تنظيم “داعش” في المنظور الأمريكي

بقلم

د. سالم الكتبي

أشار التقرير السنوي الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية حول محاربة الإرهاب إلى أن تنظيم “داعش” قد وسّع انتشاره حول العالم في عام 2018 رغم إعلان الإدارة الأمريكية الانتصار عليه في سوريا وقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، كما ذكر التقرير أن “تكتيكات الإرهابيين واستخدامهم للتقنيات تطورت أيضا عام 2018، فيما يعود عناصر التنظيمات مثل “داعش” إلى بلدانهم، ما يشكل خطراً جديدا”. واعتبر التقرير أنه رغم فقدان “داعش” لكافة الأراضي التي كان يسيطر عليها، فقد اثبت قدرته على التكيف والبقاء، وخاصة من خلال أنشطته الهادفة إلى تشجيع أو تزجيه اتباعه عبر الانترنت.

والمؤكد أن الخلاصات أو الاستنتاجات التي توصل إليها التقرير الأمريكي ليست مفاجئة للمتخصصين في شؤون مكافحة الإرهاب، لأن قتل البغدادي ومن قبل ذلك هزيمة التنظيم عسكرياً لا تعني بالضرورة القضاء عليه نهائياً، فتنظيمات الإرهاب تتمحور بالأساس حول “فكرة” وأيديولوجية تروج لها لدى المتعاطفين المحتملين معها تمهيداً لإقناعهم بالانخراط الفعلي في أنشطة التنظيم أو على الأقل المساعدة في الترويج لأفكاره والدفاع عنها.

المؤكد أيضاً أن قدرة هذه التنظيمات على البقاء في ظل عصر المعلوماتية والانترنت تبقى عالية للغاية، لأنها تحول الفضاء الالكتروني إلى ساحات جهاد افتراضية وتتخذ من هذا الفضاء منصات إعلامية مجانية تروج من خلالها للأفكار والأنشطة الإرهابية، ولكن من الصعب الحكم على فاعلية هذه التنظيمات وقدرتها العملياتية من خلال مجرد تواجدها عبر الانترنت، فهذا التواجد لا يعكس بالضرورة مستويات خطر أو تهديد محددة لهذه التنظيمات، ولكنه لا يعني بالمقابل انتفاء الخطر تماماً، بحيث يكون المعيار الحقيقي لتحديد مستويات الخطورة والتهديد رهن مراقبة تحركات وخطط هذه التنظيمات وبالأخص قدرتها على تنفيذ ماتروج له عبر الانترنت سواء تعلق الأمر بتهديدات مباشرة أو تلك التي يمكن توقعها من خلال تحليل الخطاب الإعلامي والدعائي ومسارات تطور التنظيم ومناطق اهتمامه الجغرافية.

ومن أجل الوقوف على قدرة تنظيم “داعش” تحديداً على الاستمرار يجب الإشارة إلى عوامل عدة أهمها برأيي دور القيادة الجديدة التي أعلن التنظيم عن خلافتها للبغدادي، وهو المدعو أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، حيث تشير عملية الإعلان عن مقتل البغدادي والكشف عن هويته إلى تماسك نسبي للتنظيم على الأقل في مستويات القيادة العليا، لأن الملاحظ أن هذا الإعلان قد تم في غضون أقل من أسبوع، وربما أسهم في ذلك أن هناك “وصية” للبغدادي بخليفته، ما ساعد في حسم أي جدل محتمل حول قيادة التنظيم، كما يلاحظ في إعلان تنصيب الزعيم الجديد لداعش أنه احتفظ بلقب “أمير المؤمنين وخليفة المسلمين”، كما أشار بيان التنظيم في هذه المناسبة إلى أن استمرار مسيرة “داعش” الإرهابية” وتحدث عن “فتح البلاد”، ما يعني أنه خلال الفترة التي سبقت مقتل البغدادي لم تتم أي مراجعات فكرية داخل ما يعرف بـ “مجلس شورى” التنظيم حول فكرة “الدولة”، و الانتقال للعمل السري، أو إجراء تغييرات في أهداف التنظيم وآليات عمله.

ورغم أن البيان قد تضمن إشارات من مثل “إن الدولة اليوم تقف على أعتاب أوروبا ووسط افريقية بل هي ممتدة باقية بإذن الله تعالى من المشرق إلى المغرب”، فإنه تضمن أيضاً إقراراَ ضمنيا بالهزيمة والانزواء حين تناول بلغة انسحابية ماوصفه بـ”فرح الولايات المتحدة وغرورها” بما حققته في حربها ضد التنظيم، حيث لا يمكن اغفال أن الإشارة إلى مسألة وقوف التنظيم على اعتاب أوروبا ووسط افريقيا ليس سوى نوع من رفع معنويات عناصر التنظيم ومحاولة الإيحاء بقوة التنظيم وقدرته على البقاء والتمدد، وقد حاول التنظيم اثبات ذلك

عملياً عبر تنفيذ اعتداءين إرهابيين بعد صدور هذا البيان بأيام قلائل، حين استهدف نقطتين عسكريتين في مالي، ما أسفر عن مقتل أكثر من 50 جندياً؛ ومن ثم يجب التعامل بحذر شديد مع مثل هذه البيانات لأن الإعلان بحد ذاته ليس دليلاً على وجود زعيم جديد للتنظيم، أو قدرة التنظيم على تجميع صفوفه مجدداً، لاسيما في غياب أي معلومات دقيقة حول شخصية وهوية الزعيم الداعشي الجديد أو جنسيته، بحيث تبقى احتمالية أن يكون هذا الإعلان أحد حيل عناصر التنظيم للإبقاء على “الفكرة” بانتظار ما يحدث لاحقاً.

المؤشر الأهم من وجهة النظر التحليلية أن “بزنس” الإرهاب لا يزال “منتعشاً” ويشمل منطقة جغرافية شاسعة من العالم، فالعمليات الإرهابية في عام 2018 امتدت إلى 84 دولة، نحو 85% في منطقة الشرق الأوسط، وجنوب آسيا وافريقيا جنوب الصحراء، وهناك عشر دول فقط (بحسب تقرير الخارجية الأمريكية) هي أفغانستان، وسوريا، والعراق، والهند، ونيجيريا، والصومال، والفلبين، وباكستان، واليمن، والكاميرون، قد عانت من نحو 75% من مجمل الاعتداءات الإرهابية في العالم. أي أننا بصدد تنظيمات الإرهابية لا تزال تحصل على تمويلات كافية لتنفيذ جرائمها ويساعدها في ذلك وجود مناطق جغرافية تعاني تفضي الإرهاب أو تغيب عنها سلطة الدولة لمصلحة ميلشيات الإرهاب.

أحد أهم عناصر الخطورة في تنظيم “داعش” تكمن في أن منسوبي التنظيم ليسوا جميعاً من المتشددين المؤمنين بأفكاره، بل إن نسبة كبيرة من عناصره هم من “المرتزقة”، وهؤلاء يتوقف ولائهم للتنظيم على مدى قدرة القيادة الجديدة للتنظيم على الإبقاء على ولائهم من خلال الأموال التي ربما لا تزال موجودة بين أيدي عناصره القيادية، حيث تشير تقديرات غربية إلى أن التنظيم كان يتوافر في ذروة نشاطه قبل سنوات من هزيمته العسكرية على موارد تقدر بستة مليارات دولار، حصل عليها من الضرائب والابتزاز وسرقة المصارف في العراق فضلاً عن عائدات بيع النفط والغاز وايرادات أخرى، وإن كان من المؤكد أن انهيار الدولة المزعومة للتنظيم وتشتت عناصره، وانهيار شبكته الأمنية قد جعل من فكرة وجود جزء كبير من أموال التنظيم مسألة مشكوك في صحتها.

الخلاصة أن التقرير الأمريكي بشأن الإرهاب ينبه العالم إلى أن مقتل البغدادي لا يعني انتهاء خطر الإرهاب، وبالتالي من الضروري الإبقاء على استمرارية وفاعلية خطط واستراتيجيات وتحالفات مكافحة الإرهاب عالمياً كي لا تنشئ ظروف مواتية لموجة جديد من هذا الخطر العالمي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here