تحليل مُقارن للكيفية المؤسساتية لإدارة نشاط أعمار العراق

أ. د. جواد كاظم لفته الكعبي

توطئة: في مشروع قانونها لسنة 2019، يُراد من “مؤسسة مجلس الأعمار” أن تكون دولة فاسدة موازية للمؤسسات الفاسدة في الدولة القائمة!

المقدمة:

بتوافق سياسي واجتماعي مُحدد وفي بلد مُحدد وفي لحظة تاريخية مُحددة، يجري إنشاء “المؤسسات” Institutes الحاكمة والناظمة والمُديرة لمختلف أنواع النشاط الإنساني، ومنها نشاط الأعمار، استجابة لاستحقاقات موضوعية مُلّحة يتطلبها الحراك الإنساني المعني في اللحظة الزمنية المُعينة، وفي مستقبل تطور وتغير هذا الحراك. في نشاط الأعمار، تتضمن عملية التكوين المؤسساتي نوعين من المؤسسات: الأول، “مؤسسة القانون” الحاكم والناظم لنشاط الأعمار؛ والثاني، “مؤسسة مجلس الأعمار” ككيان أو هيكل إداري مُكلف بإدارة نشاط الأعمار على وفق الحقوق والقواعد والآليات والأدوات التي تتضمنها أحكام وضوابط مؤسسة القانون. في الوقت نفسه، ينبغي لعملية تكوين المؤسستين المذكورتين أن تجري بما لا يُناقض أو يُخالف أو يَتقاطع بعضها مع البعض الآخر، أو مع فعل المؤسسات السائدة في البلاد وقتها، ومنها مؤسسات الدستور والتشريعات النافذة، فضلا عن الأخذ بعين الاعتبار التجربة التاريخية السابقة لعمل هاتين المؤسستين عندما تنشأ حاجة جديدة إلى إحيائهما أو تطويرهما أو تغييرهما.

منذ خمسينات القرن المُنصرم ولغاية الآن، جرى التكوين المؤسساتي لنشاط الأعمار في بلادنا عبر ثلاثة قوانين حاكمة وناظمة لهذا النشاط (قوانين: 1950، 1953، 1959)، وبخمسة كيانات إدارية مختلفة (كيانات: مجلس الأعمار، مجلس الأعمار ووزارة الأعمار، مجلس التخطيط الاقتصادي ووزارة التخطيط)، وفي عام 2019 تم طرح مشروع قانون رابع وبكيان سادس (كيان مجلس الأعمار) لهذا النشاط، مع الإشارة إلى استمرار كيان وزارة التخطيط في هذا المشروع بمظهرين مختلفين: مظهر عضوية الوزارة في مجلس الأعمار، ومظهر الوزارة ككيان إداري ضمن الكيان السيادي لمجلس الوزراء. توافقت مؤسسات وكيانات نشاط الأعمار للفترة 1950-1959 مع مفهوم الأعمار المطروح فيها، الأمر الذي قاد إلى نجاحها بامتياز، بينما أخفقت مؤسسات وكيانات الفترة 1959-2019 بامتياز أيضا في ذلك، وسيصيب الإخفاق مؤسسات وكيانات فترة 2019- …؟ الواردة في مشروع قانون مجلس الأعمار الجديد، كما نرى

ذلك في هذا البحث، بسبب تناقضاتها الداخلية، وتناقضها مع المؤسسات والكيانات القائمة حاليا في البلاد. في البحث، وبقسمين، نُجري تحليلا مُقارنا لفعل هذه المؤسسات والكيانات في نشاط الأعمار، بهدف تقرير مدى استجابتها أو عدم استجابتها لشروط تكوينها في الظروف المختلفة: الأول، الارتقاء المؤسساتي لإدارة نشاط أعمار العراق؛ الثاني، تحليل مُقارن لأنظمة إدارة الأعمار في قوانين مجلس الأعمار. في خاتمة البحث، سنقدم مُقترح مؤسساتي الطابع والإجراء التنفيذي لتكوين كيان “مجلس الأعمار” من منظور مؤسساتي وتنظيمي مُختلف.

القسم الأول: الارتقاء المؤسساتي لإدارة نشاط أعمار العراق

يُعدّ “قانون مجلس الأعمار”، من منظور منهجية التحليل المؤسساتي لإدارة أنشطة الأعمال المختلفة (أنظر هذه المنهجية في: لفته، 2011: 181-185؛ الكعبي، 2017: 37-63)، بمثابة تكوين لمنظومة System مؤسساتية كلية، مُتكونة من منظومتين فرعيتين Subsystems مختلفتين في الشكل والمضمون لإدارة نشاط الأعمار المُستهدف التحقيق: منظومة “القانون” Law بوصفها منظومة حاكمة للنشاط، ومنظومة “المجلس” بوصفها كيانا أو هيكلا Structure إداريا/تنظيميا لتحقيق هذا النشاط. سنقوم في هذا القسم من البحث بالتعريف بهذا المنهج أولا، وثانيا استخدامه في تحليل ظروف نشأة المنظومتين الفرعيتين المذكورتين في أعلاه.

أولا. مفهوم المنظومة المؤسساتية الكلية لإدارة نشاط الأعمار:

إن المقصود بالمنظومة المؤسساتية الكلية لإدارة نشاط الأعمار هو إجمالي قواعد ونُظّم وقيّم مختلفة، سياسية واقتصادية وتنظيمية وقانونية واجتماعية وغيرها، حاكمة وموجهة لأنماط سلوك المُشاركين في هذا النشاط، حيث لا يمتلك الأفراد أو مجموعات الأفراد بالأساس أية سلطة شكلية (رسمية) أو غير شكلية فوقها من منظور الفترة القصيرة أو منظور الفترة المتوسطة، إذ أن تغييرها أو تطويرها أو إلغاءها أو إحيائها يتطلب توافقا اجتماعيا وسياسيا جديدا وفترة زمنية كافية. تستهدف المنظومة المؤسساتية الكلية لإدارة نشاط الأعمار تقرير الشروط التي يجري بموجبها تحقيق الاختيار الفردي أو الجمّعي لخيارات القرارات التنظيمية ذات الصلة بإنتاج وتوزيع واستخدام الموارد الاقتصادية لنشاط الأعمار (وهي موارد نفطية تتراوح نسبة تمويلها لمشروعات الأعمار في العراق ما بين 100% في قانون سنة 1950 و5% في مشروع قانون سنة 2019). في الوقت نفسه، تَشّرع المنظومة المؤسساتية الكلية لإدارة نشاط الأعمار بالأداء الوظيفي الكفء والفعال والايجابي فقط عند الالتزام الصارم بمتطلبات قواعد السلوك (فضلا عن الاشتراط المتبادل للالتزام بهذه القواعد)، إذ بدون

مثل هذا الالتزام فإن مُهمة تحقيق أية أهداف لإدارة هذا النشاط ستفتقد لأي معنى تنظيمي أو اقتصادي أو اجتماعي. يمكن النظر في مفهوم “المؤسسات” بعدّها:

· حقوق وقواعد/معايير وآليات وأدوات وقيّم سلوك مُقننة بالقانون أو العُرف والتقاليد، تضمن مصالح وتطلعات جميع الأطراف المُشاركة في النشاط المعني.

· المؤسسات بوصفها كيانات أو هياكل تنظيمية (منظمات الأعمال)، أو حكومية (أجهزة سلطة الدولة، ومنها مجلس الأعمار)، أو سياسية (الأحزاب والمنظمات السياسية)، أو اجتماعية (اتحادات مهنية ومنظمات المجتمع المدني غير الحكومية).

· المؤسسات بمعناها الواسع، أي الثقافة ونمط التفكير والسلوك وغيرها.

يُمكن لمؤسستي الأعمار (القانون والكيان) أن تُستخدما بطريقة تعسفية أو غير هادفة، عندما تكون دوافع وطبيعة استعمالهما، من قبل مؤسسيهما ومستخدميهما، مُغايرة أو مُتقاطعة مع الحد الأدنى من القواعد والقيّم، التي تتوافر عليها هاتين المؤسستين لأداء وظيفتيهما الأساسية في تخفيض مستويات تكاليف إدارة نشاط الأعمار وما يصاحبها من مستويات حالات عدم التأكد والمخاطرة في الاقتصاد والمجتمع، والتي يُمكن الوصول إليها فقط عبر الالتزام بمعايير وقواعد وقيّم السلوك، والأخيرة تمثل جوهر المؤسسات. إن الاستعمال غير الهادف لمؤسستي الأعمار يُمكن أن يتجلى في أشكال واتجاهات مختلفة، ويُمكن لهذا الاستعمال أن يتحقق من خلال المظاهر الرئيسة الآتية، كعوائق مؤسساتية وتنظيمية كبيرة أمام عمليات تحقيق الأعمار المنشود:

· استغلال المؤسسات لتحقيق منافع ضيقة بدون الخشية من العقاب أو المساءلة القانونية، نتيجة لغياب أو ضعف آليات الرقابة الداخلية والخارجية في فعل هذه المؤسسات.

· التلاعب بالمؤسسات لتبرير سلوك تنظيمي يتطابق شكليا مع “نص” المؤسسات، ولكنه يتقاطع مع “الروح” أو الغاية التي تنشدها هذه المؤسسات.

· استخدام المؤسسات بمثابة غطاء للتمويه في “ظله” على نشاط أو سلوك تنظيمي غير قانوني أو غير شرعي.

· إخضاع المؤسسات و/أو “خصخصتها”، بمعنى الاستحواذ غير المشروع على المؤسسات لصالح فئة أو فئات اجتماعية أو سياسية معينة، من خلال عمليات تحويل المؤسسات من كونها منفعة مُجتمعية عامة إلى مصدر فئوي لجني الريع من استعماله.

هذه المظاهر وغيرها للاستعمال غير المشروع للمؤسسات في غير الأغراض التي جرى بموجبها تأسيسها، تقود منطقيا إلى التصاعد الحاد والواسع النطاق في مقدار تكاليف المعاملات

التجارية، أي تكاليف إدارة نشاط الأعمار، الأمر الذي يقود إلى إنتاج بيئة مؤسساتية فاسدة ستعوق بدورها عمليات تطوير وتحديث وتنمية البلاد، ما لم تَشّرع مؤسسة الدولة وضحايا الاستعمال غير المشروع لمؤسستي الأعمار المذكورتين بتبني وتحقيق سياسات وإجراءات عاجلة في الإصلاح المؤسساتي. يمكن لنشاط الأعمار أن يجري تحقيقه و/أو عدم تحقيقه في ثلاث حالات من التنظيم المؤسساتي لإدارته:

· حالة غياب القوانين والحقوق والقواعد والآليات والأدوات، المُنظّمة لإدارة نشاط الأعمار.

· حالة وجود القوانين والحقوق والقواعد والآليات والأدوات، التي تنشئ وتُكرّس الفساد في إدارة نشاط الأعمار (أطلق أحد الباحثين على مؤسسة مجلس الأعمار في مشروع قانونه لسنة 2019 تسمية “شركة قابضة” Holding Company. السعدي، 2019).

· حالة وجود القوانين والحقوق والقواعد والآليات والأدوات، التي تناهض الفساد في إدارة نشاط الأعمار (الحالة المُقترحة لتكوين “مجلس أعمار اتحادي” في خاتمة هذا البحث).

وبما أن المؤسسات تُنشأ وتُؤسس نتيجة لتوافق سياسي واجتماعي معين في مرحلة تاريخية معينة لتحقيق وظائف مُحددة، تُنظّم وتضبط طوعا أو بالإجبار الحكومي السلوك التنظيمي للأطراف المُشاركة في النشاط، فإنها أيضا بحاجة إلى الحماية الدستورية والسياسية والاجتماعية والمعنوية من نزعات الاستعمال غير الهادف والمُتعسف وغير المشروع لها، إذ أن وظيفة حماية المؤسسات لا تقل أهمية عن وظيفة تكوين المؤسسات نفسها. إن المؤسسات الحاكمة والناظمة لنشاط الأعمار (القانون والكيان) ستكون ضعيفة وقابلة للاختراق والاستعمال غير المشروع لها في أحد أو جميع الظروف المحتملة الآتية:

· أدلجة وتسييس المؤسسات بما يتلاءم مع أهداف النظام السياسي القائم في البلاد.

· وجود بيئات مؤسساتية سياسية واقتصادية وقانونية طيّعة على الإدارة غير المحترفة.

· عدم الصياغة القانونية أو المفهومية أو اللغوية الواضحة والقاطعة الدلالات للحقوق والقواعد والآليات والأدوات التي تتضمنها المؤسسات.

ثانيا. الظروف المُصاحبة لنشوء المنظومة المؤسساتية الكلية لإدارة نشاط أعمار العراق:

تُولد المؤسسات الحاكمة والناظمة لإدارة النشاط الاقتصادي استجابة لحاجات مجتمعية مًلّحة، أفرزها حراك سياسي واقتصادي فاعل في لحظة زمنية معينة. في الصفحات القليلة التالية، سنرصد الظروف التي صاحبت ولادة وتطور واختفاء المؤسسات المعنية بإدارة نشاط الأعمار في أربع محطات تاريخية تغطي فترة زمنية طويلة (1950-2019) من التكوين المؤسساتي للدولة العراقية.

1. قانون مجلس الأعمار رقم (23) لسنة 1950. لا يتوفر هذا القانون على أسباب موجبة لتشريعه. لقد جاء هذا القانون استجابة لتحقيق أمرين: الأول، تلبية لاشتراط البنك الدولي للأعمار والتطوير عام 1950 في إنشاء مجلس خاص للإشراف على صرف القرض الذي طلبه العراق لتنفيذ مشروع سد الثرثار (حسين، 2017: 515)؛ الثاني، استجابة لتوقعات الحكومة العراقية بزيادة إيراداتها النفطية بعد توقيع اتفاقية مناصفة الأرباح عام 1950 بين الشركات النفطية الدولية وحكومات البلدان المنتجة للنفط في الشرق الأوسط (أبرم العراق هذه الاتفاقية في عام 1952).

2. قانون مجلس الأعمار ووزارة الأعمار رقم (27) لسنة 1953 (بموجب المادة الثالثة والعشرون منه، تم إلغاء قانون سنة 1950 السابق عليه). وبما أن هذا القانون لا يتوفر أيضا على أسباب موجبة لتشريعه، عندها سنحاول التفتيش عن الظروف المصاحبة لتشريعه من خلال مُقارنة أحكامه ذات الصلة مع أحكام القانون السابق عليه. تشترط أحكام قانون سنة 1950 (المادة الثالثة/الفقرة 1/ البند أ/ب، الفقرة 2/3) أن “يقدم مجلس الأعمار إلى مجلس الوزراء مشروعا اقتصاديا وماليا عاما لتنمية موارد العراق ورفع مستوى معيشة أفراده لغرض رفعه إلى مجلس الأمة” للمصادقة عليه، فضلا عن قيام مجلس الأعمار “بتنسيق المشاريع العمرانية التي قد تنشأ في الوزارات المختصة”. ومن أجل تحقيق واجبات مجلس الأعمار المذكورة، كما نعتقد، اقتضت الحاجة إلى إنشاء كيان مؤسساتي جديد ضمن الكيان المؤسساتي القائم لمجلس الأعمار نفسه هو “وزارة الأعمار” يتولى التنفيذ المباشر لتلك الواجبات (أحكام قانون سنة 1953: المادة الأولى، المادة الثانية، المادة الثانية عشرة/4، المادة الثالثة عشرة/1، المادة التاسعة عشر). فضلا عن ذلك، يلتزم مجلس الأعمار في قانونه لسنة 1950 بتسليم “… المشاريع المنجزة من قبله إلى الوزارات المختصة لإدارتها وصيانتها” (المادة الثالثة عشرة/5، وهو الالتزام نفسه في المادة الرابعة عشرة/3 من قانون 1953). ومن خلال استعراضنا لأسماء الوزراء الموقعين على القانونين المذكورين، نلاحظ عدم وجود العدد الكافي من الوزارات القطاعية لإدارة مشروعات مجلس الأعمار المُنجزة (في قانون سنة 1950: وزارة المواصلات والأشغال، ووزارة المعارف؛ في قانون سنة 1953: وزارات الزراعة، المواصلات والأشغال، ووزارة المعارف)، وهو أمر، كما نعتقد أيضا، تطلب تأسيس وزارة الأعمار لإدارة تصميم وتنفيذ مشروعات الأعمار من قبل مجلس الأعمار.

3. قانون السلطة التنفيذية للجمهورية العراقية رقم (74) لسنة 1959 (بموجب المادة الثانية والعشرين منه، تم إلغاء قانون سنة 1953 السابق عليه). هذا القانون لا يتوفر أيضا على أسباب موجبة لتشريعه. بموجب المادة الثانية منه، عُدّت وزارة التخطيط ضمن تشكيلة مجلس الوزراء،

وبموجب الفقرة (2) من المادة التاسعة للقانون تم إنشاء “مجلس التخطيط الاقتصادي”، وبموجب المادة التاسعة عشرة منه “يزاول مجلس التخطيط الاقتصادي صلاحيات مجلس الأعمار الملغى…”. يرى أحد الباحثين (علي، Sotaliraq.com/2019/09/21) في تفسيره لإلغاء مجلس الأعمار ووزارة الأعمار بعد عام 1958 السبب الآتي: “في العهد الجمهوري وجدوا أن منهاج الأعمار هو في الواقع منهاج استثماري… وأرادوا التخطيط للتنمية فصارت تسمية مجلس الأعمار مجلس التخطيط”. ربما الأمر هكذا، ولكن توسيع تشكيلة مجلس الوزراء بإضافة وزارات اقتصادية قطاعية جديدة (منها وزارات الإصلاح الزراعي والصناعة والنفط) وانخراط البعض منها (وزارتي الصناعة والإصلاح الزراعي) في عضوية مجلس التخطيط الاقتصادي المُستحدث، قد أحدث تغييرا نوعيا كبيرا في عمليات إدارة أعمال الأعمار المُستهدفة التحقيق في البلاد، الأمر الذي تطلب استحداث كيانين مؤسساتيين لاستيعاب هذا التغيير: كيان وزارة التخطيط، وكيان مجلس التخطيط الاقتصادي، ليحلان محل كيان وزارة الأعمار وكيان مجلس الأعمار في قانون سنة 1953. قد يكون أمر إلغاء مجلس الأعمار ووزارة الأعمار ليس بهذا القدر من التعقيد الذي نبحثه هنا، كل ما في الأمر وببساطة شديدة ربما أراد رجال العهد الجمهوري قطع الصلة بمؤسسات العهد الملكي (الذي أسموه في خطابهم السياسي بالمُباد) استجابة للمد الثوري الذي اجتاح البلاد وقتها بعد ثورة 14 تموز 1958.

4. مشروع قانون مجلس الأعمار لسنة 2019 (بموجب المادة 31 منه، تم إلغاء قانون سنة 1953 الملغى عام 1959 وليس قانون سنة 1959!). يمتلك هذا القانون الأسباب الموجبة لتشريعه، ولكن لا يُفّهم منها ظروف ومُبررات إعادة إحياء “مؤسسة مجلس الأعمار”، إذ أن غرض “تنفيذ المشاريع الكبرى بفاعلية وحسن تخطيط وإدارة… وتنفيذ مشاريع التنمية ذات الأهمية الاقتصادية للتنمية… وإنشاء المشاريع الإستراتيجية والصناعية والزراعية والصحية…” (الأسباب الموجبة لمشروع القانون) لا يُمكن لها أن تكون مُبررات موضوعية كافية لإعادة إحياء مجلس الأعمار المُلغى منذ سبعين عاما تقريبا، ولا يمكن لها أيضا أن تكون بمثابة قواعد وآليات وأدوات تضمن “… تأسيس مجلس يتكامل بالأهداف ويتوازن مع باقي مؤسسات الدولة ويتمتع بصلاحيات واسعة لكي يتولى التعاقد والرقابة والإشراف ومتابعة المشاريع وإدامة تشغيلها…” (الأسباب الموجبة لمشروع القانون)، كما سيرد تفصيله في هذا البحث. في السياق، يرى أحد الباحثين (علي، Sotaliraq.com/2019/09/21)، أن مجلس الأعمار في مشروع القانون المعني جاء لمعالجة الخلل في عمل المؤسسات المسئولة عن المشروعات الاستثمارية الحكومية الواردة في الموازنات العامة، ومرّكزة صلاحيات إدارة وتنفيذ المشروعات الاستثمارية الحكومية التي تتولاها وزارة التخطيط

ووزارة المالية واللجنة الاقتصادية لمجلس الوزراء وهيأة المستشارين ومستشاري الرئاسات الثلاث والكثير من اللجان في مجلس النواب ومجلس الوزراء. في هذه الحالة، نحن نرى، بأن مؤسسة قانون مجلس الأعمار في حال تشريعه بصورته الحالية ستكون بمثابة “ضربة جزاء!” في مرمى جسد مؤسسة الدولة العراقية القائمة، إذ سيمتلك هذا المجلس سلطات تخطيطية ومالية وتنفيذية ورقابية في مجالات الاستثمار والتنمية، يُراد منها أن تكون موازية لسلطات مجلس الوزراء والوزارات السيادية والقطاعية وأجهزة الدولة الأخرى المعنية، التي أناط بها دستور البلاد النافذ واجب تخطيط وتنفيذ ورقابة أداء هذه المجالات. وبالنتيجة، سيصبح مجلس الأعمار مؤسسة موازية لمؤسسة الدولة (أو دولة داخل الدولة!)، لا يتكامل معها بالأهداف ولا يتوازن معها في تحقيق الأهداف المنشودة من عمليات الأعمار والاستثمار التي تراها الأسباب الموجبة لمشروع قانون المجلس.

القسم الثاني: تحليل مُقارن لأنظمة إدارة نشاط الأعمار في قوانين مجلس الأعمار

أولا. أهداف مجلس الأعمار ووسائل تحقيقها في القانون:

تَضَمّن قانون مجلس الأعمار لسنة 1950 (وكذلك قانون مجلس الأعمار ووزارة الأعمار لسنة 1953) هدفين إستراتيجيين رئيسين على المجلس تحقيقهما: الأول، تنمية موارد العراق المُستغلة وغير المُستغلة؛ الثاني، رفع مستوى معيشة أفراده (المادة الثالثة/1/أ/ب؛ المادة الثانية عشرة/1 من القانونين على التوالي). يجري تحقيق هذين الهدفين من خلال صياغة المجلس لمشروع اقتصادي ومالي عام، في هيأة منهاج عام للمشروعات التي ينبغي القيام بها من قبله، وتقديم هذا المنهاج لمجلس الوزراء للموافقة وعرضه على مجلس الأمة للمصادقة عليه. بعد المصادقة على المنهاج العام، يُباشر مجلس الأعمار بتنفيذ المشروعات الواردة فيه من خلال قيام المجلس “… بإعداد الخطط والمواصفات التفصيلية للمشاريع المذكورة فيه ويباشر بتنفيذها حسب درجة أسبقيتها المقررة” (المادة الثالثة/1/د؛ المادة الثانية عشرة/1/2/4/5 من القانونين على التوالي)، فضلا عن قيام المجلس “… بتنسيق المشاريع العمرانية التي قد تنشأ في الوزارات المختصة والتي تتعلق بمنهاجه” (المادة الثالثة/3 من قانون سنة 1950)، مع الإشارة إلى أن وظيفة المجلس في تنسيق جهود المشروعات العمرانية التي تُنفذها الوزارات المختصة قد اختفت من قانون سنة 1953، وعلى ما يبدو بسبب تأسيس وزارة الأعمار للقيام بهذه الوظيفة، مع تأكيدنا على أن القانون لم يشّر إلى هذا الأمر لا ضمنا ولا صراحة.

في قانون السلطة التنفيذية للجمهورية العراقية لسنة 1959، جرى إلغاء كل القوانين المتعلقة بمجلس الأعمار ووزارة الأعمار (المادة الثانية والعشرون)، وتبنى مجلس الوزراء سلطة تعيين أسس السياسة الاقتصادية وميزانية المشروعات الرئيسة (المادة التاسعة/3/أ)، ولم يجر فيه صياغة أية أهداف إستراتيجية من وراء تأسيس وزارة التخطيط (المادة التاسعة/1/أ) ومجلس التخطيط الاقتصادي (المادة التاسعة/2/أ/ب/ج). بموجب هذا القانون، كُلّفت وزارة التخطيط بوضع الخطة الاقتصادية التفصيلية وميزانية التخطيط للمشروعات الرئيسة استنادا إلى توجيهات مجلس الوزراء ومجلس التخطيط الاقتصادي واقتراحات وخطط الوزارات المختصة. بموجب هذا القانون، يتولى مجلس التخطيط الاقتصادي مهام “وضع خطط تفصيلية لتنفيذ سياسة مجلس الوزراء الاقتصادية”، و”دراسة وتعديل الخطة الاقتصادية التفصيلية التي يعرضها عليه وزير التخطيط”، وأخيرا “اتخاذ الإجراءات لمراقبة تنفيذ الخطة الاقتصادية التفصيلية”. تلاحظ هنا ازدواجية العمل التخطيطي ما بين وزارة التخطيط ومجلس التخطيط الاقتصادي بشأن صياغة الخطة الاقتصادية التفصيلية للمشروعات الرئيسة للتنمية. لقد حل مجلس التخطيط الاقتصادي ووزارة التخطيط محل مجلس الأعمار ووزارة الأعمار في التخطيط لمشروعات الأعمار وتنفيذها، ولكن من دون امتلاك مؤسسة مجلس التخطيط الاقتصادي سلطات وصلاحيات مؤسسة مجلس الأعمار المُلغاة في التصميم والتنفيذ المباشرين لمشروعات الأعمار المُستهدفة.

في مشروع قانون مجلس الأعمار لسنة 2019، تختلط أهداف ووسائل تحقيق أهداف ومهام مجلس الأعمار بشكل مفاهيمي ومنهجي وإجرائي فيما بينها، حيث يصعب عندها التفريق بين الهدف ووسيلة تحقيقه ومهمة ومسؤولية المجلس في كل هذا الخلط المؤسساتي الواسع النطاق. الهدف هو خطة أفعال مترابطة ومتعاقبة للوصول إلى تحقيق غرض ما ينشده واضع الهدف، بينما وسيلة تحقيق الهدف هي آلية و/أو أداة تستخدم للوصول إلى الغرض المنشود من الخطة، أما المهمة فهي الواجب أو الوظيفة التي ينبغي على واضع الهدف أداءها لاستخدام وسيلة تحقيق الهدف المعني. لقد سبق لكاتب هذه السطور معالجة الخلط المؤسساتي المذكور في دراسة قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018 (الكعبي، شبكة الاقتصاديين العراقيين، في 29/6/2018)، أوضحنا فيها الخلل المنهجي الكبير في صياغة الأهداف ووسائل تحقيقها، ومنها المطابقة ما بين الهدف والنتيجة المرجوة من تحقيق هذا الهدف، وغياب مسؤولية الشركة وأجهزة إدارتها وقادتها عن كفاءة وفاعلية ومنفعة وعدالة نتائج نشاطها في إدارة موارد البلاد النفطية. على سبيل المثال وليس الحصر، تأتي عملية تعاقد مجلس الأعمار لتنفيذ مشروعاته في مشروع قانونه لسنة 2019 كهدف

(المادة 3/أولا/تاسعا)، وكمهمة (المادة 7/أولا/سادسا)، وكوسيلة (المادة 10/ثانيا/ثالثا/سابعا). من جانب آخر، وبعد سبعين عاما من الارتقاء المؤسساتي غير المتوازن للدولة العراقية في صياغة أهداف إدارة أعمال الأعمار فيها، لم يجد المُشرّع أمامه في سنة 2019 سوى هدفيّ مجلس الأعمار في قانون تأسيسه الأول سنة 1950 (تنمية موارد العراق، ورفع مستوى أفراده)، ليدرجهما ضمن أهدافه التسعة (المادة 3/ثانيا/سادسا)، نافيا بذلك تأثير الظروف المختلفة في تكوين المؤسسات وصياغة أهداف ووسائل تحقيق أهداف نشاطها، وهو أمر مُفزع مؤسساتيا في إدارة الدولة ومُنافي لمنطق التغير والتطور في أداء المؤسسات المعنية.

ثانيا. الطبيعة القطاعية وأسبقيات مشروعات مجلس الأعمار ومصادر تمويلها في القانون:

في هذا الجزء من البحث، نستثني من التحليل طبيعة مشروعات الأعمار لمجلس التخطيط الاقتصادي في قانون سنة 1959، بسبب عدم ورود نص بتعدادها واكتفاء القانون بتوصيفها بكونها “مشاريع رئيسية” فقط (المادة التاسعة/3/أ).

1. يُمكن وصف مشروعات مجلس الأعمار في قانوني تأسيسه الأول 1950 والثاني 1953 بصفة التكوين للشروط المادية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن المشروعات المُدرجة في المنهاج الأعماري لكليهما تتضمن مشروعات البنى التحتية المادية (الري وخزن المياه وتصريفها ومكافحة الفيضان، طرق المواصلات النهرية والبرية والجوية، والأبنية العامة)، ومشروعات البنى الإنتاجية (الصناعة والتعدين والكهرباء)، ومشروعات البنى التحتية الاجتماعية (السكن العائلي، وتحسين القرى والأرياف). في القانونين، كُلفَ مجلس الأعمار ليس فقط بالتحري عن وتنمية موارد البلاد الاقتصادية، وإنما أيضا بواجب تقرير أسبقية هذا المشروع أو ذاك ضمن المشروعات المُدرجة في منهاجه الأعماري. لم يترك القانون أمر تقرير أسبقية المشروعات في التصميم والتنفيذ للاجتهاد الشخصي لأعضاء مجلس الأعمار، وإنما قرر بنفسه المعايير الواجب استخدامها لذلك: في قانون 1950 معياري كلفة المشروع التقريبية والمدة اللازمة لتنفيذه (المادة الثالثة/1/أ، وفي تقديرنا جاء اعتماد هذين المعيارين تحت ضغط قلة الموارد المالية والحاجة للإسراع بتنفيذ مشروعات الأعمار)، وفي قانون 1953 أربعة معايير هي: الأهمية الاقتصادية للمشروع، مدى أثره في زيادة الدخل القومي، مدى تسهيله تحقيق المشروعات الأخرى، وضمان التوازن والتكامل بين المشروعات (المادة الثانية عشرة/2، وفي تقديرنا أيضا جاء اعتماد هذه المعايير بعد توفر وفرة مالية للدولة نتيجة لتطبيق مبدأ مناصفة الإرباح بين الحكومة العراقية وشركات النفط الدولية العاملة في العراق، والارتقاء النوعي في أداء مجلس الأعمار).

2. من استعراض المشروعات (عددها 12) المُكلف بتصميمها وتنفيذها مجلس الأعمار في مشروع قانونه لسنة 2019 (المادة 14/ثالثا)، نكتشف أن ستة مشروعات منها (الستة المتبقية هي: المدن الجديدة، المدن الصناعية، المدن الطبية، المدن التعليمية، السياحة، والرياضة) جرى إدراجها في “المشروع الاقتصادي العام” لمجلس أعمار خمسينات القرن المُنصرم (الإسكان، الصناعة، المواصلات، الاتصالات، الطاقة، والري)، وهو أمر يُعطي الانطباع بأن “مؤسسة مجلس الأعمار” ووزارتها للأعمار (للفترة الأولى 1950-1959) و”مؤسسة مجلس التخطيط الاقتصادي” ووزارتها للتخطيط (للفترة الثانية 1959-2019) قد فشلت جميعها في التحري عن وتنمية موارد البلاد المُستغلة وغير المُستغلة من خلال عمليات تصميم وتنفيذ مشروعات البنى التحتية المادية والاجتماعية، المُوصلة إلى الرفع من مستوى معيشة الشعب العراقي، على الرغم من أن مجلس أعمار الفترة الأولى المذكورة قد نجح بامتياز بأداء هذا الهدف الإستراتيجي الكبير، بينما مجلس التخطيط الاقتصادي قد فشل بامتياز أيضا في تحقيق هذا الهدف. لقد نجح مجلس أعمار سنة 1950 في مهمته لكونه مؤسسة مستقلة ماليا وإداريا ومحمية بقوانين وأعراف بيئة مؤسساتية لا تُجيز التدخل في عمله: “كان يراد لمجلس الأعمار أن يكون جهة أعلى من الوزارات بحيث أنها تأخذ توصيات منه في التصميم والتنفيذ وهو يشرف على أداءها في مجال الأعمار، ووضعت له قوانين تحدد مهامه وتحد من التدخل في شؤونه، لكن بعد فترة أُنشئت وزارة الأعمار حسب قانون (27 لسنة 1953) مع وجود مجلس الأعمار، وهناك تنازلت وظيفة المجلس إلى مستوى وزارة، وأخذت الازدواجية طريقها إليه، وأصبح كبقية الوزارات لا جهة عليا مسؤولة عن الأعمار” (حسين، 2017: 514). وفي الفترة الثانية المذكورة هنا، تَبنّى مجلس التخطيط الاقتصادي الجانب الفني (التصميم، بمعنى التخطيط للمشروعات) من عمل مؤسسة مجلس الأعمار المُلغاة، نافيا بذلك جوهر مفهوم “المؤسسة” المتمثل بالحقوق والقواعد/المعايير والآليات والأدوات الحاكمة والناظمة والحامية لنشاط الأعمار. وعلى ما يبدو من أحكام مشروع قانون سنة 2019، فإن مجلس الوزراء الاتحادي (صاحب مشروع القانون) قد تَبنّى أيضا فَهّم الفترة 1959-2019 لمؤسسة مجلس الأعمار المُلغاة.

3. في قانوني مجلس الأعمار الأول (1950) والثاني (1953)، يتولى المجلس مهام وضع مشروع اقتصادي ومالي عام (منهاج عام)، تُدرج فيه مشاريع الأعمار الواجب انجازها، ويقوم المجلس بتقرير أسبقية هذا المشروع أو ذاك بالتصميم والتنفيذ على وفق معايير معلنة ومحددة، وبعد انجاز مشروع الأعمار المعني، يُسلم المجلس المشروع للوزارة المختصة لإدارته وصيانته، وبذلك لا يحقق المجلس أية أرباح من نشاطه. في قانون سنة 1953 (المادة الخامسة عشرة)، “تقسم مشاريع المجلس المقرر

انجازها إلى قسمين الأول المشاريع العمرانية الكبرى ويرصد لها في المنهاج العام المبالغ اللازمة تحت باب واحد والثاني المشاريع العمرانية الصغرى ويرصد لها المبالغ اللازمة في المنهاج العام تحت باب آخر وينيط المجلس تنفيذها إلى الدوائر الحكومية حسب اختصاصها”. في مشروع قانون سنة 2019، لا يمتلك مجلس الأعمار مشروعا اقتصاديا عاما، ولا يمتلك المعايير الواضحة لتقرير أسبقية مشروعات الأعمار الواردة فيه (أنظر المادة 14/أولا)، وليس معروفا الشخص أو الشخوص المُنفّذة لمشروعات أعماره، ولمن ستؤول ملكية وإدارة وإدامة المشروعات المُنجزة، وكيف يمكن للمجلس من بيع أرباحه! (المادة 10/رابعا)، ولمن سيبيع هذه الأرباح؟ وما هي علاقة توزيع أرباح الأسهم المملوكة للمجلس في مشروعاته للمواطنين العراقيين بالتشغيل التجاري الناجح للمشروع؟ ومن سيُشغّل تجاريا هذا المشروع؟ وفي أية مرحلة من مراحل التصميم والتنفيذ والتشغيل سيمتلك المجلس فيها المشروع الأعماري ليتسنى له على أساس قيمته الرأسمالية أو السوقية إصدار الأسهم وبيعها؟

4. في قانون سنة 1950 (المادة الرابعة/1)، حُددت ثلاثة مصادر لتمويل مشروعات مجلس الأعمار: “تكون للمجلس ميزانية خاصة وتتأتى من مجموع واردات الحكومة من النفط والمبالغ الأخرى التي يخصصها له مجلس الأمة من وقت لآخر وتدرج في ميزانيته حصيلة القروض الداخلية والخارجية التي يعقدها المجلس وفق هذا القانون أو تعقدها الحكومة بالنيابة عنه على أن يقوم المجلس بإطفاء تلك القروض وتسديد فوائدها وعمولاتها وسائر تكاليفها من ميزانيته”. في قانون سنة 1953 (المادة الثامنة عشرة/1/أ/ب/ج/د)، جرى تغيير كمي (أربعة بدلا من ثلاثة مصادر) ونوعي لمصادر تمويل مشروعات مجلس الأعمار الواردة في قانونه الأول: 70% من مجموع حصة الحكومة من واردات النفط بدلا من 100% في القانون الأول، و”المبالغ التي تخصص له بقانون بين حين وآخر”، و”القروض التي يعقدها المجلس بضمان الحكومة بعد صدور قانون يأذن باقتراضها”، و”أمواله الأخرى ومنافع وعوائد مشروعاته التي تحصل قبل تسليمها إلى الوزارات المختصة”. لقد جاء هذا التغيير الكبير في مصادر تمويل مشروعات المجلس، كما نرى، نتيجة لزيادة موارد الحكومة من إيرادات النفط بعد تطبيق مبدأ مناصفة الأرباح مع الشركات النفطية الدولية العاملة في البلاد كما ذكرنا ذلك آنفا، وتقييد منح الحكومة تخصيصات مالية إضافية من ميزانيتها للمجلس بقانون، وكذلك تقييد حرية المجلس بقانون في تعاقداته للحصول على قروض بضمان الحكومة، والسماح للمجلس بالحصول على منافع وعوائد من نشاط مشروعاته قبل نقل ملكيتها إلى الوزارات الأخرى. في قانون سنة 1959 (المادة التاسعة/3)، جرى تخصيص ما لا يقل عن 50% من واردات النفط فقط كمصدر وحيد لتمويل مشروعات مجلس التخطيط الاقتصادي. في مشروع

قانون سنة 2019، نرصد حالة التغير الكمي والنوعي الكبيرة أيضا في مصادر تمويل مجلس الأعمار (عددها ستة مصادر): الثلاثة مصادر الأولى تأتي بمثابة تخصيصات مالية من الموازنة العامة الاتحادية للدولة (المادة 16/أولا/ثانيا/ثالثا): الأول، لتغطية النفقات التشغيلية للمجلس؛ الثاني، لتمويل مشروعات المجلس (5% من إجمالي إيرادات الموازنة العامة، التي يجري تمويلها بأكثر من 90% من واردات النفط)؛ الثالث، تخصيصات مشروعات الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة والأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم التي تدخل ضمن مشروعات المجلس. المصدر الرابع (المادة 16/رابعا) هو “الأرباح والرسوم وأجور الخدمات التي يقدمها المجلس للغير”، من دون إشارة مشروع القانون لأي نص قانوني يحكم ويضبط مسارات حركة هذا المصدر. المصدر الخامس (المادة 16/خامسا) هو “الأموال المخصصة للمجلس المنصوص عليها في التشريعات النافذة أو المودعة في صناديق خاصة بذلك وفق القانون”، وليس معروفا من مشروع القانون ماهية هذه الأموال والتشريعات النافذة التي تحكم إدارتها ومجلس الأعمار قدم تم إلغاءه بموجب قانون رقم (74) لسنة 1959. المصدر السادس والأخير (المادة 16/سادسا) هو “أية موارد أخرى يقبلها المجلس”، من دون إشارة مشروع القانون أيضا لأي نص قانوني يحكم ويضبط عمليات إدارة هذا المصدر. اللافت في أمر مصادر تمويل مجلس الأعمار، إنه على الرغم من أن المادة (16) من مشروع قانون 2019 لم تَشّر إلى القروض الداخلية والخارجية التي يعقدها المجلس كمصدر من مصادر تمويل مشروعاته، إلا أن المادة (7) منه قد أوكلت للمجلس مهمة “توفير تمويل أو ضمانات تمويل أو تسهيلات مالية للمشاريع المشمولة بأحكامه بالتنسيق مع المؤسسات المالية العراقية والأجنبية” (المادة 7/رابعا)، ومهمة “الموافقة على تمويل أو ضمان تمويل مشاريع المجلس مقابل ضمان سيادي بموافقة مجلس الوزراء” (المادة 7/خامسا). هذا الأمر يعكس خطأ في منهجية صياغة أحكام مشروع القانون حسب موضوعها، إذ يُفترض بأن يكون مكان الحُكمين المشار إليهما هنا ضمن أحكام الفصل الخامس (الأحكام المالية/المادة 16)، وليس ضمن أحكام الفصل الرابع (مهام المجلس/المادة 7) من مشروع القانون. بيد أن الأمر الأكثر أهمية في هذا السياق، يتعلق بتبعات وتكاليف ممارسة مجلس الأعمار لهاتين المهمتين: أولا، أن حكم المادة (7/رابعا) سيقود إلى استغلال مؤسسة مجلس الأعمار من قبل بعض المتنفذين الداخليين أو الخارجيين لتحقيق منافع ضيقة، ليس فقط بسبب ضعف آليات الرقابة الداخلية أو الخارجية في فعل هذه المؤسسة، وإنما أيضا بسبب غياب مُشاركة الحكومة الاتحادية (مجلس الوزراء ومجلس النواب) في الموافقة والمصادقة على نشاط مجلس الأعمار في تمويل مشروعاته بهذه الطريقة. وثانيا، أن حُكم المادة

(7/خامسا) يقود إلى “خصخصة” مؤسسة مجلس الأعمار نفسها، ذلك أن هذا الحُكم يشترط، من جانب، موافقة مجلس الأعمار على تمويل أو ضمان تمويل مشروعاته مقابل ضمان سيادي من قبل مجلس الوزراء وبموافقته، ولكن من جانب آخر، من دون مصادقة مجلس النواب على هذا الضمان السيادي. إذا افترضنا أن الحكومة الاتحادية (بمعزل عن مشاركة مجلس الأعمار) قد حصلت على قروض لأعمار البلاد من دول أو مؤسسات مالية دولية، فإن هذه العقود سوف لن تنعقد إلا بموافقة مجلس الأعمار!

5. على مدى السبعين سنة الماضية، أدت واردات تصدير النفط الخام أدوارا مختلفة كمصدر لتمويل مشروعات مجلس الأعمار ووزارة الأعمار (للفترة 1950-1959) ومجلس التخطيط الاقتصادي ووزارة التخطيط ومجلس الأعمار الجديد (للفترة 1959-2019). فمن جانب، تلاحظ ظاهرة التناسب العكسي بين مقدار واردات النفط ونسبة ما يُخصص منها لمشروعات الأعمار في قوانين (1950، 1953، 1959، 2019): تزايد مقدار الواردات النفطية وتناقص نسبة مساهمتها في التمويل (100%، 70%، 50%، 5% على التوالي) وتدني الأهمية الإستراتيجية لمشروعات الأعمار. من الجانب الآخر، عَدّت الحكومات العراقية المتعاقبة للفترة 1950-2005 قطاع النفط مُلكا سياديا للدولة في شخص الحكومة المركزية حسب التشريعات النافذة وقتها، وهو أمر سمح للحكومات المذكورة بتقليص نسبة ما يُخصص من واردات النفط لمشروعات الأعمار وزيادة نسبة حصتها من هذه الواردات لتمويل الجهاز الإداري الحكومي المتزايد العدد وأعمال الحروب الداخلية والخارجية. بيد أن دستور البلاد النافذ منذ عام 2005 قد انتزع ملكية ثروة النفط والغاز الوطنية من يد الحكومة المركزية ووضعها بيد الشعب (المادة 111 من الدستور)، وأناط عمليات تطويرها واستغلالها والتصرف بوارداتها بالحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط بصورة تشاركيه (المادة 112/أولا/ثانيا من الدستور)، وهو أمر أكدته قرارات المحكمة الاتحادية العليا بشأن دستورية بعض أحكام قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018 الصادرة في 23/1/2019. بكلمات أخرى، إذا كان مسموحا قانونيا للحكومة المركزية التصرف بواردات النفط بالطريقة التي تراها مناسبة لها حسب التشريعات النافذة وقتها، فإن هذه الطريقة للتصرف بواردات النفط غير مسموح بها دستوريا بعد عام 2005، وهو أمر يضع المادة (2، تأسيس مجلس الأعمار) والمادة (16، مصادر تمويل مشروعات مجلس الأعمار) من مشروع قانون مجلس الأعمار لسنة 2019 في دائرة انتهاك أحكام الدستور النافذ. في خاتمة هذا البحث سنقدم مقترحا منهجيا بديلا عن المادتين المذكورتين من مواد مشروع القانون المعني.

ثالثا. منظومة إدارة نشاط الأعمار في قوانين تأسيس مجلس الأعمار:

يعتمد نجاح أو فشل مجلس الأعمار في أداء مهامه بإدارة عمليات أعمار البلاد على ما يوفره له قانون تأسيسه من حقوق وقواعد وآليات وأدوات مؤسساتية الطابع والإجراء التنفيذي، تُنظّم وتضبط عمل أجهزة إدارة المجلس، فضلا عن عدم تقاطع أو تناقض بعضها بالبعض الآخر أو مع أحكام الدستور والقوانين والتشريعات النافذة الأخرى، كما ذكرنا ذلك في مقدمة هذا البحث. تتكون منظومة إدارة نشاط الأعمار، لأغراض هذا البحث، من “الهيكل التنظيمي” لمجلس الأعمار، و”السلطات والصلاحيات” التي يكّفلها القانون لهذا المجلس، و”الواجبات أو المهام أو الوظائف” التي فرضها القانون على المجلس. نستبعد من التحليل في أدناه مجلس التخطيط الاقتصادي، بسبب عدم تكامل منظومة إدارة نشاط الأعمار في قانون تأسيسه سنة 1959.

1. منظومة إدارة نشاط الأعمار في قانون مجلس الأعمار لسنة 1950:

حسب أحكام القانون (المادة الأولى/1/2/3/4/7)، يتكون “الهيكل التنظيمي” لمجلس الأعمار من ثمانية أعضاء: رئيس الوزراء (رئيس المجلس)، وعضوية وزير المالية وستة من أعضاء إجرائيين من غير الموظفين يكون أحدهم نائبا للرئيس يتفرغون له، ويكون ثلاثة منهم من الأخصائيين في الشؤون المالية والاقتصادية، وشؤون الري، واختصاص آخر يُقرره مجلس الوزراء، ولهم جميعا حق التصويت. يكون أحد الأخصائيين الثلاثة سكرتيرا عاما للمجلس، ويعين (وينحى أيضا) الأعضاء الاجرائيون بقرار من مجلس الوزراء، وتكون مدة عضويتهم خمس سنوات قابلة للتمديد بقرار من مجلس الوزراء. لا ينعقد المجلس إلا بحضور خمسة أعضاء على أن يكون أحدهم الرئيس أو وزير المالية، وتتخذ القرارات بأكثرية الأصوات، وعند التساوي يكون صوت الرئيس أو نائبه مُرجحا. يلاحظ في هذا الهيكل قوة النفوذ التنفيذي لقرارات مجلس الأعمار برئاسته من قبل رئيس الوزراء (والذي يجري تعيينه بهذا المنصب بنتيجة انتخابات برلمانية عامة)، وامتلاك المجلس لمعلومات مالية موثقة من وزير المالية، والتأثير الكبير لأعضاء المجلس الإجرائيين (المتفرغين) على صناعة واتخاذ القرارات في المجلس.

حدد القانون “اختصاصات وسلطات” مجلس الأعمار على النحو الآتي (المادة الثانية/1/2): للمجلس شخصية حُكمية، وله أن يستأجر أو يتملك الأموال غير المنقولة اللازمة لمنهاجه الأعماري، وله أن يدخل في مقاولات مع الغير في العراق أو خارجه، وله “أن يعقد القروض ويصدر السندات ويرهن موجوداته أو يستقرض الأموال وغير ذلك باسمه على أن تعتبر التعهدات التي يرتبط بها على

هذا الوجه – سواء أكانت محلية أو خارجية – تعهدات للدولة، ويخول وزير المالية ضمان مثل هذه القروض والسندات باعتبارها تعهدات حكومية وذلك بالشروط التي يصادق عليها مجلس الوزراء على شرط أن تستحصل مصادقة مجلس الأمة قبل أن تصبح عقود القروض أو اتفاقيات الضمان نافذة المفعول”. وعلى الرغم من أن مُمارسة مجلس الأعمار لاختصاصاته وسلطاته مشروطة بقرارات مجلس الوزراء ومجلس الأمة، إلا أنها تُعدّ اختصاصات وسلطات الدولة، ويجري تنفيذها من قبل المجلس نفسه بوصفه مؤسسة حكومية.

قرر القانون “واجبات” مجلس الأعمار على النحو الآتي (المادة الثالثة/1/2/3/4/5/6): يمتلك مجلس الأعمار، بعد قيامه بكشف عام لموارد العراق المُستغلة وغير المُستغلة، استقلالية مؤسساتية كبيرة في صياغة وتنفيذ منهاج عام لمشروعات الأعمار التي ينبغي القيام بها من قبله، وتحديد درجة أسبقيتها وكلفتها والمدة اللازمة لتنفيذها، وتنسيق المشروعات العمرانية التي قد تنشأ في الوزارات المختصة ذات الصلة بمنهاجه العام، وتسليمه المشروعات المُنجزة من قبله إلى الوزارة المختصة لإدارتها وصيانتها، والاقتراح على مجلس الوزراء تشريع اللوائح القانونية اللازمة لانجاز منهاجه العام في نشاط الأعمار.

تتصف منظومة إدارة نشاط الأعمار في قانون سنة 1950 بتكامل وتوازن عناصرها الداخلية المُكوّنة، وتوافقها مع البيئات السياسية والدستورية والقانونية السائدة في البلاد وقتها، وهو أمر ليس فقط يَحوّل دون نشوء حالات التناقض والتقاطع المؤسساتي الداخلي في عمل مجلس الأعمار أو مع المؤسسات الأخرى، وإنما أيضا يُعدّ شرطا أساسيا للولادة الطبيعية لمؤسسة مجلس الأعمار نفسها ونجاحها المحتمل في أداء مهامها وواجباتها. فمن جانب، يضمن القانون لمجلس الأعمار حالة التوافق الداخلي للنشاط في إدارته الإستراتيجية (صياغة المنهاج العام، تخطيط مشروعات المنهاج العام، تقرير أسبقية المشروعات، واقتراح تشريع القوانين المطلوبة لانجاز منهاجه العام) والعملياتية (تنفيذ المشروعات بنفسه، وإشرافه المباشر على الأعمال الجارية) لمشروعات الأعمار. ومن الجانب الآخر، يضمن القانون لمجلس الأعمار التوافق الخارجي لنشاطه الاستراتيجي والعملياتي مع مؤسسات البلاد الأخرى التنفيذية كمجلس الوزراء والتشريعية كمجلس الأمة.

2. منظومة إدارة نشاط الأعمار في قانون مجلس الأعمار لسنة 1953:

حسب أحكام القانون (المادة الثالثة/أ/ج، المادة الرابعة/ب، المادة العاشرة)، احتفظ “الهيكل التنظيمي” لمجلس الأعمار بقوامه السابق في قانون 1950، ولكن بتسعة أعضاء بدلا من ثمانية، بعد إضافة عضوية وزير الأعمار للمجلس. “لا ينعقد المجلس إلا بحضور ستة أعضاء اثنان منهم

من الوزراء الأعضاء وتتخذ القرارات بأكثرية الأصوات ويكون صوت الرئيس مرجحا عند التساوي”. هذا الحُكم القانوني، من جانب أول، يفترض حضور رئيس المجلس (وهو رئيس الوزراء) اجتماعات المجلس لاحتساب عدد الأصوات التي يتطلبها اتخاذ القرارات، بيد أن هذا الحُكم، من جانب ثان، لا يُقرر وجوب حضور الرئيس اجتماعات المجلس بغرض ضمان الشرعية التنظيمية لهذه الاجتماعات؟ في قانون 1950، يكون أحد الأعضاء الإجرائيين الستة نائبا لرئيس مجلس الأعمار، بينما في قانون 1953 “يعين مجلس الوزراء نائبا لرئيس المجلس من بين الأعضاء يقوم مقام الرئيس بإدارة الجلسة عند غيابه”. هذا الحُكم القانوني يحصر نيابة رئيس المجلس بأعضاء المجلس نفسه، ولكنه لا يُقرر من أي صنف من صنفي الأعضاء يأتي الاختيار: صنف الوزراء الأعضاء أو صنف الإجرائيين الأعضاء. فضلا عن ذلك، ربما يُعطي هذا الحُكم القانوني جوابا عن التساؤل المطروح أعلاه بشأن آلية التصويت على القرارات في اجتماعات مجلس الأعمار، إذ أن المقصود بكلمة الرئيس في المادة (الثالثة/ج) ليس رئيس المجلس (رئيس الوزراء)، وإنما المقصود هو رئيس الجلسة المُعين على وفق حُكم المادة (الرابعة/ب) من قانون 1953.

في قانون 1953، جاءت “اختصاصات وسلطات” مجلس الأعمار على النحو الآتي: “للمجلس شخصية حكمية وله حق التعاقد مع الشركات والمؤسسات والأفراد… وله حق التملك والتصرف بالأموال المنقولة وغير المنقولة لتحقيق أغراضه” (المادة التاسعة). حسب القانون، أصبح وزير الأعمار “… يمثل شخصية المجلس الحكمية ويوقع عقوده وينفذ قراراته ويقوم بالأعمال الأخرى المنصوص عليها في هذا القانون” (المادة العاشرة).

حدد القانون “واجبات” مجلس الأعمار على النحو الآتي:

· “يبحث المجلس إمكانيات العراق ويتحرى موارده الإنتاجية وثروته وقواه الطبيعية ويضع على أساس هذه البحوث والدراسات منهاجا عاما لتنمية الموارد والثروات واستغلالها بقصد زيادة الدخل القومي ورفع معيشة أبناء البلاد على أن ينفذ كل منهج خلال مدة لا تزيد على سبع سنوات…” (المادة الثانية عشرة/1).

· “على المجلس أن يعطي الأسبقية للمشاريع التي يدخلها في المنهاج العام بالنسبة لأهميتها الاقتصادية ومدى أثرها في زيادة الدخل القومي وتسهيلها لتحقيق المشاريع الأخرى على أن يأخذ بنظر الاعتبار التوازن والتكامل بين المشاريع…” (المادة الثانية عشرة/2).

· “على الوزير (وزير الأعمار – الباحث) أن يقدم إلى مجلس الوزراء منهاج المجلس العام مشفوعا بدراسة تفصيلية تبين أسبابه ونتائجه الاقتصادية وأثره في رفع مستوى الدخل

القومي… ولا ينفذ المنهج العام إلا بعد اقترانه بموافقة مجلس الوزراء ومصادقة مجلس الأمة” (المادة الثانية عشرة/4).

· “بعد المصادقة على المنهج العام يعد المجلس خطط المشاريع ومواصفاتها التفصيلية ويقرر تنفيذها حسب درجة أسبقيتها المقررة” (المادة الثانية عشرة/5).

· “يسلم المجلس المشاريع المنجزة إلى الوزارات المختصة لإدارتها وصيانتها” (المادة الرابعة عشرة/3).

في هذا القانون، مقارنة بقانون 1950، تراجعت المكانة المؤسساتية لمجلس الأعمار وتصاعدت المكانة التنظيمية للسلطة التنفيذية (وزير الأعمار) في عمل المجلس، الأمر الذي سيُخفض من الأهمية الإستراتيجية لمؤسسة مجلس الأعمار في قيادة أعمال الأعمار، وتأطير أنشطتها بإطار بيروقراطية الجهاز الوزاري الحكومي والمناورات السياسية. في هذا الأمر التنظيمي البالغ الأهمية، يتشابه حال مجلس الأعمار ووزارة الأعمار في قانون سنة 1953 مع حال نظيره مجلس التخطيط الاقتصادي ووزارة التخطيط في قانون سنة 1959 (المادة التاسعة/2)، ولكن بتراجع مؤسساتي أوسع نطاقا، حين ضم الهيكل التنظيمي لمجلس التخطيط الاقتصادي وزراء: التخطيط، المالية، الصناعة، الإصلاح الزراعي، الزراعة، المواصلات، الأشغال والإسكان، والشؤون الاجتماعية.

3. منظومة إدارة نشاط الأعمار في مشروع قانون مجلس الأعمار لسنة 2019:

حسب أحكام مشروع القانون (المواد: 4/أولا/ثانيا/ثالثا/رابعا، 5، 6/ثانيا/ثالثا، 9، 13/أولا، 15/ثالثا)، يتكون “الهيكل التنظيمي” لمجلس الأعمار من أحد عشرة عضوا: رئيس مجلس الوزراء (رئيسا)، وعضوية كل من: المدير التنفيذي (نائب رئيس مجلس الأعمار ورئيس الجهاز التنفيذي لمجلس الأعمار، يُرشحه رئيس مجلس الوزراء وبموافقة مجلس الوزراء)، وزير المالية، وزير النفط، وزير التخطيط، الأمين العام لمجلس الوزراء، وخمسة أعضاء من القطاع الخاص يُرشحهم رئيس مجلس الوزراء وبموافقة مجلس الوزراء. يمكن تسجيل التناقضات التنظيمية الآتية في تشكيلة مجلس الأعمار (فيما بعد المجلس) حسب أحكام مشروع قانونه الجديد:

· في التعداد المُعطى لشخوص الهيكل التنظيمي حسب مشروع القانون، يحتل المدير التنفيذي للمجلس المرتبة التنظيمية الثانية بعد رئيسه، وهو أعلى من مرتبة الوزراء الأعضاء في المجلس، على الرغم من صفته الوظيفية كوزير أيضا حسب هذا القانون (المادة 4/ثانيا). لقد أشار الباحث (علي، Sotaliraq.com/2019/09/21) إلى أن هذا الأمر التنظيمي يثير إشكالات كثيرة منها: أولا، كيف يمكن لموظف بدرجة وزير أن يرأس وزراء؛

ثانيا، لا ينبغي الاكتفاء بتعيينه في منصبه كوزير على موافقة مجلس الوزراء فقط، وإنما يجب أن تقترن الموافقة المذكورة بمصادقة مجلس النواب. “لا يشترط في أعضاء المجلس أن يكونوا متفرغين باستثناء المدير التنفيذي” (المادة 4/رابعا)، فضلا عن أن الجهاز التنفيذي للمجلس يُديره المدير التنفيذي نفسه (المادة 13/أولا/ثانيا) بوصفه رئيسا لهذا الجهاز (المادة 4/ب). من الناحية التنظيمية، يعني هذا الأمر “احتكار!” السلطة التنفيذية للمجلس من قبل المدير التنفيذي وجهازه، مع الإشارة هنا لمسألة إغفال مشروع القانون لضوابط وإجرائيات تشكيل الجهاز التنفيذي للمجلس، باستثناء نصه على مواصفات مدراء مكاتب الجهاز المذكور (المادة 13/ثالثا)، وتولي المدير التنفيذي للمجلس مهمة “إصدار الأوامر الإدارية بالتعيين والتعاقد والتنسيب وغيرها” (المادة 15/ثالثا).

· ليس مفهوما، استنادا لمنطق بناء المؤسسات الحكومية للفترة 1959-2019 (التزايد الكمي لمؤسسات السلطة الحكومية بالتزامن مع الانخفاض النوعي لأدائها الوظيفي) استبعاد الوزارات القطاعية الرئيسة كوزارة الأعمار والإسكان والبلديات والأشغال العامة ووزارة النقل ووزارة الموارد المائية ووزارة الكهرباء ووزارة الزراعة ووزارة الصناعة وغيرها المعنية بسياسات وعمليات الأعمار من تشكيلة المجلس، واقتصار العضوية فيه على بعض الوزارات والأمانة العامة لمجلس الوزراء. وإذا كان مفهوما، وأيضا استنادا للمنطق المذكور في أعلاه، عضوية وزارة المالية (بافتراضنا إدارتها للمال العام المُخصص للمجلس، وامتلاكها المعلومات المالية عن الموازنات العامة التي سيجري التخصيص منها لنشاط المجلس)، وعضوية وزارة التخطيط (بافتراضنا أيضا قيامها بوظيفة ضمان “تأسيس مجلس يتكامل بالأهداف ويتوازن مع باقي مؤسسات الدولة”، كما جاء في الأسباب الموجبة لمشروع قانون المجلس). ولكن ليس مفهوما المنطق المؤسساتي والتنظيمي من وراء عضوية وزارة النفط والأمانة العامة لمجلس الوزراء في المجلس (أنظر أيضا: المرسومي، شبكة الاقتصاديين العراقيين، في 19/9/2019).

· يتساءل الباحث (علي، Sotaliraq.com/2019/09/21) مُحقا، “على أي أساس من العرف أو التقليد أو المبادئ التي يُحتكم إليها في الوظائف السيادية أن يكون في المجلس أعضاء من القطاع الخاص…”. نحن نرى إن أداء الوظائف السيادية، التي تؤديها المؤسسات السيادية كمجلس الأعمار، من قبل شخوص طبيعية هو مظهر من مظاهر فساد المؤسسات السيادية، وطريقة مُجربة من طرائق الاستحواذ على نشاط هذه المؤسسات

وخصخصتها بدوافع شخصية أو فئوية أو حزبية وغيرها. في قانوني مجلس الأعمار لسنتي 1950 و1953، أُعتمد التخصص العلمي والخبرة المهنية لإشغال عضوية المجلس من قبل ستة أعضاء متفرغين من غير الموظفين الحكوميين، بينما في قانون المجلس لسنة 2019 تم الاستغناء عنهم لصالح رجال أعمال من القطاع الخاص لم يُقرر مشروع القانون (المادة4/سابعا/أ) “… الشروط ومعايير المفاضلة والآليات الواجب تطبيقها…” لاختيارهم. فضلا عن ذلك، أن عضوية أشخاص من القطاع الخاص في مجلس الأعمار (للتصرف بنسبة 5% من واردات النفط مُخصصة للمجلس لتمويل مشروعات الأعمار) تتناقض بشكل صريح مع أحكام الدستور ذات الصلة بإدارة الثروة النفطية والغازية والتصرف بعوائدها، إذ أن دستور البلاد النافذ قد حصر ملكية هذه الثروة بيد الشعب العراقي (المادة 111)، وأناط مسؤولية تطويرها واستغلالها والتصرف بعائداتها بالحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط (المادة 112)، وهو أمر أقرته قرارات المحكمة الاتحادية العليا في 23/1/2019. سنعود إلى هذا الموضوع في خاتمة البحث.

· في مشروع القانون، “تنعقد جلسات المجلس بحضور الأغلبية المطلقة لعدد أعضائه على أن يكون من بينهم رئيس المجلس أو نائبه” (المادة 6/ثانيا)، و”جلسات المجلس سرية…” (المادة 9)، وكأنه مجلسا للحرب وليس مجلسا للأعمار؟! وبما أن عدد أعضاء المجلس هو (11) عضوا، وأن الأغلبية المطلقة تعني النصف زائد واحد (5+1=6)، عندها سيكون النصاب القانوني لانعقاد جلسات اجتماعات المجلس هو (6) أعضاء، نعرف من مشروع القانون أحدهم (الرئيس أو نائبه)، ولكننا لا نعرف الأعضاء الخمسة المتبقين الذين سيحضرون اجتماع المجلس. طبعا، هناك احتمالات كثيرة لمن سيحضر الاجتماع من أعضاء المجلس لتأمين النصاب القانوني للاجتماع، ولكن من بينها احتمال حضور رئيس المجلس أو نائبه (عضو واحد) وجميع أعضاء المجلس من القطاع الخاص (خمسة أعضاء) فقط، وبذلك اكتمل النصاب القانوني لاتخاذ القرارات من قبل “المؤسسة السيادية/الحُكمية” (مجلس الأعمار) لإدارة أعمال أعمار البلاد المُمولة بنسبة 5% من إجمالي إيرادات الموازنة العامة الاتحادية السنوية؟! (المادة 16/ثانيا).

· في سياق النقطة أعلاه، يقول مشروع القانون (المادة 6/ثالثا): “تتخذ قرارات وتوصيات المجلس بأغلبية عدد أصوات الحاضرين بضمنهم رئيس الجلسة وإذا تساوت الأصوات يرجح الجانب الذي صوت معه رئيس الجلسة” (ورئيس الجلسة هو رئيس مجلس الأعمار –

رئيس مجلس الوزراء أو نائبه المدير التنفيذي لمجلس الأعمار). لو افترضنا أن النصاب القانوني لاجتماع المجلس قد حصل بنتيجة الاحتمال المذكور في النقطة السابقة (حضور الرئيس أو نائبه، وجميع أعضاء القطاع الخاص الخمسة)، معنى هذا أن قرارات وتوصيات المجلس ستُهيمن عليها أغلبية أصوات أعضاء “القطاع الخاص”! وسوف لن يكون ثمة وزن كمي لصوت رئيس المجلس أو نائبه إذا كان معارضا للقرار أو التوصية المعنية. لقد استولى القطاع الخاص على مؤسسة مجلس الأعمار في عملية تصويت قانونية صرفة! وهذا معناه “خصخصة” المؤسسات العامة الحاكمة والناظمة لإدارة نشاط أعمار البلاد، المُمولة بالأموال العامة للبلاد، لصالح توجهات سياسية ومصالح اقتصادية لبعض ممثلي القطاع الخاص، وهذا هو أحد مظاهر فساد المؤسسات وأكثرها خطورة! ليست لدى كاتب هذه السطور أية اعتراضات على مساهمة القطاع الخاص الوطني في أعمال أعمار البلاد، ولكن على القطاع الخاص أن يُقرر اتجاهات ومسارات ومقادير هذه المساهمة برؤوس أمواله الذاتية وليس من خلال التأثير في قرارات المؤسسات الحكومية (هنا مؤسسة مجلس الأعمار) المُديرة لأموال الشعب العراقي والمُخصصة من قبل الدولة للأعمار. فضلا عن ذلك، وبتأثير التوجهات السياسية لانقلابات عامي 1963 و1968 ولغاية سقوطها السياسي في عام 2003، جرى تدمير القطاع الخاص الوطني بغرض الحيلولة دون نشوء طبقة وسطى تكون مُنافسا سياسيا مُحتملا لنظام الحكم السائد وقتها، وهي الطبقة القائدة لأعمال القطاع الخاص في الاقتصادات الحديثة والمتطورة، ولم تتشكل بعد عام 2003 ولغاية اليوم طبقة وسطى يُمكن لتوجهاتها السياسية والاقتصادية في مجلس الأعمار أن تكون سببا اقتصاديا وسياسيا كافيا ومشروعا لعضويتها فيه، ولم ينشأ قطاع خاص وطني لغاية الحين لا يتسم سلوكه الاقتصادي والتنظيمي بسمات الهامشية والانتهازية والنفعية الضيقة والطفيلية غير المُنتجة، المُميزة له خلال الفترة 1968-2019.

في مشروع القانون، جاءت “اختصاصات وسلطات” مجلس الأعمار تحت عنوان “مهام المجلس” على النحو الآتي (المادة 7، المادة 8):

· التفاوض والتعاقد مع الغير (المؤسسات الوطنية والدولية)، “… ويتم ذلك وفق الأنظمة والتعليمات والضوابط الخاصة التي يصدرها المجلس فيما يتعلق بمشاريعه، ولا تسري عليها التشريعات ذات الصلة التي تنظم تعاقد الجهات الحكومية” (المادة

المحكمة الاتحادية العليا، عند نظرها بالطعون المُقدمة بشأن دستورية بعض مواد قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018، هذه الأحكام بعدم الدستورية.

· “فيما يتعلق بمشاريع المجلس، وضع الأنظمة والسياسات والخطط… التي تلتزم وزارات الدولة ودوائرها والقطاع الخاص بتنفيذها” (المادة 7/ثانيا). في النظام السياسي القائم حاليا في بلادنا حسب أحكام الدستور النافذ، تلتزم وزارات الدولة ودوائرها بقرارات مجلس الوزراء في جميع مجالات أنشطتها، ولم يستثن الدستور مجال مشروعات الأعمار من هذا الالتزام، ليقوم مجلس الأعمار المقترح في مشروع قانونه بفرض إراداته (وهي إرادات يتحكم فيها البعض من رجال الأعمال من القطاع الخاص الوطني) على أجهزة الدولة وسلبها سلطاتها واختصاصاتها السيادية. فضلا عن ذلك، وكما يتساءل الباحث (علي، Sotaliraq.com/2019/09/21) مُحقا “… مجلس الأعمار سلطة حكومية كيف لها أن تتصرف بأموال القطاع الخاص…”؟!

· “للمجلس صلاحية ومهام واختصاص هيأة الاستثمار الوطنية المنصوص عليها في قانون الاستثمار رقم (13) لسنة 2006 فيما يخص مشاريع المجلس…” (المادة 8). هناك احتمالان تنظيميان محتملان لتنفيذ هذا الحُكم القانوني: الاحتمال الأول، اندماج هيأة الاستثمار الوطنية ككيان مؤسساتي مستقل بكيان مجلس الأعمار المستقل أيضا في نطاق مشروعات المجلس، ولكن بهيمنة تنظيمية للمجلس لم يُحدد مشروع قانون المجلس كيفية ممارستها. في الممارسة التنظيمية، تجري عمليات الاندماج عادة بين كيانات الشركات التجارية على وفق ضوابط قانونية حاكمة وناظمة لهذه العمليات، وأيضا على مجموعة قواعد سلوك تتضمنها الأنظمة الداخلية لهذه الشركات. الاحتمال الثاني، ابتلاع هيأة الاستثمار الوطنية من قبل مجلس الأعمار وذوبان شخصيتها المؤسساتية المستقلة في شخصية المجلس. بيد أن مشروع قانون مجلس الأعمار لم يُلغ قانون هيأة الاستثمار الوطنية، وهو أمر، كما هو حال الاحتمال الأول، مُسببا لنشوء حالة تناقض مؤسساتي وتنظيمي بين الكيانين المذكورين في نطاق مشروعات الأعمار المُستهدفة التخطيط والتحقيق من قبلهما.

مُقارنة باختصاصات وسلطات مجلس الأعمار في قانوني 1950 و1953، المشروطة بموافقة مجلس الوزراء ومصادقة مجلس الأمة، لا يشترط مشروع قانون المجلس لسنة 2019 هذا الأمر، إذ سيُمارس المجلس اختصاصاته وسلطاته على وفق الأنظمة والتعليمات والضوابط الخاصة التي سيصدرها المجلس بنفسه (المادة 17/أولا، المادة 20/أولا، المادة 21/ثانيا/ثالثا/رابعا، المادة 32)

واستثناء من التشريعات النافذة ذات الصلة، وبدون موافقة ومصادقة السلطات التنفيذية والتشريعية في البلاد، وهو أمر عَدّته المحكمة الاتحادية العليا غير دستوريا في قانون شركة النفط الوطنية العراقية لسنة 2018. أكثر من هذا، إن الضمان السيادي الذي تقدمه الدولة لتمويل مشروعات المجلس يجب أن يقترن بموافقة المجلس نفسه (المادة 7/خامسا). في هذا الأمر، سيُمارس مجلس الأعمار اختصاصات وسلطات دولة موازية للدولة القائمة!

بيد أن مُمارسة “دولة مجلس الأعمار!” لاختصاصاتها وسلطاتها لا يجري تحقيقها مباشرة من قبل المجلس نفسه، وإنما تم إيكالها لدولة ثانية داخل دولة مجلس الأعمار، وهي “دولة الجهاز التنفيذي لمجلس الأعمار!”، بمثابة “واجبات” لمجلس الأعمار يتولى تنفيذها الجهاز التنفيذي للمجلس على النحو الآتي (المادة 14، المادة 15):

· “اقتراح وإعداد… الخطط والمشاريع والبرامج السنوية وأساليب التمويل.. وآليات التنفيذ…” (المادة 14/أولا).

· “تحديد واقتراح مشاريع المجلس المناسبة لأهدافه وتحديد أولويات هذه المشاريع…” (المادة 14/ثالثا).

· “إدارة شؤون المجلس المالية والإدارية”، “إصدار الأوامر الإدارية بالتعيين والتعاقد…”، “تشكيل اللجان التخصصية في مجالات عمل المجلس”، “توقيع أية عقود بتخويل من المجلس”، “التعاقد مع الجهات الاستشارية العراقية والأجنبية ودعوتهم لحضور الاجتماعات حسب ضرورة العمل”، “ممارسة أية اختصاصات أخرى ذات الصلة بعمل المجلس” (المادة 15/الفقرات أولا، ثالثا، رابعا، سادسا، سابعا، تاسعا على التوالي).

في مشروع القانون، نرصد ليس فقط حالة تراجع المكانة المؤسساتية لمجلس الأعمار والتصاعد الجزئي (مُقارنة بمجلس التخطيط الاقتصادي في قانون 1959) للمكانة التنظيمية للسلطة التنفيذية وانحسار التخصص العلمي والجدارة المهنية في عمل المجلس، وإنما أيضا نرصد حالة التكوين الهجين لمؤسسة مجلس الأعمار السيادية من خلال إشراك بعض رجال الأعمال من القطاع الخاص في عضوية المجلس، وهيمنة الجهاز التنفيذي للمجلس في تقرير وتنفيذ توجهات وسياسات المجلس. هذا الأمر ليس فقط سيُخفض من الأهمية الإستراتيجية لمؤسسة مجلس الأعمار في قيادة أعمال الأعمار، وتأطير أنشطتها بأطر بيروقراطية الجهاز الوزاري الحكومي والمناورات السياسية، وبالسلوك النفعي لبعض رجال الأعمال، وإنما أيضا سيقود إلى نشوء حالات التناقض والنزاع مع المؤسسات الحكومية السيادية الأخرى، ومع أحكام الدستور والتشريعات الوطنية النافذة.

الخاتمة:

في دراستنا لقانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018 (الكعبي، شبكة الاقتصاديين العراقيين، في 10 نيسان 2018)، اكتشفنا أن مؤسسة القانون وكيان الشركة سيقودان إلى “خصخصة” ثروة النفط والغاز الوطنية (من خلال سلطة وهيمنة ونفوذ ستة شخوص طبيعية في مجلس إدارة الشركة)، وإلى الاستحواذ غير المشروع لمجلس إدارة الشركة على الحقوق والسلطات الدستورية للحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط في إدارة عمليات تطوير واستغلال هذه الثروة (وهو الأمر الذي أقرته قرارات المحكمة الاتحادية العليا في 23/1/2019).

في الدراسة المذكورة أعلاه، اقترحنا تشكيل كيان إداري هو المجلس الاتحادي للطاقة. “يجري تشكيل هذا المجلس إما عن طريق تشريع خاص به، أو عن طريق تضمينه في تشريع قانون النفط والغاز الاتحادي العالق التشريع منذ عام 2007. يتكون الهيكل التنظيمي للمجلس الاتحادي للطاقة من الشخوص الدستورية الثلاثة: الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط (المادة 112/أولا/ثانيا)، ولا ينبغي لأي خبير أن يشغل عضوية المجلس. يمثل الحكومة الاتحادية في المجلس مجلس الوزراء (أو تخويله وزارة النفط الاتحادية)، بينما سيكون مجلس النواب خارج عضوية المجلس (على ضوء التحديد الدستوري لوظائف مجلس النواب في التشريع والرقابة). يمثل حكومة الإقليم والمحافظة المنتجة للنفط في عضوية المجلس الجهة المختصة بشؤون الطاقة من السلطة التنفيذية لهذه الحكومة. يجري تمثيل جميع الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط في المجلس عند حد معين من حجم إنتاجها النفطي. يتولى المجلس الاتحادي للطاقة صياغة السياسة النفطية للدولة وأعمال الإدارة الإستراتيجية للموارد النفطية: إعداد وصياغة الخطط والسياسات الإستراتيجية لتطوير واستغلال الموارد النفطية وتقديمها مباشرة لمجلس النواب للتشريع أو للمصادقة على وثائقها؛ وتنظيم وتوجيه ورقابة إدارة العمليات النفطية الجارية سواء من قبل شركة النفط الوطنية العراقية، أم من قبل شركات النفط الأجنبية العاملة بموجب عقود جولات التراخيص النفطية المبرمة منذ عام 2009 والعقود النفطية المستقبلية”.

في الدراسة المذكورة اقترحنا أيضا تشكيل كيان إداري آخر هو مجلس الأعمار الاتحادي (يأتي هذا الكيان كبديل عن المادة 2 في مشروع قانون مجلس الأعمار لسنة 2019). “يجري اقتراح مشروع قانونه ونظام عمله الداخلي كمؤسسة مستقلة من قبل المجلس الاتحادي للطاقة، ويجري تشريع قانونه من قبل مجلس النواب، على غرار مؤسسة مجلس الأعمار في خمسينات القرن

المُنصرم. تُناط بهذه المجلس حصريا مهمات توظيف جزء من الأرباح الصافية التي تحققها شركة النفط الوطنية العراقية جراء عملياتها النفطية. نحن نقترح أن يجري توزيع الأرباح الصافية للشركة (بعد استعادة تكاليفها الرأسمالية والتشغيلية) على النحو الآتي: نسبة 10% لتمويل استثمارات الشركة المستقبلية، وتمويل تحسين البيئة والبنى التحتية المادية والاجتماعية في مناطق الاستخراج النفطي لعملياتها، وتمويل مجالات خدمة العاملين فيها؛ ونسبة 90% تؤول لخزينة الدولة، يخصص منها نسبة 20% لتمويل أعمال مجلس الأعمار الاتحادي” (كبديل عن المادة 16/ثانيا في مشروع قانون مجلس الأعمار لسنة 2019).

يُمكن لمنظومة إدارة مجلس الأعمار الاتحادي أن تكون على النحو الآتي:

· مجلس الأعمار الاتحادي، ويتكون من عضوية (تسعة أعضاء):

– رئيس المجلس الاتحادي للطاقة، رئيسا لمجلس الأعمار الاتحادي.

– نائب رئيس مجلس الأعمار الاتحادي (وسيكون رئيسا للجهاز التنفيذي لمجلس الأعمار الاتحادي).

– ممثل عن حكومة الإقليم المنتج للنفط والغاز (في الوقت الحاضر حكومة إقليم كردستان).

– ممثل عن حكومة المحافظة المنتجة للنفط والغاز (مثلا اختيار أربع محافظات ذات الاستخراج النفطي الأكبر).

– ممثل عن وزارة المالية الاتحادية.

– ممثل عن وزارة التخطيط الاتحادية (لأداء وظيفتي التنسيق والتكامل بين مشروعات مجلس الأعمار الاتحادي ومشروعات مؤسسات الدولة الأخرى).

· الجهاز التنفيذي لمجلس الأعمار الاتحادي، يختص بأعمال الإدارة التنفيذية لنشاط مجلس الأعمار الاتحادي، ويتكون من الشخوص التنظيمية الآتية:

– رئيس الجهاز التنفيذي (يجري ترشيحه من قبل رئيس مجلس الأعمار الاتحادي، والتصويت على ترشيحه في المجلس الاتحادي للطاقة).

– نائب رئيس الجهاز التنفيذي (يجري ترشيحه من قبل رئيس الجهاز التنفيذي، والتصويت على ترشيحه في مجلس الأعمار الاتحادي).

– المدراء العامون لمشروعات البنى التحتية والمرافق العامة (نقترح وعلى مدى العشر سنوات القادمة من عمل مجلس الأعمار الاتحادي أن تنحصر مشروعاته في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية الآتية: الإسكان العائلي، البنى التحتية المادية للصحة والتعليم، الري والمياه

واستصلاح الأراضي الزراعية وتنمية الأرياف، خطوط ومحطات السكك الحديدية، طرق المواصلات البرية ما بين المدن ومع دول الجوار، توليد ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية، الموانئ البحرية والمطارات المدنية).

وكما يُلاحظ، فقد استبعدنا عضوية الخبراء وممثلي القطاع الخاص الوطني من الهيكل التنظيمي لمجلس الأعمار الاتحادي وجهازه التنفيذي، لقناعتنا العلمية والسياسية الراسخة بأن مثل هذه العضوية ستكون مُناقضة لأحكام الدستور المتعلقة بالتصرف بعائدات النفط، وبابا واسعة ومفتوحة على مصراعيها للفساد المالي والإداري والسياسي في عمل المجلس. يمكن للهياكل التنظيمية لمجلس الأعمار الاتحادي أن تأخذ بمقترحنا الخاص بإنشاء المركز الوطني لدراسات الطاقة، والذي “يجري تأسيسه ووضع نظام عمله الداخلي من قبل المجلس الاتحادي للطاقة كمؤسسة بحثية تابعة تنظيميا له، ويجري تمويل نشاطه من قبل مجلس الأعمار الاتحادي. يُقدم المركز خدماته من الدراسات والاستشارات والمعلومات بطلب رسمي من المجلس الاتحادي للطاقة أو مجلس الأعمار الاتحادي. يصدر المجلس الاتحادي للطاقة لائحة عامة بشروط التوظيف والعمل في المركز، تستند على سياسة عدم التمييز الجنسي والطائفي والعرقي والقومي في التوظيف والتشغيل، ودعم المجلس لحقوق العاملين المشروعة في المركز” (هذه السياسة استعرناها من: المادة 18/رابعا في قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم 4 لسنة 2018).

مصادر البحث:

دستور جمهورية العراق (2005).

حسين، غصون مزهر (2017). قانون مجلس الأعمار في مناقشات مجلس النواب العراقي لسنة 1950 /دراسة تاريخية. الجامعة المستنصرية، مجلة كلية التربية، العدد الرابع.

السعدي، صبري زاير (2019). مشروع قانون مجلس الأعمار. www.akhbaar.org، في 11 تشرين الأول.

علي، أحمد ابريهي (2019). قانون مجلس الأعمار: ملاحظات. otaliraq.comS، في 21 أيلول.

قانون مجلس الأعمار رقم (23) لسنة 1950. جريدة الوقائع العراقية رقم (2836) في 27/5/1950.

قانون مجلس الأعمار رقم (27) لسنة 1953. جريدة الوقائع العراقية رقم (3280) في 13/5/1953.

قانون السلطة التنفيذية للجمهورية العراقية رقم (74) لسنة 1959. جريدة الوقائع العراقية رقم (164) في 4/5/1959.

قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018. جريدة الوقائع العراقية رقم (4486) في 9/4/2018.

قرارات المحكمة الاتحادية العليا في 23/1/2019 بشأن دستورية بعض مواد قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018. iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2019/01/1

الكعبي، جواد كاظم لفته (2017). التنظيم المؤسساتي لصناعة استخراج النفط. الناشر: شركة الغدير للطباعة والنشر المحدودة، ط1، البصرة.

الكعبي، جواد كاظم لفته (2018). الإمكانات التنظيمية المتاحة لشركة النفط الوطنية العراقية لتحقيق هدف الاستغلال الأفضل للثروة النفطية والغازية في قانونها الجديد. شبكة الاقتصاديين العراقيين، في 29 حزيران.

الكعبي، جواد كاظم لفته (2018). تقييم طبيعة عمل نظام إدارة الموارد النفطية في قوانين تأسيس شركة النفط الوطنية العراقية. شبكة الاقتصاديين العراقيين، في 10 نيسان.

لفته، جواد كاظم (2011). منهجية الإدارة المعاصرة في معالجة المعضلات الاقتصادية. الناشر: دار صفاء للنشر والتوزيع، ط1، عمان.

المرسومي، نبيل جعفر (2019). قراءة أولية في مشروع قانون مجلس الأعمار في العراق. شبكة الاقتصاديين العراقيين، في 19/9/2019.

مشروع قانون مجلس الأعمار لسنة 2019. -iraqieconomists.net/ar/wp site.-newcontent/uploads/sites/2/2019/09/2019

……………………………………………………………………………………

د. جواد الكعبي / باحث أكاديمي عراقي

أكتوبر/تشرين الأول 2019

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here