كيف تجلت ايطاليا بمنابع الفن و الثقافة ابان النهضة الاوربية ؟ *

د. رضا العطار

اذا كان للنهضة الاوربية أم، فأن أمّها ايطاليا. فالنهضة كانت متجذرة في ايطاليا قبل ان يتفق المؤرخون على تسمية هذا العصر بعصر النهضة. فالثقافة والفنون التي نشأت و ازدهرت في ايطاليا، لم تكن الانجازات الحضارية الوحيدة التي انتشرت في بقية العالم الغربي في القرن السادس عشر. ففي ايطاليا حصلت انجازات حضارية ماضية، لاجيال مختلفة كانت سابقة على ما تم تحقيقه في هذا العصر في اوربا، فيما لو علمنا ان ايطاليا هي وريثة الامبراطورية الرومانية العظيمة. بكل امجادها في الفكر والفن والعمارة وصاحبة اللغة اللاتينية التي كانت لغة اوربا كلها قبل نشوء اللغات القومية في القرون الوسطى – – فكل ما ظهر في القرن السادس عشر هو وليد اجيال ماضية من الانجازات الفكرية والفنية والعلمية التي ظهرت نتائجها وقُطفت ثمراتها في القرن السادس عشر الذي كان موسما لنضوج الافكار ونضوج الاساليب ونضوج الرؤى.

لقد وصف المؤرخ الامريكي المعاصر وليم ديورانست ايطاليا في القرن السادس عشر بانها كانت منارا، يشع نوره الى كل انحاء المعمورة، ما عدا بلاد العرب التي كانت صندوقا مقفلا في وجه هذا النور وهذا الاشعاع رغم ان ايطاليا كانت اقرب البلدان الاوربية الى العالم العربي – – – ففي مجال العلوم السياسية والادارة الحكومية كانت ايطاليا نافورة العالم، كما وصفها المؤرخ الانكليزي بلومب – فكان رجال السياسة والادارة من المانيا وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا الذين يسعون الى النبوغ في اعمالهم يذهبون لنهل علومهم من ايطاليا، كان هنري الثامن ملك انكلترا في مقدمتهم، كما جاء من انكلترا توماس كرومل واخرون الى ايطاليا، ولما عادوا الى وطنهم انشأوا المعاهد العلمية والفنية على غرار تلك التي درسوها في ايطاليا.

وكذلك كان الحال مع فرنسا – فمنذ عهد الاصلاح الديني حتى قيام الثورة الفرنسية عام 1789 كان حال فرنسا كحال بقية البلدان الاوربية، متشبعة بروح النهضة الايطالية التي عمت ارجاء اوربا – والتي علّمت اوربا كيف تخطو من خلال المجتمع البرجوازي دون ان تتلوث به. وايطاليا بالتاكيد، هي التي علمت الافراد في اوربا كيف يكونوا طلائعيين. – انها علمتهم ان الثقافة والتعليم هما اثمن ما في الحياة واكثر جدارة وقيمة. وان التجارب الشخصية والافكار التي يكتسبها الانسان من الحياة ومن علاقاته مع الاخرين هي التي تنتج الفن والادب الرفيعين.

وفي هذا القرن ازدهر الادب الايطالي ازدهارا كبيرا بحيث قال المؤرخون انه كان ادبا عظيما مثمرا متوقدا. فكان في كل مدينة ايطالية معهد لبث الاداب والفنون و الشعر الرفيع، فظهر اشهر الشعراء الذين كتبوا الملاحم.
اما المسرح فقد ارتقى رقيا كبيرا وتقدم في ايطاليا تقدما اسرع من باقي البلدان الاوربية الاخرى. – – فبينما كان الغلمان يقومون بدور النساء في المسرح الانكليزي كانت النساء بانفسهن يقمن بادوارهن في المسرح الايطالي، واصبح الممثلون الايطاليون من المع نجوم المسرح في اوربا.

وفي هذا القرن ولدت الاوبرا لاول مرة في ايطاليا وعرفت اوربا الاوبرا من خلال الاوبرا الايطالية – وبدأت الالات الموسيقية الجديدة تظهر على اختلاف انواعها – وبرز العازفون الماهرون الذين اصبحوا فيما بعد من مؤسسي الموسيقى الغربية – فظهر في هذا القرن موتيفردي، عازف الكمان المشهور ومؤلف الاوبرا وقائد الاوركسترا.

في هذا القرن كانت روما قصبة العالم الفنية – فعرفت ايطاليا فن المعمار الباروكي الذي طغى على الفن الغوطي. ولم يقتصر تاثير فن الباروك على المعمار بل امتد اثره الى الادب، فأثر فن الباروك في لغة شكسبير الطنانة الرنانة – وفي مسرح غوته الالماني كما اثر في فن الاوبرا التي وصفت بانها موسيقى باسلوب باروك.

واصبحت ايطاليا، بالاضافة الى هذا كله قائدة اوربا في مجال فن الرسم والنحت والمعمار – حيث ظهر رسامون ومهندسون ومعماريون من امثال العبقري ( رافيل ) ابان القرن السادس عشر والذي يعتبر احد اعظم فناني التاريخ الانساني كله. كما ظهر برنيني، اشهر نحاتي اوربا طوال جيل من الزمان. – وجاء مايكل انجلو النحات والرسام والمعماري الذي اعتبر احد اعظم فناني التاريخ كله، عاش جنبا الى جنب مع الرسام سارتو – – ثم اعقبهم رسامون عباقرة كثيرون.

اما في مجال فلسفة السياسة، فان القارئ اذا ما نسى كل مظاهر النهضة الايطالية فلن يستطع ان ينسى ميكافيلي في هذا العصر الذي كان له تاثير بارز على السياسة والسياسيين – كما كان له تاثير في تاريخ الاداب العربية المعاصرة – فظهر ميكافيلي كمؤلف مسرحي اولا، كتب اول مسرحية كوميدية وهي مسرحية (منداراجولا) – ثم برز كمنظر سياسي حين كتب كتابه المشهور (الامير) كما كتب تاريخ فلورنسا بتكليف من عائلة ميدتشي، حكام مدينة البندقية، فكان هو المؤرخ الرسمي المعتمد في الدولة والتي كانت تتمتع بنفوذ كبير في السياسة والاقتصاد والثقافة والفنون.

* مقتبس من كتاب التكايا و الرعايا للكاتب العربي د. شاكر النابلسي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here