الحاضر الكوردستاني والمستقبل المجهول للعراق

بعد سقوط الطاغي صدام عام 2003 توقع الكثير بأن يطوي العراق حقبة الماضي المثخن بالدماء والأحزان والجراحات و يودع كابوس القمع والمنع والعزل ليفتح صفحة تطوّر دیمقراطي مطّرد و ثابت و نهائي، لکنهم لم يدرکوا بأن الإنتقال الی الدیمقراطية وإنجاحها بحاجة الی جیش جرار من المناهضين للإصلاح، فهي رهن بتوفير میزان قوی یرفده و یحمیه و يفتح المسارب والأنفاق أمام تدفق حرکته.

ولحسن الحظ تعامل شعب كوردستان مع الواقع الجديد في العراق بمنطق الجد والإجتهاد والنقد، بعيداً عن العُقَد والهواجس، وصار هذا التعامل من الأمور والمُسَلمات الضرورية للخروج من السُبات الفكري والقوقعة التراثية.

الحاضر الكوردستاني المتميز بالسلام والأمن الاجتماعي والقرارات السياسية السليمة للقيادة الكوردستانية الحکيمة وفّر الأجواء المناسبة للمضي قُدماً نحو بناء الإقليم وبنيته التحتية.

أما فیما يخص الإنفتاح والتواصل و بناء العلاقات بين إقلیم كوردستان ومحیطە الإقليمي والدولي فهذا نابع من السعي الجاد لفهم المتغيرات العالمية الحالية والمستقبلية وقرأة المستقبل القريب والمتوسط والبعيد.

ومن المعلوم أنه لایمکن تحديد موقع الإقلیم في عالم الغد أو إستکمال الخطط والإستراتیجيات الداخلية بدون الإستشراف للمستقبل و تحلیله بشكل ممنهج و موضوعي.

نحن نعتقد بأن التطورات الأخيرة في العراق ماهي إلا نتاج لعدم وجود عقلية الوساطة ومنطق الشراكة والإحساس بالمسٶولية أو بسياسة التبادل والتعارف وكذلك لعدم الكف عن الهيمنة الدينية بمختلف درجاتها والخنوع لأجندات خارجية بعيدة کل البعد عن المصلحة الوطنية.

وبالتأكيد أدت الإستمرار في تكرار الأخطاء الممارسة من قبل الحکومات التي تولت السلطة بعد سقوط النظام الشمولي عام 2003 الی خلق نوع من النفور والتراجع وعدم ثقة الجیل الشبابي الواعي المنتفض بالنخبة السياسية الفاشلة، فما يحتاجه العراق هو مستقبل خالٍ من المفاجآت المؤذية.

للأسف لم تقم الحکومات الفاشلة بترسيخ مفاهيم الهوية الوطنية لدى أفرادها ولم تلغي مظاهر التمييز والتفرقة القومية والدينية والطائفية والسياسية في يوم ما ولم تسعی في أبداً بالقضاء على الفجوة بين الدولة والمجتمع من خلال الانبثاق الطبيعي للدولة والسلطة من رَحم المجتمع ذاته، وبالتفاني لتطبيق السياسات العادلة والمتوازنة الهادفة لخدمة الاجتماع السياسي والثقافي في المجتمع، فما بالنا من اعتناق الحداثة والأخوة الوطنية والإنسانية، لذا ظلّ مشروع الفدرالية في العراق مجرد مصطلح مهترء وصارت الدولة العراقية في النهاية كيان هش فاقد لسیادته، لم يتخذ من الإقليم الكوردستاني نقطة انطلاق وإشعاع، يغمر منها كل أنحاء العراق.

أما الإحتجاجات الشعبية الأخيرة والتظاهرات السلمية في کافة المحافظات الجنوبية من العراق والتي ترید الوطن، فإنها كشفت للملأ بأن الإنسان العراقي رغم القمع المستمر قابل لاستيعاب روح العصر، وقيم الإنسانية والديموقراطية والحداثة، ومؤهل لخلع عباءة القبلية والطائفية، وما يصاحبها من قيم وعادات وتقاليد تنتمي بالفعل إلى متحف التاريخ و الرافض للبنية السياسية الفاسدة، لکن الأمبراطوریات الفاسدة من الأحزاب الدينية المؤمنة بالمشاريع الدينية والعقائدية الشمولية التي إحتکرت السلطة ونشرت نفوذها طوال 17 عاماً بالقوة والبلطجة من أجل أسلمة الحياة والثقافة علی غرار مشروع ولایة الفقيه المنتهية صلاحیتها غير قادرة علی إستیعاب هذا التحول النوعي، فكيف بالتقليل من الإنقسام المجتمعي المتواجد.

إن ممارسة حق المواطنة من قبل المتظاهرين يعني تفكيك آليات العجز لتغيير قواعد اللعبة ، بتشكيل عوالم ومجالات و إبتكار أساليب ولغات أو خلق موارد و فرص تحدث تحولاً في الفكر وتسهم في تغيير الواقع العراقي نحو الأفضل لاإمتلاك وقائعيتها بعيدة عن ثقافات عاجزة وحداثات هشة وشعارات مستهلكة وتقسيمات فقيرة وخادعة أو النرجسية والمكابرة والمحافظة والتقليد والتحجر والذُعر من المتغيرات وتبرئة الذات لرمي المسٶولية علی الغير.

ما شاهدناه في الأقليم هو إحتذاء حکومة إقلیم كوردستان بنماذج ناجحة في الحکم الرشيد و هي سوف تستمر في نشرها لقيم الحضارة والمدنية والديمقراطية وحماية تجربة التعايش السلمي بين المکونات المختلفة وإحترام حقوق الإنسان.

أما فيما يخص حکومة المستقبل في العراق بعد إنتصار صوت المتظاهرين، فما علیها إلا أن تمارس الشراكة الحقيقية مع شعب كوردستان لصنع المستقبل علی نحو إيجابي وبناء علیه أن تتحمل المسٶولية المتبادلة وتتقن لغة الشراكة والمداولة برٶی ومفاهيم ومفردات المفاوضة والتسوية أو التعاون، ومن غير ذلك فسوف تکون مستقبلها مجهولة ومعها سوف يعيش العراق في مستقبل مجهول.

وختاماً نقول: یجب أن تنتهي حروب الوكالات و تنتهي معها عملية جعل العراق ساحة لعب للميلیشيات العازمة علی إبقاء حالة الفوضی و حالة اللادولة. من يريد بناء عراق جديد مصون سيادته، علیە الإحتکام الی العقل والمنطق و تشجيع الإصلاحات الممنهجة والعمل علی مکافحة الفساد وتعزيز سيادة القانون وإعادة الخدمات وتطوير البنية التحتية وإضفاء شرعية كبيرة على عملية سياسية جديدة والإبتعاد عن عراق غير ديمقراطي لاتؤمن بحقوق شعب كوردستان أو بفدرالية الإقليم و دستورية مؤسساته الفعّالة.

الدکتور سامان سوراني

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here