الدين و الدولة، ح 2 *

د. رضا العطار

كان اليونانيون اول شعوب الارض التي فصلت السياسة عن الدين. وجعلوا مصدر توجيه الجماعة البشرية، هي السلطة التشريعية، وليست السلطة الدينية السياسية المتعالية والمتمثلة ب ( ظل الله في الارض) او (خليفة الله على عباده) – – وبذا فقد كان اليونانيون متقدمين جدا في السياسة وفنونها على الدولة العربية القديمة التي ربطت بين السياسة والدين واعتمدت على التشريع الالهي واعتبرته مصدر السلطة.
علما ان العرب كانوا قبل الاسلام مجتمعات اللادولة. والاسلام هو الذي جاء بالدولة العربية ووحد القبائل العربية تحت راية الاسلام واقام الدولة.

وبعد العام 622 م اي منذ بدأ الدولة العربية الكلاسيكية، كان الخلفاء الراشدين ومعظم الولاة على الامصار وقادة الجيش من قبيلة قريش فقط. ولما اجتمع الاطراف في سقيفة بني ساعدة بعد موت النبي، مستفيدين من الفرصة التاريخية الذهبية في انشغال علي، وهو صهر النبي وابن عمه، بغسل النبي وتكفينه، اقترح المهاجرون والانصار ان يكون لكل منهما امير (منكم امير ومنا امير) الا ان ابو بكر وعمر وقفا لهم بالمرصاد وردوهم واصرا على انتخاب ابا بكر، مما اثار حفيظة القبائل العربية الاخرى – – فقام شعراء وخطباء هذه القبائل يحذرون من الطبيعة القمعية للسلطة المنتخبة. ويذكرون بمظالم الفرس والروم، ليقولوا لهم في النهاية انهم ليسو على استعداد باستبدال سطوات طغاة الفرس والروم بسطوات قريش الحاكمة في مكة والمدينة باسم الاسلام، وهذا نموذج من قصائد هؤلاء الشعراء :

اطعنا رسول الله ما كان بيننا * * فيا لعباد الله ما لابي بكر
اورثها بكرا اذا مات بعده * * وتلك لعمر الله قاصمة الظهر

ولا شك ان قريشا هي المسؤولة طيلة العهود الماضية والحاضرة عن هذا الصراع المحتدم، الدامي احيانا، بين دعاة فصل الدين عن الدولة. وبين دعاة وصل الدين بالدولة. هذا الصراع الذي كلف الامة العربية طوال تاريخها، خسائر روحية ومادية، لا تحصى – وذلك عندما ارست قريش مفهوم الملكية السياسية في الدولة العربية الكلاسيكية طيلة خمسة عشر قرنا من الزمان – – – وفي الصراع الديني بين المسلمين انفسهم الى يومنا هذا. وذلك عندما بدأ التعظيم من شأن قريش والزعم انهم احسن العرب، كانت قريش هي القابضة على الدالين معا : الدين والدنيا.

ونتيجة سوء ادارة الخليفة عثمان والتلاعب في بيت المال ورفضه قبول النصح ممن حوله من الصحابة، وعدم تخليه عن الحكم عندما طالبه الشعب بذلك، قائلا :
( الولاية هي من عند الله وليس من قبل الشعب وان الله هو الذي ينزع عني الملك اذا شاء) ، ولهذا اجهز عليه الجماهير وقتلوه، ولم يصلوا عليه، كما رفضوا دفنه في المقابر الاسلامية – – الا ان موقف عثمان التاريخي اصبح بمثابة الحجر الاساس للحكم الاستبدادي للشعوب العربية الاسلامية، يمارس، والى يومنا هذا، يستعمله الطغاة كسيفا مسلطا على رقاب المعارضة.

واذا فرضنا ان السياسة هي فن الممكن وهدفها الاستحواذ على السلطة واخضاع المجتمع دون ان يكون له موقف اخلاقي – فان هذا الموقف بدأه عثمان بن عفان، لكن ارهاصاته الاولى بدأت منذ حادثة السقيفة.
لقد سلك خلفاء بني امية والعباسيون نهج عثمان في الحكم، مما دفع عبد الملك بن مروان الخليفة الاموي ان يصرح قوله : ( والله اذا قال احدكم : اتق الله ! لضربت عنقه)
فقد اعتبر الحكام العرب المسلمون فيما بعد بانهم خلفاء الله في ارضه وليسو خلفاء النبي – وهو ما يفسر قول معاوية :

( الارض لله وانا خليفة الله، فما اخذت فلي، وما تركته للناس فبالفضل مني )
وقال الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور : ( ايها الناس لقد اصبحنا بحكم الله قادتكم، الذي اعطانا سلطانه واولانا عليكم، فانا سلطان الله في ارضه وحارسه على ماله،
ان شاء، فتحني لاعطيكم، وان شاء لقفلني)

وهكذا نصل بالحكم الالهي الذي لم يعرفه الاسلام بل عرفته الكنيسة الغربية – وهؤلاء هم حكام الشرع وليس الشارع، وراحوا كلما اشتد صوت المعارضة وعلا، يرددون الآيات التي تشير الى خلفاء الله في الارض وحقهم الالهي المقدس في الحكم – ومن الآيات التي درج الحكام ترديدها هي : ( يا داوود انا جعلناك خليفة في الارض، فأحكم بين الناس بالحق)

فقد كانت مثل هذه الايات في يد رجال الدين المتحالفين مع اصحاب السلطان، هؤلاء يدعمون ظلم الدولة. وهذه تقوم بالمقابل بدعم جبروت رجال الدين، تنعم عليهم بالامتيازات المالية – – هذا التحالف، غير المشرف، كان السبب الملح في ربط الدين بالدولة، منذ فجر الاسلام الاول، وهو الذي لم يتماشى يوما مع اماني الشعب في تحقيق الحد الادنى من حقوقه المشروعة ، بل بالعكس، كان سببا في قمعه واضطهاده.
اما السبب الاخر والمهم في ربط الدين بالدولة، هو ظهور الشيعة العلوية بعد حادثة السقيفة الذين بدأوا ينادون بحزم ثابت وعقيدة راسخة ان يكون علي بن ابي طالب، صهر الرسول خليفة المسلمين.

* مقتبس من كتاب الفكر العربي في القرن العشرين المجلد الثالث، د. شاكر النابلسي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here