العراق.. عن كردستانه وغربيته

28 يناير 2020
عندما ضاقت أحوال العراق العثماني في عهد وزيره سعيد باشا (قُتل1816)، والمهيمن عليه الفتى حمادي أبو عقلين (قُتل معه) التفت أهل العراق لداوّد باشا (وزير العراق1817-1831)، وكان «دفتردار»، أي ما يقابل وزير الماليَّة اليوم، لتولي وزارة العراق، وبعد فصله مِن الوظيفة قصد إلى كردستان (العبارة لصاحب دوحة الوزراء)، واستقبل استقبالاً لا نظير له، «وراح المخلصون والحريصون يترددون خفية على دار داود أفندي(قبل أن يأخذ لقب الباشويّة)، ويعرضون عليه أن يتولى الأمر هو… ورفعت العرائض والمضابط إلى الدَّولة العليّة مِن الوجوه والأعيان والرُّؤساء، مقترحين تعيينه واليّاً على العراق بدل سعيد باشا»(الكركوكلي، دوحة الوزراء، منشور في حياة داود باشا، وصُنف بطلب منه1830). حصل أن أصبح داود باشا وزيراً على العراق، ورافقه بالمجيء إلى بغداد وجهاء الكُرد، وبالفعل نَعم العراق باستقرار أثناء وزارته، قياساً بالوزراء المماليك الذين سبقوه، وكانت الحجة المُقدمة للسلطان العثماني بتعيينه أنه مِن أبناء العراق، أي مولود فيه.
يمكن أن نكون أمام الحال نفسها، فقد شعر الكُرد آنذاك، أن بغداد إذا نعمت نعموا، وإن بُئست بأسوا، فكان منهم التَّصرف المذكور، والآن ليست بغداد بأقل سوءاً مِن وضعها تحت سلطة سعيد باشا وغلامه حمادي أبو عقلين، الذي كان يُدير إقليم العراق بتوقيع مِن وزيره!
سمعتُ حديثاً لوزير الخارجية العراقي الأسبق هوشيار زيباري، وهو مِن وجوه كردستان المعروفين، وخال رئيس إقليم كردستان السَّابق مسعود البارزاني، كان ينصح القيادة الكردستانية، بأن عليها الاهتمام بأمر بغداد، وملخص قوله: إنه إذا اختلت العاصمة الاتحادية بغداد، اختلت عاصمة الإقليم أربيل وأطرافها، وقد حصل أن السَّاسة الكردستانيين، وإن كان لهم أكثر مِن خمسين نائباً في البرلمان، وعدد من الوزرات وبينها سيادية، وقادة في الجيش، وبينها رئاسة الأركان، مِن غير وكلاء الوزارات وبقية المناصب، التي قررتها المحاصصة، إلا أنهم لا يهتمون بأمر العراق ككلّ، وكأنهم خارجه وبمعزل عنه، وربَّما كانت دول خارجية أقرب إليهم منه، ثم أشار زيباري إلى أن الأمر اختلف فقد أخذ السَّاسة الكُرد يهتمون بشأن بغداد. معلوم أن زيباري مِن قبيلة «زيبار» التي قال عنها إبراهيم صبغة الله الحيدري(ت1882)، أنها مِن العشائر الكبار:«وأما عشائر الأكراد مِن أهل العِراق، فمنها… عشيرة الزِّيبارية وهم كثيرة جداً، ونشأ منهم علماء أعلام»(عنوان المجد في أحوال بغداد والبصرة ونجد، نُشر1869).
كذلك الحال بالنسبة للمنطقة الغربية والموصل، فكأن الأمر لا يعنيهم بشيء، فأحد رجال الدِّين، الذي أخذ لقب مفتي الديار العراقيَّة، أخذ يُحرض ضد التَّظاهرات، واعتبرها «سوء تربية وأدب»، في خطبة له مِن مسجده ببغداد، وكأن القتل والفساد هو الأدب والتَّربية! لكن الأخطر كانت إشارته إلى «نحن السُّنَّة لدينا رواتب تكفينها لثلاثمائة عام، وحقوقنا محفوظة»، طبعاً وفق فقه المحاصصة.

أما أحد أبرز السياسيين السُّنَّة، والذي كان سلفياً سجيناً في عهد النِّظام السَّابق، ثم دخل مع مَن دخلوا في العهد الجديد، فقال: «لا علينا ولا يهمنا هذه التَّظاهرات أو غيرها، ولا يهمنا مَن يأتي ومِن يذهب، لدينا حصة من الوزارات والمراكز العليا نأخذها وليكن ما يكن»!.
أقول: مِن حقَّ الجمهور العراقي المتظاهر، وهو مِن جيل الشَّباب، أن يطرح التَّساؤل: أين الموقف الكُردي الرَّسمي والشَّعبي؟! وأين الموقف السُّني الرَّسمي والشعبي أيضاً، لنقل أن الرسميّ منهما مع الوضع الجاري، حيث لكلٍّ له حصته مِن المناصب والثَّروة، ولكن هل أن هذا الموقف يعكس الوضع الشَّعبي؟ّ!
إذا كانت حكومة كردستان تستطيع فرض منع التَّظاهر تأييداً لشباب بغداد، ولكنّ ألا يهمها القتل والاغتيالات، وكيف تتحدث عن الحُريّة والديمقراطيَّة، وهي جزء مِن نظام فقد شرعيته بعد أن فاق عدد القتلى أكثر مِن الستمائة قتيل، باعتراف رئيس الجمهورية مؤخراً في مؤتمر «دافوس»، وأمام كبار رجالات العالم. ناهيك عن آلاف الجرحى، وما زالت الاغتيالات الجارية وجرائم الخطف، واستباحة بغداد مِن قِبل الميليشيات، العلنية والسّرية منها؟! ألا يُحسب حساب العدوى! وكيف يكون الاستقرار إذا كان المركز مهزوزاً! هل القضية هي قضية مناصب وحصة مِن الثروة؟! هل يُختصر العراق أو الدَّولة بهذه العلاقة، وكأنها شركة وليست دولة؟!
ربَّما يكون ما عبر عنه البعض بأن المناطق الغربية لو تضامنت وتظاهرت، لدمغت بتهمة «داعش»، و«القاعدة»، مثلما حصل مع احتجاجات تلك المناطق(2013)، وغزتها القوات الأمنية، وهيمنت عليها الميلشيات! فآنذلك لم يتضامن شباب المناطق الجنوبية والوسطى مع الحقوقّ التي كان يُطالب بها المحتجون، وعندما استفحل أمر رئيس الوزراء آنذاك طائفيَّاً، وخصوصاً بعد خروج القوات الأميركيّة (2011)، أشتد الخطاب الطَّائفي، وقبل مَن قَبل بواقع الحال. غير أن الأمر مختلف مع هذه التَّظاهرات، فالدُّستور سيتغير ونظام الانتخابات سيتغير، والوجوه ستختفي، فهل معنى هذا أن يصبح إقليم كردستان عائقاً أمام هذه التغييرات، لأنه بنظام الانتخابات الموجود، والذي يؤيد الوجوه التي دمرت العراق، يجد مصلحته، وكأن لسان حاله كردستان والغربية يقول بأنانية أبي فراس الحمداني(ت357ه) المفرطة: «مُعَلِّلَتي بِالوَصلِ وَالمَوتُ دونَهُ/إِذا مِتَّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ».(الجنبيهي، ائتلاف المعاني والمباني)، وفي الأدب يُعاكسها قول مَن أتى بعده أبي العلاء المعري(ت449ه): «فلا هَطَلتْ عليَّ ولا بأرْضي/ سَحائبُ ليس تنْتَظِمُ البِلادا»(سِقطِ الزَّند). فمِن أجل العراق للجميع كونوا كالثَّاني لا كالأول!
رشيد الخيون

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here