العراق والازمات المتشابكة والمتراكمة

لقد برزت مجموعة هائلة من الأزمات الجديدة ومظاهر الخلل التي عصفت بالحياة السياسية العراقية بعد عام 2003، بدءاً بالدستور وطبيعة النظام السياسي الذي أفرز مسار المحاصصة، والتنافس على استحواذ السلطة وإقصاء الآخر، وغياب المعارضة الحزبية الحقيقية. وكانت الحلول للازمات والمشاكل في أكثر الاحيان تأتي من خلق أزمة جديدة وأكبر لتحل محل الأزمة القائمة، حتى تُنسى الأزمة الأولى لتتجه الأنظار نحو الأزمة الجديدة.

اما ومنذ قرابة ثلاثة اشهر يعيش البلد بحالة من الهرج والمرج اشد وقعاً والماً من ما مضى بعد استقالة الحكومة والفشل في إمكانية الاتفاق على رئيس وزراء وتشكيل حكومة اخرى بديلة اثر الاحتجاجات المطلبية و رغم قيام حكومة تصريف الاعمال والبرلمان بمحاولة معالجة مطالب المتظاهرين، لكن هذه المعالجات السطحية دفعت بهم إلى زيادة سقف المطالب بتغيير النظام السياسي ورحيل الطبقة السياسية عن السلطة ومحاكمتها، بعد أن كانت المطالبات تدور حول تشريع قانون انتخابات جديد عادل وقانون لمفوضية انتخابات جديدة، لوضع حد لترتيبات تقاسم السلطة الذي يوزع مزايا ومناصب الحكومة بين الكتل السياسية وفق إطار المحاصصة وهذه الصرخات المدوية اجبرت الحكومة الى التوقف عن العمل وعاجزة في معالجة القضايا والمشاكل الكبيرة المعقّدة والتي تمسّ مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية ومجموعة من الازمات المتشابكة التي تتراكم يوما بعد يوم ولم يعرفها منذ تاسيس الدولة العراقية.

اما اليوم وبعد ان نفذ صبر الجماهير خرجت لتتظاهر في الشوارع ضد الفساد الحكومي، وغياب معالجات للاوضاع الصعبة ، وجدوا الكتل الحاكمة أنفسهم في حالة من التخبط وحراجة الموقف أمام حركة غير مسبوقة وغير متوقعة من الاحتجاجات المستمرة ليلا ونهاراً دون كلل وملل رغم كون ميزتها هي غياب القيادة وعدم تبعيتها لأي جهة سياسية أو دينية خلافا لسابقاتها التي تبنتها تنظيمات واحزاب ووقفت بدايتها أو نهايتها كما انها تختلف عن الاحتجاجات الصيفية التقليدية للمطالبة بالكهرباء والماء وفرص العمل في ثاني البلدان المصدرة للنفط في منظمة أوبك وعززتها استقالة رئيس الحكومة عادل عبد المهدي والذي ترأس لحكومة تكنوقراط استكمل تشكيلها فقط في الأشهر الاخيرة.

اليوم تصلنا انباء وبعد انتهت المهلة الدستورية لتكليف مرشح لتشكيل الحكومة المقبلة وحددت رئاسة الجمهورية الأحد الماضي آخر يوم للمهلة، وذلك من دون احتساب أيام العطل ضمن المهلة الرسمية بأن الرئيس برهم صالح محرج ومستعد للاستقالة اذا لم يستجب لنداء المتظاهرين في هذه الظروف العصيبة والتي لا تعدو سوى ازمة جديدة تضاف الى الازمات بدل ان تكون نافذة للحل وبعد رفض المرشح الثالث اسعد العيداني من المحتجون ( كما يدعي ) في تكليفه بمنصب رئيس مجلس الوزراء، ليلحق اقرانه ، عضو البرلمان محمد شياع السوداني، ووزير التعليم العالي في الحكومة المستقيلة قصي السهيل لتزداد جراح الازمة ملحاً.

في هذه الاجواء المطالبة بالحقوق والتغيير التي تنادي بها جموع المتظاهرين في عموم العراق بالإصلاح ومحاربة الفساد، والالتزام بالقيم والدستور ويصرون على رحيل ومحاسبة كل النخبة السياسية المتهمة بالفساد وهدر أموال الدولة، والتي تحكم منذ إسقاط نظام صدام حسين عام 2003. وفي حين ان هناك تصارع إرادات في تشخيص من يكلف في رئاسة الحكومة القادمة وتشخيص الكتلة الاكبر .

مما تجعل االدولة في حالة شلل وفاقدة لمواجهة مختلف أنواع العواصف السياسية التي عززتها المشاعر الاحتجاجية المعادية للحكومة وإصرارهذه الشريحة الحاكمة على نفس النهج الذي اتبعوه طوال اكثر من ستة عشر عاما في التوافقات وظلت هذه الأحزاب والكتل السياسية القديمة والتي تشكلت بعد سقوط نظام البعث هي ذاتها تقريبا المهيمنة على السلطة والثروات مع تغيرات على مستوى بعض القيادات السياسية التي لا ترقى إلى التغيير الحقيقي في منظومة حكم قام على أسس المحاصصات السياسية وتمسكت به و لا يمكن تسميت هذا الاصرار سوى وصفه بانه يمثل عدم احترام للمشاعر الشعبية والوطنية العراقية و لم ينتج عنها سوى زيادة النقمة و تمثل بالتمسك بالسلطة دون وجود اي استراتيجية للعمل وتغيير منهج القيادة الحقيقية والإصرار على نفس طريقة الحكم وعدم السيطرة على سراق المال العام و جميع المشاكل البنيوية لمؤسسات الدولة بسبب عدم رفدها بالشخصيات الكفوءة والمهنية المخلصة وتهميش مبدأ التوازن في ادارة مفاصل الدولة مما جعلها ان لا تحقق شيئا إيجابيا لمؤسساتها من جهة والشعب العراقي من جهة اخرى وفقدت أكبر خزان بشري داعم للطموحات والذي انقلب عليها وبات يطالب بتركه لأهله وقواه الوطنية الحرة، لقد كان على الحكومة العراقية ان تسلك مسلكا جديداً و متغيراً طبقا لحزمة اصلاحات تطلقها بمساعدات دولية لانجاح عملها في كل مؤسسات الدولة ولا يمكن للعراقيين وحدهم تحقيق هذا الهدف، حيث يتطلب ذلك انخراط جهات فاعلة دولية مع مؤسسات الدولة في البلاد وخلق فرص لتحقيق هذه الأهداف..

ان مشاكل العراق المتراكمة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج للممارسات والسياسات الخاطئة للحكومات العراقية المتعاقبة على مدى عشرات السنين، وصحيح ليس بمقدور اية حكومة أن تحلها بين ليلة وضحاها وهي قد تكون ظروف استثنائية ويبدو من خلال اطالة امدها لأن النخبة السياسية تعيش على هذه الأزمات ، ولكن حساسية هذه المرحلة وشدتها تختلف اختلافاً كلياً عن سابقاتها وتحتاج معها إلى عقول محايدة تقنع الشارع للتهدئة والاستقرار السياسي والأمني . لان الاجواء المتوترة الحالية مهبطة والاخلال بالوضع الأمني وخروج الأحداث عن السيطرة ليست بالبعيدة لا سامح الله وسيزيد الوضع سوءاً وصعوبة و لا ينبغي أن تتحول إلى عنف وصدامات وفوضى وخروج عن القانون وتهديد الأمن العام وتخريب وتفكيك مؤسسات الدولة ، ولن تحل المشاكل بالمزايدات والمناكفات وسيتضرر منه كل الشعب مما يتطلب من جميع الأطراف إلى ضبط النفس وحماية القانون والحفاظ على المصلحة العليا للوطن لان تحقيق رغبات ومطالب الشعب يتطلب تعاون وتكاتف كل القوى والأطراف، وان حماية الأمن والاستقرار وحاضر ومستقبل البلد واجب ومسؤولية الجميع ويستدعي الحذر والحكمة من الجميع

عبد الخالق الفلاح – باحث واعلامي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here