الحياة وعاء فارغ علينا ان نملأه *

د. رضا العطار

انك قد تقول : انني اعلم اني موجود، واما الذي لا اعلمه، فهو معنى هذا الوجود !
ومثل هذا القول – في راينا – تجاهل حقيقة هامة لا بد لنا من العمل على ابرازها وتلك هي ان الوجود قالب فارغ علينا نحن ان نملأه. فليس معنى الحياة كامنا في الحياة، كما يكمن الجنود في مخابئهم وانما يكمن في معنى الحياة فينا نحن اكثر مما يكمن فيها !
ومعنى هذا ان الحياة في ذاتها (هيولى محايدة ) – ان صح التعبير – علينا نحن ان نخلع عليها ما نشاء من (الصور) . وربما كان الخطأ الاكبر الذي طالما وقع فيه القائلون بالعبث او اللامعقول Absurde انهم قد راحوا يبحثون في الحياة عن (صورة) او (معنى) او (ماهية)، فلما لم يجدوها راحوا يعلنون انه لا معنى للحياة على الاطلاق ! وفات هؤلاء انك لا يمكن ان تسأل الرخام او المرمر عن معناه ولكنك تستطيع ان تتطلع الى تماثيل ليوناردودافنشي او ميكائيل انجيلو او روفائيل، فتدرك عندئذ معنى الرخام.
فليس في الحياة ذخيرة حاضرة من (المعاني) بل هناك قوى كامنة نستطيع ان نصنع منها ما نشاء من (المعاني).

واذا كان البعض قد شاء ان يجعل من (الب) معنى الحياة فما ذلك الا لان (الب) كثيرا ما يكون هو الكفيل يملء قالب الحياة الفارغ ! وآية ذلك انك حين تحب، فانك تشعر بانك لم تعد (زائدا عن الحاجة ) – كما يقول التعبير الفرنسي – ما دمت تستمد من (المحبوب) مبررات وجودك وان المحبين ليتطلعون الى العالم فيرونه بعيون جديدة وينظرون الى الطبيعة فيخيل اليهم انهم يرونها للمرة الالى، وما ذلك الا لانهم قد احسوا – على حين فجأة – بان القالب قد امتلأ وان الاطار الفارغ قد اصبح يضم صورة ! – – – لقد كانت حياتهم خاوية جدباء فصارت بعد الحب عامرة حافلة فياضة.

ولما كان من شان المعنى ان يرقى من الجزء الى الكل فليس بدعا ان يكون اللقاء القصير او النظرة الخاطفة او الحديث العابر هو الكفيل باشاعة (المعنى) في الحياة باسرها. ولكن من شان المعنى ايضا ان يهبط من الكل الى الجزء، فالحياة التي يسيّرها دافع قوي سواء أكان هو العمل او الحب او الامل او الدفاع عن الانسانية او غير ذلك – – – لا بد من ان يشيع في اصغر احداثها واتفه مظاهرها احساس عارم بالهدف وشعور حاد بالمعنى.

ومن هنا فان حركة المعنى المزدوجة من الاجزاء الى الكل ومن الكل الى الاجزاء هي بمثابة الصورة الحية التي تشيع لدى الانسان القدرة على مقاومة اللامعقول.
وحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي اندريه مالرو : حين يدرك الانسان ان العالم اقوى من الانسان الا ان معنى العالم اقوى من العالم نفسه يفهم انه هو ربيب المعنى وانه لولاه لصار الوجود واقعا غفلا لا يعني شيئا ! وماذا عسى ان يكون (معنى الحياة البشرية) في النهاية ان لم يكن هو الاعتراف بان الانسان اعظم من (لامعقولية ) الاشياء.

* مقتبس من كتاب فلسفة الحياة لمؤلفه د. زكريا ابراهيم، جامعة القاهرة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here