينوى، إن 100 معاملة شهيد فقط، أنجزت في نينوى من بين آلاف الضحايا، بسبب “البيروقراطية الكبيرة في الدوائر الحكومية والقانون العراقي الذي يستلزم وجود جثة لمنح شهادة الوفاة”.

ووعد الدوبرداني بالعمل على تشكيل لجنة برلمانية للتعاون مع حكومة نينوى المحلية في سبيل فتح الخسفة وإخراج الجثث منها.

لا شهادة وفاة من دون جثة

يشرح المحامي أحمد فتحي، كيف أن القانون العراقي وضع شروطاً لمنح شهادة الوفاة بسبب جسامة الأمر على العائلة معنوياً ومادياً، منها التأكد بشكل واضح لا يقبل اللبس أن الشخص المطلوب إصدار شهادة وفاة بحقه متوفٍ حقيقة من خلال معاينة الجثة ووجود شهود يقسمون أنهم حضروا دفن الجثة، لا أن يكونوا علموا بذلك سماعياً نقلاً عن آخرين.

“الأمر يترتب عليه الكثير من الإجراءات القانونية والشرعية التي تؤثر بنحو كبير في مستقبل العائلة”، يوضح فتحي: “يتوقف على حجة الوفاة تقسيم التركة أو زواج الأرملة مرة أخرى. لهذا، المحكمة تأخذ وقتها في التحقيق قبل منح الحجة. وبالنسبة إلى المفقودين، فالقانون استلزم مرور 4 سنوات لاعتبار المفقود متوفياً، وإلا فإنه حي لغاية مرور تلك المدة، وحينها أيضاً يجب اتخاذ بعض الاجراءات القانونية”.

في مطلع آب 2019، احتشدت عائلات أشخاص (من 2070 شخصاً) الذين أعلن “داعش” عن قتلهم وعلقت أسماءهم في الطب العدلي في زمن سلطته على الموصل، على رصيف جامعة الموصل للمطالبة بفتح الخسفة التي يرجح أن أبناءهم دفنوا فيها.

حمل عشرات لافتات صغيرة فيها أسئلة موجهة للحكومة مثل: “أليس لشهدائنا حقوق؟”، “إلى متى يسمى أبناؤنا مفقودين؟”، “أين دفن أبي؟”.

ياسر الكوياني، وهو ناشط مدني، كان واحداً من بين المتظاهرين. قال بأن ابن عمة له وكان متخلفاً عقلياً، إعتقله التنظيم بتهمة الاعتداء على أحد عناصره، وبعدها بأيام وجدوا اسمه مدوناً في قوائم الموت الداعشية المعلقة في الطب العدلي. ويعتقد بأنه هو الآخر مدفون في الخسفة كما هي حال آلاف المفقودين الآخرين.

وباستثناء إعلان وزير الثقافة والسياحة عبد الأمير الحمداني إقامة نصب تذكاري قرب فوهة الخسفة تذكيراً بالضحايا التي فيها فأن الرد الوحيد الملموس على مطالب المتظاهرين جاء عن طريق منظمة (نينوى التطوعية لإغاثة ودعم النازحين) بإعلانها حملةً وطنية للتذكير بضحايا (الخسفة).

وذكرت المنظمة أن الحملة تهدف الى الضغط على السلطة التشريعية لعد جريمة الخسفة إبادةً جماعية والعمل على توثيق أسماء ضحاياها، داعية الأهالي إلى تسجيل أسماء الضحايا وتفاصيل شخصية إضافة إلى تقديمهم وثائق أو صوراً، يمكن استخدامها كأدلة أو قرائن على الجريمة التي استهدفت الضحية. 

مقبرة المرتدين!

يروي أشرف وهو من سكان مدينة الموصل، كيف أن قوة من “داعش” مؤلفة من ثلاثة عناصر، قامت باعتقال والده الكاتب والتربوي عائد غازي صباح يوم 28/10/2014. “كان وصل للتو إلى المدرسة الابتدائية التي يديرها عندما وجد سيارة بيضاء تنتظره وفيها الرجال الثلاثة”.

وبحسب معلم ضمن الملاك المدرسي، سألوه عند الباب عن اسمه ثم أجلسوه في الحوض الخلفي للسيارة. وبعد 10 دقائق من ذهابهم حاول المعلم الاتصال بمديره لكنه تلقى رداً غاضباً من أحد الأشخاص الذين اعتقلوه، طلب منه عدم تكرار الاتصال وأنه سيعود بعد إكمال التحقيق معه.

بعد أشهر من ذلك علم أشرف من معتقل استعاد حريته وكان مع والده في قاعة الحجز ذاتها أنهم “أتهموه بالكتابة في الصحافة الكافرة والظهور في التلفاز”.

للحظات سكت أشرف ثم تابع: “مجرد محاولة البحث عن شخص أخذوه كانت تعتبر جريمة والموت عقوبة رائجة لأبسط مخالفة”.

على رغم المجازفة الخطيرة لم يتوقف الابن عن البحث، فعلم أن المعتقلين يعرضون على (المحكمة الشرعية) وكانت تعقد في مبنى قائمقامية قضاء الموصل (في الجانب الأيسر)، وانه بعد صدور حكم القتل بحق المتهم، يوضع مع الآخرين في قاعة حجز قبل أن يأتي مسؤول الإعدامات ومعه قائمة بأسماء من سيتم تنفيذ الحكم فيهم.

كانوا يضعون ورقة حكم كل واحد منهم في فمه ويقولون له: “هذا كتابك تأخذه معك ليوم القيامة”. ثم توضع رؤوسهم داخل أكياس وتعصب أيديهم من الخلف ويُساقون إلى مكان الإعدام الذي غالباً ما كان في الخسفة. وينفّذ الإعدام في وقتين، بعد صلاة العشاء أو بعد صلاة الظهر”.

امتلأت عيناه بالدموع وهو يقول: “أبي مر بكل هذا. لم يدلونا على مكان دفن جثته، كما لم يسمحوا لنا بإقامة مجلس عزاء له، فبحسب شرائعهم هو ليس مسلماً ولا ينبغي دفنه في مقابر المسلمين. لذلك كانوا يدفنون المغدورين في مقابر جماعية كالخسفة ويسمونها مقبرة المرتدين”.

الصحافي والمدون شهاب الصفار، الذي قام التنظيم بتصفية شقيقه الأصغر ولم تسلَّم جثته، ينتقد الإجراءات: “الأمر شائك جداً في ما يخص تحصيل شهادة الوفاة، هنالك الكثير من الطلبات التعجيزية… منذ نحو سنتين أعاني من تعقيدات الجهات الإدارية والقانونية، المركزية والمحلية على حد سواء”.

ويضيف: “القانون يشترط وجود جثة قتل صاحبها نتيجة الأعمال العسكرية لتعويض أهله أو في الأقل صرف مستمسكات تؤكد ما آل إليه”. ويدعو إلى تقليل بعض الإجراءات للحصول على شهادات الوفاة، باعتبار ذلك من أبسط حقوقهم. ويتساءل “من دون فتح الخسفة وغيرها من المقابر كيف يمكن أن نثبت وفاة أبنائنا. أليس شرط وجود جثة هنا تعجيزياً؟”.

وبشيء من اليأس، يقول خزعل عز الدين، الذي فقد شقيقين وابن عم بين سنتي 2015 و2016 إن الأمر لا يتوقف عند مجرد فتح المقبرة “هناك آلاف الجثث فوق بعضها ولا شك في أنها تحللت مختلطة ببعضها بعضاً. تحديد هوياتها يحتاج إلى ميزانية كبيرة وجهات دولية متخصصة، قد يستغرق عملها سنوات”.

ماذا لو لم يعثروا على جثته؟

منذ اختفاء أثر (محمد عيسى جبر) في تموز 2015 عقب اعتقاله من قبل عناصر داعش لدى عودته إلى منزله في منطقة (وادي حجر)، وزوجته مع صغارها الثلاثة يتنقلون من منطقة إلى آخرى يطاردهم شظف العيش وبدلات الإيجار التي تجاوزت سقف مقدرتها المادية.

زوجها الذي كان منتسباً لدى شرطة نينوى وقع في “مكيدة داعش” ووقع لها بطاقة التوبة مقابل بقائه وعدم المضي في الطريقين اللذين سلكهما آلاف من زملائه شمالاً وجنوباً هاربين بأنفسهم وعائلاتهم لتتقاسمهم بلاد الهجرة ومخيمات النزوح.

وزارة الداخلية تعتبره خارج الخدمة وهو الآن لا يعد شهيداً، ولا تستطيع زوجته حتى التصرف بقطعة أرض باسمه مساحتها (200م) تقع في شمال غربي الموصل، لأنها غير قادرة على الحصول على شهادة وفاة ومن ثم قسام شرعي لاستكمال تحويل التركة إليها وإلى أطفالها.

تقول: “أصغر أولادي عمره 6 سنوات… هم في حاجة إلى معيل لحمايتهم والإنفاق عليهم، ولن أستطيع فعل شيء لوحدي… نحن لا نملك غير تلك الأرض التي لا يقبل أي مكتب عقارات عرضها للبيع لأن زوجي غير موجود ولا أملك وكالة عنه أو مستمسكات تثبت وفاته”.

توقفت لبرهة قبل أن تضيف: “إذا فتحوا تلك الحفرة ووجدوه سيعطوننا حقوق شهيد. لن أكون أنا وأولادي في حاجة إلى أحد عندها. لكن ماذا لو لم يعثروا على جثته أبداً. ماذا سيحدث لنا؟”.

 

*أنجز التحقيق تحت إشراف شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية وبدعم من منظمة IMS

جزء من مادة التحقيق نشر في موقع “المنصة” الموصلي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here