التسول في العراق .. أسباب بلا معالجات

بدءا لا بد من الاعتراف بان التسول ظاهرة تنتشر في كل البلدان فقد لا تخلو دولة نامية او متقدمة من وجود التسول بشكل او بآخر ، والسبب كما تقول الدراسات إن ظهور التسول تختلط فيه الدوافع والأسباب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية ، والبعض يعد التسول آفة من أكثر الآفات الاجتماعية التي تثير الفوضى وتسبب القلق والإزعاج وتسيء للمظهر الحضاري العام للمجتمع ، سيما في المجتمعات ذات الإيرادات العالية او التي تدعي إنها توفر الخدمات والرعاية وتعمل على تحسين مستويات المعيشة للسكان ، ويرى البعض إن التسول مشكلة شديدة التعقيد وعلى المجتمع أن يوجد الحلول المناسبة التي تساعد على الحد من انتشارها وتأثيراتها بإعادة تأهيل ( المتسولين ) وتكييفهم بما يتوافق مع الأنماط السلوكية التي يرغبها المجتمع لكي يتخلصوا من الأنماط غير الايجابية ( التي ينبذها المجتمع ) التي تعودوا عليها وأصبحت تشكل خطورة على البلد ومواطنيه ، فظاهرة التسول قد تكون مدخلا او مبررا لظواهر أكثر سلبية التي ربما تتطور إلى أفعال أخرى كالجريمة المنظمة والاعتداء والإدمان على الكحول والمخدرات والبغاء ، خاصة عندما يدرك المتسول بالفوارق الكبيرة في مستويات المعيشة بينه وبين أغنياء في البلاد اثروا بأموال السحت من خلال الاستحواذ على الفرص دون استحقاق او من خلال الإفلات من العقوبات كالسرقة والتزوير وغيرها من مظاهر الفساد .
والتسول هو طلب ( مال ، طعام ، كساء ، المبيت ) باستجداء عطف الآخرين وكرمهم او بعرض العاهات أو إظهار سوء الحال أو استثارة مشاعر الناس بحمل الأطفال وهم بطريقة مزرية ، بغض النظر عن صدق المتسولين أو كذبهم ، وهي ظاهرة متعددة ألإشكال والديكور والإكسسوار ومنها تواجد المتسولين في الطرقات وخاصة في التقاطعات وأثناء الازدحامات وتعريض الناس للمضايقات والإحراج في الأماكن العامة كمآرب النقل والمطاعم والمناطق السكنية والأماكن الدينية ودور العبادة والسياحة وغيرها التي يصاحبها التوسل والإلحاح . ويلجأ بعض المتسولين لعرض خدمات لا حاجة لها غالبا كمسح زجاج السيارة أثناء التوقف على الإشارات او التوجه بالدعاء بما يناسب كل حالة كالنجاح للطلبة والتوفيق للأزواج والحفظ والصون للأطفال والإنجاب بسلامة للحوامل والشفاء في المستشفيات والعيادات والصيدليات وغيرها من الأوصاف ، وللتسول أشكال وتخصصات ومنها التسول في المناسبات كالإعراس والفواتح والتسول أثناء زيارة القبور واستخدام الطفل للتسول وهو بسن الرضاعة او في حالة مرض او عوق ، أما الطفل المتخصص بالتسول فهو بعمر لا يتجاوز 12 عام (من الذكور والإناث) ويتخذ من استجداء الناس وسيلة للحصول على المال ويؤدي مظهره الشخصي إلى رثاء الآخرين وعطفهم عليه ويقوم بهذا السلوك عن قصد وبشكل متكرر ومنتظم بمهارات فطرية او مكتسبة ، وغالبا ما يحدث التسول نتيجة لإجبار الوالدين والقائمين على رعايته للعمل على التسول لا لتوفير حاجاته ( لأنه لم يدركها بعد ) بل لمنفعة من يستغله او يرعاه .
ومن الناحية النظرية فان أسباب ظاهرة التسول تعود بشكل أساسي للفقر والبطالة وانعدام العدالة او اللامبالاة ، ويرى البعض أن استخدام التسول ك(مهنة) يومية تأتي بدخل معقول منشأه تعاطف الناس مع الاستجداء الكاذب للكثير من المتسولين ، وقد أشار باحثون اجتماعيون إلى تعدد أنماط مظاهر التسول ، وأكثرها شيوعا هو التسول الظاهر وهو التسول الواضح والتسول المقنّع وهو التسول المستتر وراء أنشطة أخرى مثل بيع السلع الصغيرة أو أداء بعض الخدمات البسيطة . التسول الموسمي وهو التسول في مواسم ومناسبات معينة مثل الأعياد أو رمضان ، التسول العرضي وهو التسول المؤقت الناتج عن ظروف استثنائية والتسول الاحترافي وهو اتخاذ التسول حرفة والتسول الاضطراري وهو تسول الشخص العاجز عن العمل والذي لا يتوافر له أي مصدر دخل آخر غير التسول ، كما أشار الباحثون إلى أن للتسول أثاره الضارة على المتسول ذاته من حيث إهداره لكرامته الإنسانية ، ومن المؤسف فعلا إن حالات او ظواهر التسول أخذت تنتشر بشكل واسع في بلدنا رغم البيانات والإجراءات التي تتخذها الأجهزة المختصة لمنع التسول ، حيث يتواجد المتسولون في اغلب الأمكنة العامة سواء في ازدحامات السيارات او في الأسواق وحتى في مداخل الجامعات والكليات ودور العبادة والعديد من الأماكن ، ويعزي البعض أسباب انتشار التسول إلى فشل الإجراءات الحكومية لظهورها لأنها تحاول المنع دون معالجة الأسباب ، كما يدعي البعض إن للفساد علاقة بالموضوع لان بعض الساحات والأماكن باتت تشترى وتباع من عصابات التسول التي ترعى هذه الممارسات وكأنها أعمال استثمار .
وان ما يعقد إيجاد معالجات لمشكلات التسول او الحد من توسعها على الأقل في العراق ، هو انتشار الفقر والبطالة ومحدودية فرص العمل وقصور الأجهزة الحكومية على استيعاب المتسولين وتأهيلهم لأنه يحتاج إلى الإمكانيات من جهة الحكومة والقناعة وليس الإكراه من قبل المتسولين ، ورغم إننا لا نمتلك إحصاءات رسمية بعدد المتسولين إلا إن من المؤكد بأنهم يشكلون إعدادا لا يستهان بها ، فحسب إحصاءات وزارة التخطيط فان نسبة العراقيين الذين يعيشون تحت خط الفقر هي 30% من السكان أي إن تعدادهم هو 12 مليون وعلى فرض إن 1% من هؤلاء لديهم استعدادات سلوكية لممارسة التسول تحت أي مسوغ ، فان عدد المتسولين لايقل عن 120 ألف ويمكن إضافة إعداد أخرى لهم من بعض ذوي الاحتياجات الخاصة الذين لا ترعاهم عوائلهم او المؤسسات الحكومية وبعض الذين يعانون الايتمة والترمل والفقدان الأسري والمجموع عدد مخجل ولا يستهان به ، ومن يتبجح ببرامج الرعاية الاجتماعية فإنها غير قادرة على استيعاب أكثر من ( 2 ) مليونين ( من مجموع الفقراء المقدر عددهم 12 مليون ) وهي برامج لا توفر الحد الأدنى من متطلبات المعيشة ( الكفاف ) لما تتطلبه من تخصيصات ، وبغض النظر عن عدد وحجم التسول فانه لابد من تبني معالجات لهذه ( الآفة ) التي ربما تنتشر كالهشيم ( لاسمح الله ) فبعض المتسولين قد يلجئون للعنف عندما لا تلبى طلباتهم لان اغلبهم مصابون بالإحباط او بأمراض وعاهات وقد لا يهتمون بالنتائج وردود الأفعال ، دون أن ننسى انه من المعيب إن ينتشر التسول وموازنتنا الاتحادية بأكثر من 100 مليار دولار كل عام ، كما إننا دولة إسلامية والإسلام فيه بيت مال وخمس وزكاة ولمجتمعاتنا عادات وتقاليد ايجابية ترعى المحتاج وتمنع الهدر بكرامة الإنسان ، ونتمنى أن لا تكون المعالجات بطريقة الكر والفر من خلال إرسال ( مفارز ) للساحات للقبض على المتسولين والإفراج عنهم فيما بعد بكفالات او مساومات ، فإجراءات من هذا النوع تعقد المشكلة وتؤدي للفساد او العناد ، وفي كل الأحوال فإننا لسنا بأوصياء على المتسولين لكي نفرض حلولا كيفما نشاء ، ولكننا نبحث عن حلول لهم لأنهم شركاء لنا في هذا الوطن الغني الذي يمتلك ثاني او ثالث احتياطي نفطي مؤكد ، ومن المفترض ببلد بهذا المستوى من الغنى والثروات إن يكون فيه التسول من باب ( الهوايات ) وليس لأجل الحصول على رغيف خبز على سبيل الاحتراف .
باسل عباس خضير

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here