سامي كمال .. الانسان والقضية .

كان تشيخوف يقول لصديقه مكسيم غوركي وهما يغادران مزرعة ( إيسيانا بوليانا ) .. لماذا تعتقد أن تولستوي يمتدح ما نكتب ؟ يضحك غوركي وهو يقول : لانه ينظر ألينا كأطفال ، كل ما كتبناه لعب أطفال بالنسبة اليه ؛

كلما تعرفت عن قرب على الفنان سامي كمال وجدته يتعامل بكبر مع محبيه وقريبيه . مشوار طويل من الصداقة قبل تكون في خانة النسابة والمصاهرة حافلة بالمواقف والاحداث والمنعطفات . صورة الرجل المشعة دائماً بالأمل ذكرتني بهذا الحوار بين أدباء روسيا الكبار حول الكبار .

ولد الفنان سامي كمال العام ١٩٤٠في قضاء الكحلاء ( المسعيدة ) التابع لمحافظة ميسان وسط عائلة ميسورة الحال وذات نفوذ أجتماعي وسط أهالي قضاء الكحلاء ، والده مناتي أمتهن مهنة خياطة ( العباءة العربية ) ، كباب رزق وعيش لعائلته ، والدته ربة بيت لعائلة تتكون من ستة أبناء هو الأكبر بتسلسل الاولاد ، فتحمل منذ طفولته الأولى عبأ العائلة في البحث عن مصادر للعمل لتعيين والده لمساعدته في العيش . وفي وعي مبكر بسبب ظروف الحياة الاقتصادية وطبيعة العلاقات في مدينة الكحلاء وظروف العيش والحياة وأحتياجاتها اليومية والعوز في مصادرها وأنعكاس ثورة أكتوبر وأنتصارات الجيش الاحمر على جبهات الحرب العالمية الثانية وبث الافكار الشيوعية في جنوب العراق ، جملة تلك العوامل دفعت تلك العائلة الى الوقوف مع قضايا الفقراء والدفاع عن حقوقهم المسلوبة من رجالات الاقطاع والاغوات والمالكين الى الانحياز والايمان بالافكار الماركسية والشيوعية .

في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم أنتقل الفنان سامي كمال مع عائلته من مدينة الكحلاء الى العاصمة بغداد مما شكلت تلك الانتقاله أنعطافة في حياة الفنان على المستوين الفني ( الغنائي ) والسياسي ، وعندما كانت العاصمة بغداد تموج في منتدياتها وشوارعها مخاضات سياسية وثقافية قادمة في التغير ، قد تركت إثرها الواضح على حياته ، بل أنخرط في تلك الاحداث مبكراً من خلال الاهتمام والانتماء . وعندما وجد المرحوم مناتي والد الفنان سامي كمال الموهبة لدى أبنه في الغناء والفن . دعم تلك الموهبة في داخله وحثه بإتجاه صقلها في الدخول الى مسرح الموسيقى العسكري كمنشد مما شكلت إنطلاقته الأولى في عالم الغناء والتلحين .

في بغداد العاصمة . تفتحت إمام الفنان سامي كمال أفاق جديدة لتطوير مواهبه الفنية والتي أعتمدها في ذاكرته من شجن وحزن الجنوب العراقي ، فلقد تعرف على ملحنين عراقيين من أمثال الراحل كمال السيد ، محمد عبد المحسن ، عباس جميل . وشعراء أغنية عديدون لازمهم في مسيرته الفنية ، ومن أكثرهم قرباً له الشاعر المرحوم كاظم أسماعيل كاطع ، وقد سبق هذه الأضاءات بولوجه وقبوله كمنشد في فرقة المنشدين الصباحية . في العام ١٩٧٠ بدأ العراق يخطو بأتجاه تهدئة الاوضاع وما رافقها من تنمية وأصلاحات أنعكست على الحياة الفنية والثقافية في العراق وبناء الأغنية المعبرة والهادفة ومضمونها وتطورها ، مما الى الآن يشار لها بالبنان في المعنى واللحن والشعر ، وكان الفنان سامي كمال واحد من عشرات الفنانين ، الذين تصدروا ألق هذا المشهد في تعزيز أسس الاغنية والفن بشكل عام .

في أستذكار تاريخي لأهم محطات الفنان سامي كمال في بداياتها . حيث يقول .. في بداية تسجيل أولى أغنياتي ( بويه عينه شكبرها ) . وكان الفنان يحي حمدي مخرجاً لهذه الأغنية ولما أكملت تسجيل هذه الأغنية خرجت الى الكونترول لاستمع أليها في مبنى الاذاعة ، وكانوا في حينها الملحن محمد جواد أموري والملحن الشيوعي كوكب حمزة والمغني سعدون جابر يستمعون لي عند إداء التسجيل . فقال الفنان يحي حمدي شهادة مازلت أعتز بها الى يومنا هذا أمامهم (( أن هذا هو الصوت المطلوب ، ولكنه بأعتقادي سوف لن يكون طريقه سهلاً )) .

في منفاه البارد الموحش في القطب الشمالي ، الذي طال سنوات طويلة تداهمه به الذكريات والحنين الى الماضي في جو وحميمية عائلته الهاديء ، وعندما تكهرب الجو السياسي العراقي العام في أستهداف القوى الوطنية ومثقفيها وفنانيها من قبل أجهزة النظام في أعتقالهم وتغيبهم . قرر الفنان سامي كمال بحزم حقائبه في الرحيل الى وراء الحدود الى أصقاع الأرض القاحلة ، وفي لحظة وداع مؤلمة وصعبة لعائلته ، أثنته والدته الطاعنه في السن عن الرحيل متوسله له والخوف عليه من معاناة البعد ووحشة المهجر ، مازالت تلك اللحظات الصعبة تداهم الفنان سامي كمال بوجع وربما بندم على فراق والدته كلما تلبسته سنوات اليأس والأحباط ، ومما زادت من قساوة وهول الغربة رحيل والدته الى السماء بعيداً عن توديعها وإلقاء النظرة الاخيرة عليها . والانسان يشعر بالعمر وتقادمه عندما تغيب أمه عن الدنيا .

عندما ولج الفنان سامي كمال عالم الفن كمغني وملحن العام ١٩٧٠ ، وهو أب لاربعة أطفال يعمل من أجل تأمين حياة متواضعة لهم . راح يبحث عن مصدر رزق لتأمين معيشتهم ، لأنه في يومها لم يكن للفن معين مالي للعيش ولاسيما كفنان شيوعي يعطي من وقته وفنه للناس وقضاياهم ، فأخذ مهنة الحلاقة كباب رزق في تأمين حياة هادئة بفتح محل للحلاقة في مدينة الحرية في بغداد . وكان الملحن طارق شبلي يأتي من البصرة الى بغداد كلما توجب حضوره في لحن أغنية جديدة لمطرب جديد في مبنى دار الأذاعة بالصالحية ، وكان حينها يرافقه شاب صغير متلمساً طريق فن الغناء هو الفنان رياض أحمد ، والذي أصبح مغنياً مميزاً في مسيرة الاغنية العراقية . يستذكر سامي كمال ذكريات تلك الايام ، والذي حدث مرة في مبنى الأذاعة بتصرف غريب من الشاب رياض أحمد مما دعا سامي كمال في نهره وقائلاً له أمام جمع من الحضور ” أنت محسوب علينا ” فرد عليه رياض لا أنا بعثي . فاستدرك الفنان سامي كمال الموقف والخروج منه لا أقصد أنت محسوب علينا كفنانين .

في بغداد العراق ، وبعد أن ضاقت به فرص الحياة والعمل وحرية التفكير ومساحات الابداع لمعتقده السياسي ( الشيوعي ) والتمسك به ولم يرضى لنفسه على أي مساومة تجاه معتقده من آجل البقاء في مبنى الأذاعة في الصالحية والتي من فتحات نوافذها يحقق الشهرة والمال ، لقد تم أبعاده عن هذا الأفق وهو في بدايات ظهوره وشهرته الى الفرقة القومية للفنون الشعبية ، وقد تعرف هناك على بعض الفنانين العراقيين أمثال جبار عكـًار وأمل خضير . وفي الفرقة القومية ألتقى بالفنان عبد الآمير معله وهو اللقاء الثاني به ، وتفهم ظروفه ودعمه بأتجاه مشروعه الفني .

كثير ما يشدنا في أغاني هذا الفنان الرائع هو المذاق العراقي السلس مع لحنه الممتع ، والكثير منا يتذكر الفنان سامي كمال في بداياته الفنية وفي أشهر أغانيه (رايح يارايح وين) والحاصلة على جائزة أفضل أغنية عام 1977-1976 ، والتي لابد من الاشارة هنا الى ملحنها المرحوم الفنان الراحل كمال السيد(ولنا وقفه مع هذا الفنان الراحل) والذي منحه اسمه الفني . في مسقط رأسه بمدينة الكحلاء ، وفي عز فتوته بدأت تظهر ميوله نحو متابعة الفن وعمالقة الغناء العربي وتحديداً الغناء ، ولموهبته المبكرة بهذا المجال بالتزامن مع ميوله السياسية بتأثير من والده مناتي بحكم طبيعة عمله وأحتكاكه اليومي بالناس وهمومهم ، فكان نصيب العائلة بذلك التوجه والانحياز الى قضايا الانسان في العيش والاختيار الحر . في سنواته الاولى للفنان سامي كمال في مجال الغناء والفن وتأثيرات أنتمائه السياسي على مسيرته الفنية في حقبة العراق التاريخية في التكوين السياسي وظهور الاحزاب السياسية الى العلن في العمل السياسي والاحتراب الى حد الخصومة والمواجهة بين القوميين والبعثيين من جهة والشيوعيين وأصدقائهم من جهة أخرى ، تركت ظلالها على حياة الفنان سامي كمال في بداياته الفنية بحكم هذا الصراع السياسي وتحديد المواقف . مما تعرض الى الاعتقال والسجن في أحداث ٨ شباط العام ١٩٦٣ ، بمجيء البعثيين والقوميين الى دفة الحكم بإنقلاب عسكري أطاح بثورة تموز وإنجازاتها ورجالها ليدخل العراق في دوامة طويلة من الانتهاكات والدم .

أرتبط همه السياسي والتعبير عنه في الوقوف مع قضايا الناس وتطلعاتهم من خلال موهبته الفنية

وأصالته العراقية وموسيقاه التي تفيض منها الحانه وصوته الشجي ، وهذا  ما نتلمسه في أغانيه على مدى أربعة عقود من العطاء . والفنان سامي كمال متمرس في الغناء منذ أواخر ستينيات القرن الماضي ، حيث دخل الاذاعة كمنشد في فرقة المنشدين الصباحية مع ثمة من الفنانين العراقيين ، والذين حجزوا لهم مكاناً في الذائقة العراقية أمثال عبد الجبار الدراجي ، صباح غازي ، حسين السعدي ، عباس حسن ، هناء وأختها غادة سالم . وبسبب ظروف العراق السياسية وتقلباتها مما أجبره كسائر الغالبية من المبدعين العراقيين الوطنيين الى مغادرة العراق متوجها  الى المجهول …؟.

المجهول هو المنفى حيث لم ولن يكون أحد منا انه يتوقع انه هذا المنفى هو كما آل اليه الحال ليمتد الى اكثر من أربعون عاماً من الزمان كان الهاجس هو المكان الآمن البعيد عن عيون المخبرين وسطوة الجلادين .

فكانت أغانيه مثل ( لبغداد).. ( أستمد الشجاعة منك ) ..(صويحب) التي اشتهر بها..(يــابــحــر ) … (مشتــاكَ) ..(دكَيت بابك ياوطن) ..( شلون بيه وبيك يبنادم)  وغيرها الكثير .. الكثير…اين انتم واين نحن من هــذا الفنان ومتى … ومتى ننصف مبدعينا الذين اعطوا للانسان والوطن الكثير ودفعوا أجمل محطات حياتهم للوطن .

مسيرة الفنان سامي كمال محطات ودول وأنعطافات وتجارب غنية وطافحة بالذكريات والمواقف تستحق الوقوف عندها ونقلها لتكن تجارب حياة للآخرين .

محطة اليمن … ومراحلها .

قبل أن تطأ قدماه أرض اليمن ، كان مروره الأول دولة الكويت ، والتي لم يمكث بها طويلاً لاسباب شخصية ومن منطلقات ( فنية وسياسية ) ، ورغم الأغراءات التي قدمت له من سكن ومال وجاه ، لكنه لم تثنيه على مواصلة طريقه المنشود ، وربما العامل ذو الوزن الأكبر والأكثر تأثيراً هو أنتمائه السياسي ( الشيوعي ) . فكانت وجهته جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية .

كانت محطته الأولى في المهجر هي جمهورية اليمن الديمقراطية ( اليمن الجنوبي ) عاصمتها عدن ، تاركاً خلفه عراق مضطرب تحت مفارقات سياسية خطيرة أدت به الى حروب ودكتاتورية متسلطة ووحشه . في منفاه الأول وجد بحبوحة من فضاء واسع للتعبير عن كوامن دواخله في الغناء والتعبير مع رعيل من رفاق فكر وطريق جمعهم اليمن السعيد بعد أن ضاقت بهم أرض بلدهم الخصبة . منذ البدء ، وفي الأيام الاولى .. التي وطأت قدماه أرض اليمن أنخرط في النشاط الفكري والفني والسياسي لينقل للعالم معاناة شعبه وما تعرضوا له من أرهاب وتهميش بسب معتقداتهم السياسية ، فبادر مع رفاقه بتأسيس فرقة غنائية ( سياسية ) ، أطلق عليها في حينها ( فرقة الطريق ) ، ضمت بين صفوفها سامي كمال ، المرحوم كمال السيد ، حميد البصري ، شوقية ، جعفر حسن ، المرحوم فؤاد سالم . تعرضت الفرقة بعد عدة نشاطات وأحياء مهرجانات الى عدم الاتفاق مما أدت تلك الخلافات الى تأسيس فرقة جديدة بأسم الطريق الثانية بين صفوفها سامي كمال ، والمرحوم كمال السيد ، لتميزها عن فرقة الطريق الأولى . وبمرور الأيام باتت أسم يشار لها بالبنان ليس فقط وسط جموع العراقيين الهاربين من بطش الدكاتورية ، وأنما أيضا باتت مدار حديث الشعب اليمني ، وكان اليمنيين حريصين على مواكبة نتاجات الفرقة بما قدمته من أغاني سياسية هادفة في التعبير عن أرادة الشعوب في التوق الى الحرية . وعندما وصل الفنان سامي كمال الى العاصمة عدن ترك وراءه في بلده العراق زوجة وأطفال صغار بين أهاليهم وأقاربهم ، وكلما طالت الايام والذي كان يعتقد كغيره ربما ستمر تلك الايام ( أيام الغربة ) ، كسحابة صيف ستتلاشى بحرارة اللقاء المرتقب بصفقة سياسية بين آمراء القرار السياسيين . كانت ظروف العراق أنذاك مخاضاتها صعبة للغاية في ظل نظام لايتساهل حتى مع همسات معارضيه ، فكانت الاتصالات مقطوعة والرسائل ممنوعة بين معارضيه في الخارج وأهلهم في العراق والذين يتلون صبراً وشوقاً الى حنين اللقاء .

كلما أزدادت مسافات البعد ووطأة الغربة بين الفنان سامي كمال وعائلته في العراق تقربت مسافات الشوق بينهما في البحث عن منفذ للقاء يجمعهم في بقعة من معمورة الاراض الواسعة . السيدة أم اولاده ( أم فريد ) ، عانت الآمرين في العراق من العوز المادي لأم في حضنها أربعة أطفال صغار رغم مساعدة أهلها وأخوانها لها . والآمر الثاني الي هو أكثر خطورة هو خوفها الطبيعي على أولادها من ممارسات وأساليب النظام عليهم بأعتبارهم أولاد فنان ومعارض سياسي . بدأ صدى صوته يخترق تطلعات شعبنا المكتوية بقوة الحديد والنار .

في ظل تلك الأجواء المعقدة والمخيفة قامت زوجة الفنان سامي كمال أم فريد بحمل أولادها الأربعة وعبرت بهم حدود العراق بأتجاه العاصمة السورية دمشق للبحث عن زوجها وجمعه بأولاده الذين يحلمون بأمنية لقائه ، مثلما أرادت أبنته الصغرى حنان ، وفي فراقه لها ، أن تعبر بأمنيات تفوق سنوات عمرها لحزنها على فراق أبيها وتعبيراً عن حزن طفلة حرمت من دفء حضن والدها . وعندما حطت الأم رحالها مع أولادها الاربعة في العاصمة دمشق ، ولم يعثروا على أثر لوالدهم في دمشق أصابهم الحزن ويأس اللقاء .

الرفاق والمعارف في دمشق هما من دلهم الى وجوده في العاصمة اليمنية الجنوبية ( عدن ) ، وكأي أم عراقية شجاعة ووفية راحت تجرر باذيال أولادها في العواصم العربية غبر مهابة من مخاطر الدنيا ومفاجأتها ، فوصلت بهم بعد معاناة جدية وخطيرة عبر الحدود والمطارات الى العاصمة عدن ، ليجتمعوا تحت سقف مهجور لفندق عتيق . وفي أروقة ومداخل هذا الفندق وتحت العوز الى العيش الرغيد والحنين الى الوطن . بدأت حياة تلك العائلة تلملم شتاتها في العيش والتكيف مع ظروف هذا البلد وإهله الطيبيين تحت ربانها الفنان سامي كمال .  

مشى الزمن سريعاً على حياة تلك العائلة في العاصمة عدن ، أصبحوا جزء من حياة مجتمع وحركته الدؤوبة بين مئات من عوائل الشيوعيين العراقيين ، والذين تركوا وطنهم جبراً من بطش الدكتاتورية . وبعد سنوات وفي ظروف صعبة ألمت بحياة الفنان سامي كمال حزمت العائلة حقائبها باتجاه العاصمة السورية دمشق لتكن محطة أخرى من محطات العائلة تاركه وراءها أصدقاء وذكريات ومدرسة وأثنان من أفراد العائلة فريد و أسمهان . ورغم صغر أعمارهم ، لكنهم تمكنوا من شق طرق لحياتهم الى هدفهم المنشود . لم يتوقف طموح الفنان سامي كمال في المضي قدمأً بمعرفة خفايا وخبايا عالم الموسيقى في الدراسة الأكاديمية ، لقد تمكن من خلال وجوده في جمهورية اليمن وبأحد معاهدها الموسيقية من أن ينال درجة الدبلوم بآلة ( كلارنيت ) ، ليحقق جزء من طموحه الشخصي ، الذي حرم منه في بلده العراق . وفي سنوات وجوده في العاصمة عدن . تعرض الفنان سامي كمال الى وضع صحي طاريء تعذر عن علاجه وتجاوز أزمته في محل أقامته في دولة اليمن الجنوبية ، فأرسل من قبل منظمة الحزب الشيوعي العراقي الى دولة لبنان ( بيروت ) للعلاج أمام تعهد من قبل المنظمة في رعاية عائلته خلال غيابه المؤقت ، وقد عانت العائلة من غياب الأب .

في بيروت المحترقة، بيروت العائمة على النار ، بيروت الحرب، بيروت المرصد ونقطة الانطلاق من جديد نحو الوطن وهنا كان سامي وغيره من الذين غادروا معه وقبله وبعده من المبدعين خاصة استجمعوا قواهم من جديد ليأسسوا لمرحله مؤقتة (في ذلك الوقت) . وبهذا الوجود المؤقت في هذه المحطة من المنفى لم يهدأ له بال الا ان يقول كلمته، وينشد ، ويغني ، ليشارك زملاءه في المسرح والموسيقى ، أنتج وغنى ولحن العديد من الالحان التي تغني للوطن وتنبذ المنفى وتدعو للعودة مشاركاً في المهرجانات الفلسطينية والوطنية اللبنانية حيث كانت اغانيه تنشد الوطن . وظل صوته ينزف باتجاه وطنه رغم ما تعرض له من أحباطات وأمراض ويتلوى على ما أصابه من أحتلال وطائفية وفساد .

محطة دمشق …. ومراحلها .

وصلت عائلة الفنان سامي كمال الى دمشق في العام ١٩٨٢ ، بعد أن سبقهم الفنان سامي كمال للبحث عن مآوى وطن أمن لمشقة ظروف العيش في بلاده ، كان العراق يومها دخل طاحونة الحرب بين الجارة اللدودة إيران وهيمنة دكاتورية الحزب الواحد . دمشق .. كانت الأكثر قرباً الى بلاده العراق ليس بالقرب الجغرافي فقط ، بل كان هناك إمتداد تاريخي وثقافي بين الشعبين العراقي / السوري . كانت على أرض دمشق تنشط عدة أحزاب وتنظيمات وكيانات معارضة لأنظمة بلدانها جمعت العراق ، فلسطين ، البحرين ، وبلدان أخرى . كانت سوريا وهذا موقف يسجل لها أحتضنت كل قوى المعارضة ، لكن للأسف الشديد هناك من تنكر لهذه المواقف عندما سوريا وشعبها تعرضوا الى محنة الحرب والوجود . وجد الفنان سامي كمال نفسه على أرض دمشق بين أوساط العراقيين والفلسطينين في البحث والذود عن وطنهم . فبادر مع مجموعة من الفنانيين العراقيين بتأسيس فرقة فنية ( فرقة بابل ) . وجمعت الفنانيين تحت لوائها وأهدافها وأغانيها السياسية الهادفة . واصل الفنان سامي كمال نشاطه الفني على أرض دمشق دافعه هو حب الوطن والأرض وهن من أساسيات أنتمائه الفكري للحزب الشيوعي العراقي ، وإيمان هذا الحزب بالفن وألتزامه وأهدافه ( تحزب الفن ) .

مشقة العيش الرغيد من خلال البحث عن العمل لتوفير لقمة عيش نظيفة لعائلته ، كانت من أولويات حياة الفنان سامي كمال . قام مع مجموعة من الفنانين في دمشق بتأسيس فرقة بابل ( سامي كمال ، كوكب حمزة ، المرحوم كمال السيد ، حمودي شربه ، المرحوم فلاح صبار ، سالم البهادلي ، فريد سامي ، جنان سامي ، حنان سامي ) . وفي الوقت نفسه كان رئيساً لفرقة ( بيسان ) الفلسطينية التابعة الى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ، والذي طاف بها المدن السورية والمخيمات الفلسطينية بأعذب الألحان وأوسع الاغاني أنتشاراً ( من يغسل الدم في الشوارع .. تقدموا .. لون البحر لونك .. ذاهب كي أرى كيف ماتوا .. أغنية مهداة الى الشهيدة سناء المحديلي .. سلام للخليل سلام للجنوب ) . وكانت تلك الاغاني من ألحان الفنان سامي كمال ، وهي إنعكاس حقيقي للواقع العربي وتداعياته السياسية .

موهبة التلحين عند الفنان سامي كمال زاملته من بداياته الأولى وولوجه عالم الفن الغنائي ، راح باحثاً عن قوة اللحن والتي تليق بأدراكه لمعنى الفن ورسالته التاريخية ودوره في ذائقة الناس وصفهم نحو قضايا شعوبهم .

في العاصمة دمشق وعلى أرضها الواسعة كانت تعج بالنشاطات السياسية والصراعات الإيدلوجية بين قوى سياسية معارضة لأنظمتها مما أنعكست فنياً وأبداعياً على قوى الشارع ، أي على حالة الفن في العراق وأحتضانه ومتابعته من جمهرة واسعة من العراقيين تحديداً نشاطات وحفلات فرقة بابل . وفي ظل أجواء أجتماعية ونشاطات متنوعة غنية بالوفاء والمحبة كان صوت الفنان سامي كمال الحزين ونغمات أوتار عوده يتدفأ بها العراقيين في ليالي دمشق الباردة . مازالت ذاكرة العراقيين تختزن بجمالية أيام سوريا وأجوائها الحميمية رغم مرور تلك السنيين الطوال في الغربة والتشظي .

وبعد سنوات طوال من العيش والاقامة والعلاقات والدفء في العاصمة دمشق . شد الفنان سامي كمال الرحيل مع عائلته الى القطب الشمالي مجبراً لمقتضيات العيش والتي بدأت تصعب في توفيرها السهل . مما دعته تلك المقتضيات في العام ١٩٨٨ الى ترك دمشق وفي نفسه لوعة لمشاريع لم تتحقق بعد على مستويات الفن والابداع ويأسه من الأعيب السياسة وأمراءها المنتحلون .

محطة السويد …. وصقيع أجوائها .

يقول الفنان سامي كمال في اللحظة الأولى التي رست بها الباخرة العملاقة القادمة من ميناء ( سفينوشجه ) البولندي الى ميناء مدينة ( إيستاد ) السويدي ، وخزتني نوبات حزن وفرح ، فرح غبطني بفرح عائلتي في الوصول بسلام الى أرض السويد ( الفردوس ) المفقود لنا وتأمين حالهم .. وحزن لازمني طيلة سنوات أقامتي في مملكة السويد رغم كل المميزات والخدمات التي حصلنا عليها ، لكني كفنان كنت أحمل في نفسي حزمة مشاريع وتطلعات وحب وطن والقتال من آجله ، وفي الوقت الذي حل به الفنان سامي كمال أرض السويد . تدفق أليها جموع من العراقيين الى أرض السويد من عدة بلدان ومن أصقاع الأرض بحثاً عن الآمان والعيش الآمن وضمان مستقبلهم ومستقبل أولادهم ، بعد أن ضاقت بهم سبل العيش وشعورهم باليأس من حلول سياسية قريبة تفرج عن أزمات غربتهم ومعاناتهم والتي طالت لسنوات ولا أفق قريب ينذر بالعودة الى الوطن ( الأم ) العراق . العراق وهو يطوي صفحات الحرب اللدودة مع الجارة إيران ، عندما تجرع السم الخميني في قبوله بأيقاف صفارات أنذاراتها ، والتي كانت أملا لبعض العراقيين في سقوط الدكتاتورية في العراق ، وعندما تلاشى هذا الأمل تدفق العراقيين الى صقيع بلدان القطب الشمالي بحثاً عن مأوى .

في هذه الأجواء الحميمية في وسط العراقيين وعلى أرض السويد ومدنها المزدحة بقدوم العراقيين . أحييت أملاً في روح الفنان سامي كمال في تحقيق جزء من مشاريعه وأهدافها بأحياء الموروث العراقي والتلاقح الثقافي ومد جسوره مع ثقافة السويديين وتطلعاتهم الى ثقافة الشرق الغنية بتنوع تراثها ، فقام بوضع عدة نواتات لتأسيس فرق فنية يحيي من خلالها التراث العراقي ولملمة صفوف العراقيين نحو تراث وتاريخ شعبهم جزء من ترسيخ الذاكرة الجمعية للعراقيين . لكن سرعان ما تلاشت الأحلام والطموحات وكهربت الأجواء بين العراقيين بعبور قوات الرئيس صدام حسين حدود الجارة دولة الكويت وإحتلالها وضمها الى الأصل وأعتبارها المحافظة العراقية التاسعة عشر ، مما تركت تداعيات خطيرة على المشهد السياسي العراقي وإمتداد تأثيره السلبي على لحمة العراقيين في المهجر وبروز الخلافات في وجهات النظر مما حدت من تطلعات الفنان سامي كمال حول رؤيته الجديدة في أنطلاق فرقة فنية تجوب بين وسط العراقيين في أوربا ، وتدفأ أجوائهم الباردة في بلدن الصقيع وتشد أزرهم نحو وطن بعيد .

وما لحق من تبعات هذا المشهد دخول قوات صدام حسين الى الكويت من موقف دولي في التحشيد بطرد قواته من الكويت وتحطيم العراق بنيات مبيته له سابقاً بالنيل من شموخه التاريخي لحصار قاهر أستمر لسنوات عجاف بلا مسوغ قانوني ولا رادع أنساني ، تلك التطورات لم يكن عنها بعيداً الفنان سامي كمال بل عاش في صلبها وتفاصيل يومياتها التدميرية تجاه وطنه في البحث عن منافذ لصد الكره عن ما سيصيب وطنه وأهله ، كانت معاناته تتعاظم يومياً في البحث عن الحلول وتقديم شيء لشعبه . تداخلت تلك الأحداث بأنهيار حلمه بالتجربة الأشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الأشتراكية ، فأنعكست فشل تلك التجربة بعد سبعين عامأ على الأحزاب الشيوعية في بلدان الشرق الاوسط والعالم وحركات التحرر وقوى اليسار ، ولم يكن الفنان سامي كمال بمعزل عن تلك الانهيارات لألتصاقه الوثيق بروحية وفكر تلك التجربة الشيوعية . وقد احس بالغدر في آماله وتطلعاته ، وكأنه بناء من الكارتون تهاوى على حين فجأة . هذا الأحساس سيبقى منغصاً له ولي ولكل رفاق الطريق . خمسون عاماً .. طيلة تعلقه بالفكر والإيمان بالاشتراكية تذهب هباء ؟. كانا لينين وستالين وبوخارين هما رموز تلك التجربة في الاتحاد السوفيتي . وستالين هو الأكثر تمسكاً بكرسي السلطة وقمع معارضيه وقتلهم ، أنتهى به المطاف أن يغتال من أقرب الناس له ومشاركه في كل الجرائم بحق رفاقهم هو ( بيريا ) مسؤول جهازه المخابراتي الخاص .

الفنان سامي كمال في محطته الأخيرة وأستقراره في مملكة السويد في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ومع حصول عائلته على تحقيق نجاحات على مستويات العمل والأستقرار الأجتماعي ، لكنه لم يهدأ باله بأتجاه أحوال العراق وما يبيت له من مكائد مصيرية مما بدت تنهش بجسده القوي ، الذي بدأ يضعف أمام الحنين الى الماضي وتألمه على تجارب الحلم التاريخية في الذود عن وطن آمن تسوده العدالة والمساواة .

وفي عجلة الحياة والزمن وصخبهما . كان مصراً على تقديم نتاجات من خلال محاولاته المستمرة والجادة بتكوين صرح فني ( غنائي ) لاحياء تجارب الماضي وصورة الفن الملتزم في الأغنية الهادفة الى بناء الانسان وجمالية الذوق الراقي في الإحساس والتطلع ، لكن كل تلك المحاولات لم ترتقي الى طموحه وحبه للفن والإصالة ، وفي صور هذا التوثب الى تحقيق الانجازات داهمته أزمة صحية ، كادت أن تعصف بحياته ، لكن تشبثه بالحياة وحبه لفنه عبر بهما الى طريق العيش والأمان ، تلك الجلطة الدماغية المفاجئة والتي أفقدته أعز ما يملك من مكنونات داخلية في النطق والصوت والعزف على أوتار عوده ، مما عطلت مشاريعه بالكامل الثقافية والفنية.

وبعدها بسنوات معدودة لم تفك المصائب عنه فتعرض الى عملية ( القلب المفتوح ) على أسرة مستشفيات السويد ، مما سببت له أنتكاسة على المستوى الصحي والنفسي رغم معنوياته العالية في الحياة والعيش وتشبثه بهما . ظل متواصلاً مع متطلبات العصر ومحاولاً جاداً كفنان يتنفس هواء الناس النقي في تحقيق أحلامهم والتي هي جزء من تحقيق أحلامه ومن خلال أدواته الرئيسية في الموسيقى والحن والغناء في التعبير على مكنوناته الداخلية تجاه إيمانه المطلق بقدرة الانسان على الابداع والتواصل وتحقيق الأماني .

واصل الفنان سامي كمال طريقه الى التطلعات رغم الأوجاع التي أعترت طريقه في العبور الى الضفة الثانية من عراق معافى بسواعد أبنائه من بناة ميامين في حب الوطن والنزاهة . كان يحلم وملايين من أمثاله العراقيين بعراق آخر بعد رحيل الدكتاتورية عن أرض العراق ، لكن سرعان ما تلاشت تلك الاحلام والأمنيات وسنوات النضال ، لقد أعتلى دفة الحكم مجموعة من اللصوص وعديمي الضمير وبائعي الوطن في تدمير نسيجه الأجتماعي والثقافي على يد الميليشيات والطوائف المتخلفة في توطيد مفاهيم الطائفية والفئوية والحزبية بدلاً من الوطنية والمواطنة .

محنة الفنان سامي كمال ، كان يتلوى وجعاً على ما وصلت آليه الاحداث الى عراق مغيب ومجهول الهوية ومسلوبة الارادة ، وكان يعبر دائماً عن حزنه ولوعته في البحث عن وطنه ، الذي أفنى طيلة عمره من آجله مضحياً بالغالي والنفيس وبصحته وبمستقبل عائلته . ولقد رأيته وأنا القريب منه وعلى الرغم من أوجاعه بارقات الأمل على وجههه في مواكبة تطورات الاحداث وما سطره شبابنا في ساحات العراق الغاضبة في ثورتهم التشرينية في إعادة وطنا لنا ، وما سطروه من ملاحم بطولية فاجأت الاصدقاء قبل الاعداء ، وكان الفنان سامي كمال بكل جوارحه في قلب الحدث معتزاً بعراق جديد يعم به الأمل والمستقبل ، وهذا ما كان يصبو له طيلة حياته ومن خلال مواقفه النضالية والوطنية وتضحياته الجسام .

وفي معرض قراءاته للاحداث . يعلق الفنان سامي كمال وهو على عتبة الثمانيين من العمر وبحزن تنهمر الدموع من العيون . أريد وطن يعيش به أبناء شعبي وأولادي وأحفادي بحب وسلام بعيداً عن الجهل والطائفية ، وعلى أقل تقدير أشعر بالرضا على تضحيات تلك السنوات .

ساسة العراق الجدد بعد العام ٢٠٠٣ ، والذين جاؤوا مع الدبابات الامريكية في إحتلال أرض العراق الوطنية ، وأعتلوا دفة الحكم ونهشوا به وبمعالمه ومؤسساته الحضارية ، كانت أولى أولياتهم تحطيم الثقافة الوطنية العراقية وتاريخها العريق وتهميش رموزها من فنانيين ومثقفين ووطنيين ، كان من بينهم الفنان سامي كمال وصحبه والأستعاضة عنهم بأشباه من المثقفين والطائفيين ومحدودي الأفق والحاقدين على العراق وأهله .

محمد السعدي

مالمو/ كانون الأول ٢٠١٩

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here