الوعي قبل فوات الآوان !

تبين لنا لماذا الحوار الذي خاضه العراقين منذ سقوط النظام البعثي ولحد الآن ، كان حوار طرشان ، لم يقتل ذبابة ولم يخدش أذن ، ولم يؤدي لزحزحة أحد عن مكانه ، وأنما كأن لعبة يلعبوها بنتظار النزال الفصال ، فلقد قرعت الأجراس ، ورفعت الرايات ، وزفت المعركة ، وفِي هذه المعركة ، يرفض أي موقف حيادي ، فما وما ، أو معنا أو ضدنا . وحقيقة ، لا أحد يعرف ، من يضع هذه القواعد لهذة المعركة الفاصلة ، فالمهم الآن أن يُخاض النزال ، وهو يقرر من يكون ومن يزول . وبما أن هذاالمعركة جدية وحاسمة ، وترتتب عليه نتائج كبيرة ، علينا تحديد هوية هذين الطرفين المتصارعين ، فلا يعقل أن يكون ثمة نزال بهذه الضخامة ، ونجهل أصحابه ، الذين هما في النهاية ليس غريبين عنا ، شاء حظنا العاثر أن نكون منهم ، ولكن الأيام بعادة بيننا . وهذا البعد ، أعطانا أمتياز ، وتلك الميزة ، أن نكون مجرد متفرجين وشهود عدل على ما نراه ، رغم أن لا أحد منهما يقر لنا بهذا الامتياز . ولكننا ، لحسن الحظ لا نعلق أهمية كبيرة عما يقول عنا سواء خير أو شر فنحن فقط نريد نستثمر وضعنا ونكتب ، عما نعتقده وما نراه ، وعن ما يحدث ، ويصيب البلاد ، تلك الشوكة في الجسد ، ولا نعق مع الناعقين ، عن باطل ، وبحجج زائفة ، مفبركة . وبما أن هيرقليطس ، يقول العيون والأذان شهود زور ، فسوف لن نأخد بما نسمعه ولا بما نراه ، ما لم يقره العقل ويصح خطل الرؤية والسمع ، في عصرنا الذي يوهمك بما لم يقع وبما لا يسمع به فعلاً . وأظن حان الوقت الذي نسئل فيه عن قصة هذا الخلاف ومن هما المختلفين ؟ لا يصعب تحديد هوية المختلفين ولا على ماذا يختلفون . أنه الخلاف الأزلي ، الخلاف على من يمسك بسلطة ، وقديماً ، قيل بأن لم يشق الدولة الاسلامية منذ بدأ نشؤها مثلما شقها الخلاف على الخلافة . وهذه الحقيقة ، التي لا تتميز بها دولة الإسلامية وحدها ، فالخلاف على السلطة ، هو الوضع البشري الأصلي ، بمختلف مراحله . لأن السلطة ، تعني الامتيازات ، والتملك ، والقوة . ولكن ، ما يبدو خاص بالعرب والمسلمين هو أن هذا الخلاف على السلطة ما زال قائم وعلى أشده وكأنه نزاع آبدي . فقد ، روض الغرب وأكثر دولة العالم هذا النزاع وحله ، بتداول السلطة عن طريق الانتخابات ، ولكن هنا ، وفِي العراق ، وبعد الحصول على الديمقراطية ، يبدو أنها أججت هذا النزاع ، وبدأت الديمقراطية مجرد شحذ الهمم لهذا النزاع الدائم .

وقبل أن نبدأ في تحديد أطراف هذا الصراع وتوجهاتهم ، نود أن نسأل ونتسائل ، هل يمكن عرض وجهة نظر حيادية ، في هذا الموضوع ؟ بالطبع لا أحد يريد أن يقبل مجرد التفكير بهذه الطريقة ، فالكل منهم يقرأ الآخر ليعرف لمن ينتمي وينحاز ، ويشك بأي وجهة نظر حيادية ، ويرى فيها مهما علت على التحيّز ، والتجرد ، عن وجهة نظر كل الأطراف ، يراه فيها أنحياز ضمني على الأقل لهذا الطرف أو ذاك إذا لم تتفق مع توجهه . وبما أننا نسلم ، بأن يمكن أن تكون هناك وجهة نظر حيادية بين المتخاصمين بنسبة كبيرة ، يمكن لها في النهاية أن تكون الأساس لحل عادل بين الطراف المتصارعة ! ونصر على أن نحاول عرض بقدر الإمكان وجهة نظر حيادية ، بحسب ما تعرفنا على وجهات نظر الأطراف المتصارعة وممارساتها . فهذه الوجهات النظر والممارسات بات شيء مشاع ومعروف للكل بعد عقود من الزمن من الاحتكاك مع كل القوى السياسية في العراق . فلا أحد مثلاً ، يجهل توجهات الشيوعين في العراق ، أو البعثين ، أو الأحزاب الأسلامية على الأقل بخطوطها العامة وتوجهاتهم الرئيسيّة . وإذا سألنا من هي الأطراف المتصارعة في العراق ، وهل هناك عدو داخلي يخشى منه على الشعب العراقي ، (إذا نحن وضعن الآن جانباً العدو الخارجي) ؟ التجربة تخبرنا بأن هذا العدو الداخلي ، والذي هو أكثر ما يخشى منه العراقين تجسد في البعثين ، في بنسخته القديمة أو النسخة الصدامية ، في كونه يمثل مصادرة لكل ما يملكه العراقين من حرية وثروة ، وأنه يمثل استعباد حقيقي ! ولكن من يكون هؤلاء البعثين ؟ هذا سؤال صعب ولا يمكن الأجابة عليه ، بشكل شافي ! لكون البعث يتلبس مظاهر عديدة ، وهو أخطبوط له أذرعه في كل طبقات المجتمع ولا يقتصر على فئة وطبقة ، ومن هنا قوته ، وصعوبة تشخيصه بعكس بقية الأحزاب العراقية ، التي يمكن معرفتها ، وتحديد هويتها وجماهيريتها ، بينما البعثيون عابرون لكل الطبقات والفئات وتجدهم بين كل أطياف المجتمع العراقي ، لظروف تاريخية ساهمة في يكون موجود بين أكثرية الشعب العراقي ، ولكنه ، مع ذلك ، تجده ، في كل مراحله ، يدار من نمط وقيادة ثابت وتنهج نفس الأسلوب ، في التعامل مع الأخرين ، والشعب ، تقوم على أخصائهم واستعبادهم ، لأن ، لا يمكن لهذه الحزب أن يعيش وويستمر بالوجود بدون هذه القيادة الغامضة ، والتي يمكن أن تدعو منظمة سرية بحق ، كون قياداته لا تعرف هوياتها، على وجه التحديد ، بيد أنها دائماً ذات توجه دكتاتوري ، ولا يمكن توجد هذا القيادة بدون هذا الدكتاتور ، ومن هنا خطورتها والخوف منها لأنها لا بد أن تلغي الأخر حتى تعيش وتستمر في الوجود . ولذا من الصعوب تخيل زواله واختفاءه ، لأن هناك جملة عوامل داخلية وخارجية تساهم في أستمراره . فمن الناحية الداخلية ، فمعروف أن الشعب العراقي يتكون من فئتين عربيتين رئيستين هم السنة والشيعة ، ( بغض النظر عن الأكراد والفئات الاخرى ) اللذان عاش في علاقة متشنجة وبحث دائم عن سيادة أحداهما على الاخرى . وكان السنه يمدونه في الفئات القيادية دائماً ، والشيعة بجماهيره . ومن ناحية آخرى ، يشكل الشيعة الفئة الكبرى . ولعل ، تعرض هذه الفئة إلى الاضطهاد الدائم هو الذي ساهم في النظر لها على أن فئة واحدة متجانسة وتمثل وحدة متكاملة ، لكون خلافاتها لم تظهر على السطح ، ولم يتيح لها أن تتبلور ، وتتخذ شكل علني . فالشيعة في الحقيقة والواقع ليسوا فئة متجانسة ومتوحدة ، ولا يمكنهم أن يكونوا كذلك ، لكونهم مؤلفين من فئات تعيش في أوضاع مختلفة ومتباينة ، ولا تقدر عقيدة ، عفى عليها الزمن أن تكون هي اللحمة والرابطة . فمعروف أن ليس الأفكار والتصورات هي التي توحد الناس وتجمعهم في موقف موحد ، وأنما الأوضاع المعيشية والاقتصادية . فالشيعة خليط غير متجانس لحد كبير وتوجد بينهم فجوات وهوات لا يمكن عبورها في العقائد والأفكار القديمة ، فكل الناس هم ولد زمانهم ، وعليهم ، قبل كل شيء تدبير موارد معيشتهم قبل الإخلاص للأفكار لا تسد رمق . لذلك تجد العديد من الجماهير الشيعية ، عاشت وانضمت إلى البعثين ، كعقيدة دنيوية ، وأبقو على معتقدهم الشيعي كشيء داخلي وشخصي ، وانخرطو معهم لتوفير رزقهم ، قبل الخلاص الأفكار غريبة عن وضعهم الحالي . لذلك ، الكثير من الشيعة نضموا إلى البعثين ، بضد من عقيدتهم ، التي ولدوا عليها . فالشيعي يعاني من زدواجية حياتيه وفكرية ، فالفكر الشيعي ما عاد يلائم الظروف الحالية ، ككل المعتقدات الاسلامية ، أنمحى بريقها ، وما عاد لها وجود فعال ، وبات اشياء شخصية ، ولا يمكن أن تنفع في الممارسات اليومية . وهو أضافة ، لذلك ، أي الفرد الشيعي ، تجده من ناحية ثانية ، يعاني غربة وتوتر في العلاقة مع نخبته الفكرية المرفهة ، والتي تطالبهم في الإخلاص للأفكار التي تخدمهم وتديم سيادتها عليهم ، فهدة النخبة ، أو الطبقة العليا من الشيعة ، والتي تعيش أوضاع اقتصادية مختلفة عن جماهيرها ، لا تكن ، في المقابل ، سوى الاحتقار ، ولا تبدي سوى مشاعر الكراهية ، لجماهيرها وتعاملهم بدونية . وجاء التحرير ليوسع من هذه الشقة والهوة بين الجماهير الشيعية ونخبتها التي أستأثرت بالمال العام ، بدون أن تلتفت لجماهيرها المحرومة ، وبدون أن تحترم مشاعرها وتنصفها من أعداءها ، بل تحالفت معهم في صلافة وقلة حياء ، ومن هنا ، يبدو ، أن ما حدث بعد التحرير قد رسخ قناعة الجماهير العفوية والتي تسكن بلاوعيهمً ، بأن المسافة بينهم وبين نخبهم الفكرية لا يمكن ردمها لا اليوم ولا في المسقبل . لذلك يبدو أن الطلاق سيكون آبدي ، ويقطع كل الخيوط الواهية التي كانت تربطهم فيما قبل التحرير ، وحينما كأنو يتعرضون كلهم الاضطهاد .فهل يمكن تسمية ، هذا الذي يحدث ” ثورة ” الشيعة ضد التشيع وضد النخبة الشيعة التي استعبدت جماهيره لفترة وتاجرة في مشاعرها وعواطفها وإخلاصها والائها وتخذت منهمً وسيلة لثراء والتطفل عليهم ؟ . هكذا يبدو الامر ، لوهلة الأولى ، بيد أن أنتقام الجماهير الشيعية من قادتها ، سوف لن يقودها للإخلاص ، لأنها كالمستجير بالنار من الرمضاء ! فالبعثين ، ليس هم طريق الخلاص فهم ذاتهم ، باتو جزء من منظمة سرية تحركها دول كثيرة ، لتخريب العراق وبقاءه ، تحته رحمتها ، واستنزاف حتى أخر قطر دم فيه . أن خلاص العراق لا يتم إلا في جتراع المستحيل ، الذي هو هدم ، كل ما هو موجود من عقائد وأفكار بالية ، يتخذ منها أساس لوحدة والتلاحم ، اي أيجاد كمال اتاتورك جديد , يخلق روابط جديدة وأفكار جديدة لمواطنة ، وينفض غبار الماضي وغزعبلاته عنهم ، وهذا كله يبدو بحكم المحال ، في الظروف والاوضاع الحالية ، وبدون تحقيق ذلك المحال يبقون يدرون في الحلقة المفرغة . فالعراقين ، ككل ، سنة وشيعة ليس مؤهلين بعد للحرية ، ولا للاستقلال . ولا لحكم وطني بعيد عن الولاء لفئة طائفية ، وقد يحدث ذلك الحكم الوطني المنشود لفترة محدودة جداً، القصد منها الخداع والرسوخ في السلطة ، لكي ، من ثم ، يرجع لسابق عهده ، أي التفرد بالسلطة والقضاء على من يعدهم خصوم . فالعراق ، لم يتعلم من الديمقراطية التي مارسها لكثر من عقد من زمن شيء ، فلا ظروفه الداخلية تساعده على التعلم ولا ما يحيط به . لأنهم تحولوا في بساطة إلى أدوات بيد الغير . ومن هنا علينا أن نشكك بالوعود المعسولة وبالشعارات الطنانة، التي يطلق المدافعين عن ما يسمى ” الانتفاضة . فالمحاصصة الملعونه تبدو هي قدر العراق ، إذا أريد له أن يتمتع بالحرية ، عسى أن يأتِ يوم وينضج البلد إلى دولة المواطنة . فكل الدعوات لنبذ دولة المحاصصة ، لا تتم اليوم إلا عن طريق وأد الديمقراطية والحرية . ففي المحاصصة تم الأول مرة تقسيم ثروة البلاد بين مكوناته بشكل عادل لحد ما ، بدل من أحتكارها من فئة واحدة .، وتطبيل إلى يوطوبيا بعيدة المنال عن الأوضاع الحالية ، لدولة مدنية . فالمطلوب ، اليوم ، فقط تبديل هؤلاء الفاسدين من كل الأطراف في ظل الديمقراطية والانتخابات والبحث عن أشخاص نزيهين لحد ما ، إذا وجدوا في العراق ، أما طلب الكاملين والمصطفين ، الذي ينادي به ” المنتفضون” فهو ضحك على الذقون ،وخداع . فهو ، مثل ، الحبل بلا دنس ، أمر غير معقول . فما نراه الآن ، لا يدل ، مهما ذهبنا في التفائل بعيداً ، بزوغ نهضة ، وعي جديد ، تمخض عن سنوات الفساد . وإنما هو في واقع الأمر تحريك دمى ، بخيوط غير مرئيّة لم تنكشف بعد ، وحين تنكشف تلك الخيوط يكون أوان التأسف والندم قد فات . فنحن رأينا ،أن طيلت فترة التحرير كانت تجري عملية غسل دماغي للعراقين ، تهيئهم لم حصل الآن ، بموال دول الجوار وغيرها هي التي تمخض عنها ما يحدث هذه الأيام . وهذا قد يبدو سوء ظن كبير بالشعب العراقي ، فكل ما نأمله ، وإذ أخطأ تشأمنا ، فلتصلح لنا الأيام ذلك . فنحن لا نعتقد ، أن العراقين يمكن أن يتحركوا ، وبهذا الشكل المنظم والمخطط ، بدون عون ودفع خارجي وداخلي ، فما يحدث يعد امتداد طبيعي ” للربيع العربي ” فهو يحمل الكثيرين مواصفاته ، وتوجهاته . وسيكون من النسخة اليبية ، فما حصل في ليبية ، كان نتيجة أحقاد على اليبين وقائدهم المتهور ، ويكن من دمرو ليبيا نفس الكراهية والحقد لشعب العراقية وقيادته المغضوب عليها . فالوعي بحجم ما يخطط لعراق يجب أن لا يحجب بحجة ” ثورة الشباب ، ” وأنتفاضة ” أكتوبر . لذا أعز ما يحتاج العراق الآن في هذا الظرف الحساس هو عودة الوعي ، من قبل الكل وعلى الأخص من قبل هؤلاء الذين يطبلون لهذا الخراب القادم بوجه الكالح ، والذين جرفهم تيار الدعاية الرخيصة ، وسقطوا في فخ الدولار الخليجي عن علم ودراية ، وهم يهتفون بالدفاع عن الوطنية وثورة الشباب ، أكباش المحرقة القادمة ، وبهوس جنوني ، وعليه يبقى أن نقول بحق هؤلاء، الذين أتخذوا من الوطنية الزائفة والكاذبة قميص عثمان يرفعوه بكل مناسبة وغير مناسبة ، ما يقوله المثل الفرنسي بحقهم ، هي أن الوطنية هي أخر ملجأ إلى الانذال ، يرفعوا رأيتها كذباً وزوراً.

هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here