[عود الثقاب الذي أشعل الحريق]

الخليل علاء الطائي

يقول أبو ذر الغفاري (عجبتُ لمن لايجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.).

أسباب الثورات في التأريخ تبدأمن هذا المبدأ الإقتصادي؛ ثم تتفرَّع منه إمتدادات وإنعكاسات سايكولوجية وإجتماعية وثقافية وسلوكيات وعادات وأعراف وتقاليد.. وأخيراً الحروب بجميع أشكالها وأسمائها وأنواعها. وغالباً ما تبدأ الحروب الصغيرة بخلافات جانبية وراءها دوافع إقتصادية كالخلافات حول الإرث أو تقسيم الأراضيى أو المنافسات التجارية.

أمَّا الحروب الكبيرة؛ الدولية أو العالمية فالأطماع في ثروات البلدان أهم أسبابها؛ لاعليك من الشعارات مثل العزة القومية ونثقيف الآخرين وخير مثال حروب بريطانيا والغرب من أجل الوصول إلى الهند. ومن أجل الوصول إلى الهند تم إكتساح البلدان التي تقع في الطريق وهكذا..

ولكي لانبتعد عن موضوعنا وهو الإنتفاضة الشبابية نقول:

أية نظرة تحليلية, موضوعية, لواقع هذه الإنتفاضة الواسعة يجب أن تبدأ بإلقاء الضوء على الأسباب التي أدت إلى الإنفجار, إبتداءً من عام التغيير في العراق وما تلاه من تطورات. وهنا لانغفل جهود المُحللين ووجهات نظرهم وهم يرصدون التطورات بشكل متواصل, وقد أثمرت تلك الآراء عن تصورات جديدة للواقع الحالي بما فيه الدستور ونظام الحكم وكيفية محاربة الفساد.

لقد تحركت المياه الراكدة بفعل إنتفاضة الشباب ولكن حذار فهناك من يريد إفشال تجربة العراق برمتها؛ أي نسف العملية السياسية الديمقراطية والعودة إلى الوراء.

ويمكن إستخلاص ثلاثة إتجاهات رئيسية في إيضاح الأسباب الحقيقية والجوهرية وهي؛ إقتصادية وسياسية وإجتماعية؛ مع إغفال سبب مُباشر ويمكن إعتباره عود الكبريت الذي أشعل الحريق؛ والمُتمثل بالجانب السايكولوجي لشريحة الشباب وهي الفئات العُمرية بين السادسة عشرة ودون الثلاثين, بمعنى أن أغلبية هؤلاء إستيقظوا ذهنياً وسايكولوجياً بعد 2003 وعاصروا التطورات الجديدة وعاشوا في خضم التناقضات الفكرية الجديدة.

لقد إكتشف الشباب طرائق جديدة في التواصل الإجتماعي عبر الفضائيات والنت والنقل السريع حيث تصل المعلومة في لحظات بالصوت والصورة ومن مصادر خبرية متعددة وأصبح العالم قرية صغيرة وموجات معلوماتية هائلة, وتعرّفوا على سياقات أنظمة الحكم في الممارسة الديمقراطية وخوض الإنتخابات وإقرار الحقوق بثوابت دستورية. فالتطورات العالمية كانت سريعة وسقوط الأنظمة القديمة بات بيد الشعوب لا بيد حفنة جنرالات. فقد إتسعت رقعة الإحتجاجات في جميع البلدان ودل ذلك على إرتقاء وعي السكان والتطوّر الحضاري, ولا نستثني حتى بلدان الخليج فلها خصوصيات في أنظمة الحكم المرتبطة بالمصالح الغربية وحراستها لمنابع النفط المانعة لتساقط الأنظمة فيها

في الوقت الحاضر. إنها مرحلة من مراحل التطور في المفاهيم الحقوقية والقيم الإنسانية, إذا ُقدَّمت بالأساليب السلمية الحضارية. ويبدو أنها الآن تتجه بهذا الإتجاه.

أمامنا واقع مُركَّب من مُتناقضات؛ حقوق مدنية.. طموح شبابي للإستقرار الإقتصادي وللأمن والأمان. إنه جيل النت والموبايل والفضاء المفتوح بالصورة والصوت… في مقابل واقع متناقض الإتجاهات.

يجب عدم نسيان القوى السياسية والدينية التي قُمعت بشراسة إبّان عقود الدكتاتورية البعثية؛ ومن المؤكد أن هذه القوى تسعى لإمتلاك حق الحكم وتقرير المصائر.

بعد التغيير إستتب الوضع بيد الأحزاب الدينية فتداخل الدين مع السياسة وأنتج التداخل تطبيقات (شرعية) نحو تطويق الحريات الفردية تحت غطاء الدين؛ شملت الجوانب الثقافية, بسلسة ممنوعات شملت التخصصات الفنية كالمسارح ودور السينما التي أغلقت بالكامل والنوادي الثقافية ورافقها إختطاف وتغييب نساء ومن ثم إغتيال ناشطين شباب وأدباء وفنانين والهجوم على النوادي وغلق محلات الخمور ووضع رقابة على النت وغلق بعض المواقع.

وأصبحت رؤية قندهار تلوح في الأفق.

ومع كل الإحترام للمناسبات الدينية وتقاليدها لكن ذلك لايعني إخضاع قوانين المُجتمع للتحول نحو دولة دينية مهما كان شكلها ومذهبها سنيَّةً كانت أو شيعية.

قد لايولي البعض أهمية لهذه الأمور, ولا أهميةً للذين أغتيلوا من أُدباء وفنانين شباب وشابات, ولكنها أساسية في حياة الشباب.

أمّا الجانب الإقتصادي, المعاشي, فهناك أسباب جوهرية مرجعها الخلل في نظام الإقتصاد الأُحادي, الريعي, ومن ثمَّ غياب التخطيط الذي يعتبر الإنسان القيمة الأساسية العليا في المجتمع, الأمر الذي يتطلب تخطيطاً منهجياً لرفع المستوى المعاشي والثقافي والتعليمي لكافة فئات المجتمع وبشكل خاص الفقيرة منها وهي الشرائح التي حملت العبء الأعظم من الظلم والفقر والتهميش طوال عقود.

ويستوجب الواقع الإقتصادي جرد القوى العاملة في المُجتمع وبشكل خاص فئة الشباب التي أشرنا إليها وتشكل نسبة سبعين بالمئة من سكان العراق, وتضم هذه الفئة كافة الخريجين وأصحاب الشهادات العليا وأقل من هؤلاء طلبة المدارس والجامعات إضافةً إلى العمال والكسبة والحرفيين وهم في الأصل من تاركي الدراسة, إذا تحدثنا فقط عن قوة العمل في المدن.

من الجدير بالذكر الإنتباه إلى حركة السوق, أي النشاط التجاري الذي تُحفزه القوة الشرائية بشكل طردي والآتية من إرتفاع دخل الأسرة ودخل الفرد سواءً عن طريق الرواتب (رغم التفاوت في المستويات) أو عن طريق العمل في القطاع الخاص. وإذا تأملنا قوة العمل الشبابية في هذا الواقع نجدها مُنضوية تحت نشاط السوق ولا تُعاني من بطالة. ولاينطبق عليها مفهوم البطالة (شل قوة العمل الأساسية)؛ بمعنى إنتماء معظم الشباب للعمل أو للمدارس. لكن غياب التخطيط المركزي لايدعو للتفاؤل؛ فنشاط السوق مُتقلب المزاج ومُعرَّض للهزات الموسمية والعواصف السعرية والعرض والطلب خصوصاً إذا تمركز النشاط على السلع الإستهلاكية والقطاعات المُعرّضة للخسائر والفشل؛ حيث يجري بكل سهولة تسريب العمال أو تقليل الأجور وإبتزاز العامل على أجره اليومي.

في الآونة الأخيرة أقدمت الحكومة على خطوة غير مدروسة, كان ينبغي التخطيط لها بما يتوافق مع حركة السوق ومستوى المعيشة وفرص العمل للعاملين في القطاع الخاص؛ وتمثّل ذلك (بإزالة التجاوزات) وتشمل أصحاب البسطيات وإمتدادات المحال التجارية على الأرصفة والجزرات الوسطية وتستوعب هذه الأماكن مئات الألوف من الكسبة والباعة والحرفيين والتُجار والصّناع, وفي جميع المحافظات الوسطى والجنوبية إبتداءً من بغداد.

والمُلفت أن هذا الأمر طُبق بمصاحبة مفارز الشرطة والبلدوزرات. وتم تعيين أماكن جديدة لأصحاب هذه المحال والبسطيات قد تكون بعيدةً عن مواقع سكناهم؛ علماً أن مُعظم المُشتغلين في هذا النشاط الإقتصادي قد تأقلموا مع طبيعة أعمالهم وأسواقها, فضلاً عن الخسائر التي سببتها عمليات الإزالة والنقل والترحيل. ومن شاهد تلك الإجراءات على الإرض يستطيع أن يُقدِّر الكيفية الإرتجالية التي تمَّت بها العمليات؛ فقد تحولت مئات المحال والبسطيات والورشات إلى ركام وجميعها مصادر معيشة لشرائح الشباب واُسرهم. وفي الركام محال تجارية وفروع لشركات تركية وإيرانية وعراقية وصينية كمحلات تجهيز وبيع السيراميك والتجهيزات الكهربائية والمطاعم الشعبية وورشات التصليح والأدوات الإحتياطية والعُدد ودكاكين الخضار وغيرها.

وقد تأقلم أصحابها وعمالهم زبائنهم مع سياقات عمل السوق وعلى مدى عقد ونصف من الزمن ويشمل هذا الوضع أكثر مناطق العاصمة والمُحافظات إزدحاماً بالسكان.

لذلك لانستغرب دور هؤلاء الكسبة في هذا الحراك, فنظام الممنوعات بدأ تدريجياً بالجوانب الثقافية والإجتماعية ليشمل المنع الإقتصادي وأبواب رزق العاطلين عن العمل من الخريجين وتاركي المدارس.

صحيح ان نشاط السوق يتركز على البضائع غير الإنتاجية, الأمر الذي يتطلب خطط إقتصادية شاملة, لكن نشاط الأسواق إستوعب أغلب الخريجين وأصحاب الشهادات ولا نُبالغ إذا قلنا أن أغلب هؤلاء غير مُهتمين بالتعيينات الحكومية وأكثرهم يمتلكون أكثر من محل عمل ويستخدمون العمال الفلبينيين في فروع محلاتهم. مع ذلك فهاجس عدم الإستقرار يؤرق العاملين في القطاع الخاص.

لقد طُبقت تلك الإجراءات في وقت تردي الخدمات والتعليم والصحة, ومع الضجيج حول الفساد .

ونعيد القول مع غياب التخطيط الذي يهدف إلى رفع قيمة الإنسان.

ولا نستغرب عدم قدرة هؤلاء الشباب في التعبير عن مطالبهم الحقيقية؛ وقد إختصروها بشعار( نريد وطن) ومعناه نريد سكن ومصدر رزق ثابت أو مكان عمل غير مُهدد بالترحيل والنفي. ومن المُحتم أن يتسع الشعار ويمتد وأن يشمل الوضع العام فقد وصلت العملية السياسية في العراق إلى طريق مسدود يستوجب إعادة النظر في قواعدها الدستورية ونظامها السياسي والإقتصادي بما يتطلب إشراك الشعب في تقريرها.

ولم يخرج الشباب لتغيير رئيس وزراء بآخر ( مستقل) ما لم يكن في الدولة منهاج تطوّر شامل يتقيَّد به الجميع من إعلى مسؤول إلى إدنى موظف.

وقد كشفت السنوات الماضية جهلاً في تطبيق القوانين أو تأخير ما يخص المواطن؛ مثال ذلك الإجحاف وسوء التقدير في قانون التقاعد. ثم أين ديوان الرقابة المالية, وما هو عمل الهيئات القانونية في الوزارات والمديريات العامّة؟. وأين مشروع مجلس الخدمة المركزية, ومن يسأل عن المشاريع المُعطلة ومنها مشاريع عملاقة كميناء الفاو الكبير والقناة الجافة وسدود شط العرب وتحلية المياه وغيرها وغيرها.. وأين القوانين التي تُنظِّم عمل القطاع الخاص وتضمن حقوق العمّال فيه؟ ظهرت أخيراً بوادر تشبه الإسعافات الأولية بهذا الخصوص كالمِنَح والسلف ولكن المُشكلة أكبر من هذه الترقيعات.

إن عقدة التلكؤ تعود إلى منظومة إدارية غير كفوءة تحتاج إلى تأهيل في تطبيق القوانين لخدمة المواطن لا ضده, والهدف إبعاد المواطن من شبح الفساد والجريمة. فضلاً عن ذلك لابد من إعادة النظر بمناهج التعليم بكافة مراحلها لهذا الهدف.

ولا نستغرب ركوب الموجة من هذا التيار أو ذاك ( فكل حزب بما لديهم فرحون) وكلٌ يدّعي أنه يمتلك مفاتيح حل الأزمات. وقد كشفت الأحداث وجود أمثال هؤلاء ونواياهم في تجيير الحراك العفوي لصالح أجنداتهم, وجميعها بعيدة عن أصل الأزمة وفِهمها. أمّا الحلول الجذرية فتقتضي مشروعاً سياسياً تنموياً بعيد المدى.

أما التعيينات التي تصدر هذه الأيام فشملت أعداد من النساء الخريجات والأمر صحيح إن لم يكن ترقيعا أملته الظروف الحرجة الحالية, وأن لايكون تفويج بطالة مُقنَعة إضافةً إلى أعداد الموظفين الذين عيَّنتهم العلاقات القديمة والمحسوبيات. فالدولة مُترهلة والهدف المطلوب تحسين الواقع المعاشي للإنسان والنهوض بالإقتصاد من حالته الريعية إلى الحالة الإنتاجية في جميع المجالات. وأن تكون الدولة مدنية عصرية التوجه وديمقراطية الفكر والممارسة.

إن منهاج الحكم يجب أن يُبنى على هذا الإعتبار.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here