الديمقراطيون وظاهرة مقتدى الصدر

كاظم حبيب

حظت عائلة الصدر النجفية احترام قوى المعارضة العراقية التي كانت تناضل ضد النظام الدكتاتوري البعثي وضد نهجه السياسي الاستبدادي والعدواني ضد الشعب العراقي لاستشهاد شخصيتين دينيتين بارزتين على أيدي نظام البعث الفاشي الدموي وهما الشقيقان السيدان محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر، وكذلك شقيقتهما الشهيدة آمنة السيد حيدر الصدر (بنت الهدى). وكان للسيد محمد صادق الصدر اتباع ومريدون كثيرون باعتباره أحد المراجع الدينية الشيعية في النجف.
بعد إسقاط الدكتاتورية لعبت إيران دوراً كبيراً في تشجيع شيوخ الدين على التحرك لملء الفراغ الذي نشأ بعد سقوط النظام وتشجيعهم على الاستفادة من اتباعهم في تشكيل ميليشيات شيعية طائفية مسلحة إلى جانب الأحزاب الإسلامية السياسية التي سعت الإدارة الأمريكية وبمساومة مفضوحة تسليم قيادة البلد بيد الأحزاب الإسلامية الشيعية وبتحالف مع الأحزاب الكردية وقوى وأحزاب إسلامية وقومية سنية. وكان مقتدى الصدر احد تلك الشخوص الدينية التي تم تحريكها وتنشيطها بعد ان شارك بالدفع باتجاه اغتيال عبد المجيد الخوئي أبن المرجع الديني الشيعي المعروف أبو القاسم الخوئي، والذي لم يكن مرغوبا به من جانب السلطة في إيران والذي تم فعلًا مع بداية احتلال العراق ودخوله مدينة النجف.
لم يكن مقتدى الصدر مؤهلاً لاحتلال موقع أبيه بسبب عدم نضوجه الديني وثقافته العامة الضحلة وتجربته السياسية الضئيلة. وبالتالي لم يكن سهلاً احتلال موقع أبيه بالوراثة الدينية. ولكن بتشجيع من إيران قام بتشكيل ميليشيا شيعية طائفية مسلحة اطلق عليها “جيش المهدي” التي سُلحت من مخازن الجيش العراقي ومن إيران كما تم دعمه من إيران مالياً. ونحن نعرف الممارسات المسلحة في الصراع الطائفي والقتل على الهوية التي قامت بها هذه الميليشيا في سنوات 2005 – 2008 مع بقية الميليشيات الشيعية المسلحة. والحديث هنا لا يشمل جرائم الميليشيات السنية المحلية والدولة التي ارتكبتها في العراق خلال الفترات المنصرمة.
في تكوين مقتدى الصدر لميليشياته اعتمد على عناصر عسكرية أسيرة تعرضت لغسل دماغ وجاءته بدفع من إيران أولاً، وعناصر من القوات المسلحة العراقية والشرطة والأمن وأعضاء في حزب البعث التي لم تلتحق بميليشيا الصدر فحسب، بل وببقية الميليشيات الطائفية المسلحة، بعد ان أعلنت توبتها عن ذنوبها السابقة (!) ثانياً، إضافة إلى الكثير من المادحين والفقراء والمعوزين من سكان المناطق الشعبية الفقراء في بغداد وبقية محافظات الوسط والجنوب ثالثاً.
لم يحصل هذا مع مقتدى الصدر بل حصل مع عمار الحكيم وشيوخ دين آخرين دينية، بعد أن كان الناس قد خرجوا من نظام دكتاتوري فاشي، إذ عاشوا في جحيم لا يطاق من الاستبداد والقمع والحروب والحصار الاقتصادي والحرمان. كما كان الدين هو الملاذ لهم فغابوا فيه والذي لعب دوره في توجه الكثير من الناس، لاسيما الشبيبة صوب الأحزاب الدينية وميليشياتها المسلحة. كل هذه البيوتات الدينية وجدت الدعم المادي والإعلامي والتنظيمي والأمني من إيران وفي تشكيل مليشياتهم الطائفية المسلحة. وهي كلها تلعب اليوم الدور المناهض للثورة وكشفت كلها عن وجهها القبيح ولم تنفعها الأقنعة والأصباغ التي استخدمتها.
منذ سنوات كنت على يقين بأن ما جرى ويجري اليوم بين احزاب البيت الشيعي كان ولا يزال ضمن حسابات هذه القوى بحدود غير قليلة وبتأثير عوامل كثيرة جعلت البعض يلعب في السياسة دور المعارض وتعبئة القوى حوله وإبراز دوره القيادي، إضافة إلى شق وحدة الصف الديمقراطي على ضعفه وقلة مريديه.
لا يمتلك مقتدى الصدر ثقافة دينية تنويرية ولا ثقافة عامة ولا مؤهلات قيادية كاريزمية، بل ثقافة تقليدية دينية مذهبية طائفية متخلفة لا يختلف في ذلك عن عمار الحكيم أو قيس الخزعلي أو هادي العامري أو البقية الباقية من قيادات الميليشيات الطائفية المسلحة التي قرّبت إليها عناصر عسكرية وأمنية بعثية سابقة كانت ولا تزال مخلصة للبعث بلباس ديني مذهبي مهلهل، أو بلباس طائفي اكثر افتضاحاً وعدوانيةً، أو بعقيدة دينية متخلفة وعدوانية قاتلة، كما في نهج وسلوكيات أشخاص مثل هادي العامري وقيس الخزعلي ومن لف لفهما.
في الكتلة الصدرية توجد ثلاث مجموعات من البشر :
أولاً: المجموعة المؤمنة والتي كانت ضمن مريدي والد مقتدى الصدر والكثير من الشبيبة من أبناء وبنات هؤلاء المؤمنين، وهم في الغالب الأعم كادحين وفقراء يعيشون الحرمان والبؤس والفاقة ويحسون الإساءة لكرامتهم الإنسانية في أوضاعهم المعيشية وهامشيتهم السياسية والاجتماعية وعدم عدالة النظام الذي يعيشون تحت وطأته.
ثانياً: مجموعة من القوى الدينية التي لا تختلف عن بقية القوى الدينية التقليدية ولكنها محكومة بتقليد السيد محمد صادق الصدر وبالتبعية لأبنه وتنتظر الحصول على مكاسب من وجودها مع كتلة الصدريين.
ثالثاً: أما المجموعة القيادية الصغيرة الثالثة في الكتلة الصدرية فأعضاؤها من قوى بعثية سابقة وقوة طائفية متطرفة وتتسم بالشراسة والفساد المالي والإداري والتي احتلت مناصب كبيرة وزارية ووكلاء وزارات وعضوية مجلس النواب ومدراء عامون وغيرهم. إنهم يشكلون النواة الصلبة في الكتلة الصدرية التي تأتمر بأوامره وتقود البقية الباقية، وهي مستعدة في كل لحظة إلى الافتراق عن الصدر إن وجدت ذلك في منفعتها، كما حصل مع قيس الخزعلي وغيره، وكما يمكن ان يحصل مع غيره مثل حاكم عباس الزامبي على سبيل المثال لا الحصر. وهذه النواة الصلبة ذات اتجاهات متباينة ولكنها في المحصلة النهائية تخضع لمصالحها وتقترب دوما من إيران ومخططات إيران في العراق.
تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية للحركة المدنية في عام 2011 من جهة، وتحت ضغط شديد من أتباع الصدر من المجموعة الأولى التي وجدت أوضاعها في تردي مستمر، سواء من حيث البطالة أو الفقر أو الحرمان من الخدمات الأساسية في مقابل نهب وسلب مستمرين للمال العام ولقمة عيش الكادحين من جهة ثانية، وتحت ضغط المنافسة المحتدمة بين قوى الطغمة الحاكمة، لاسيما مع نوري المالكي ورهطه الفاسد والمستبد من جهة ثالثة، وجد مقتدى الصدر نفسه ولمصلحة كتلته ركوب الموجة والعمل على قيادتها من خلال المشاركة فيها وتبني بعض أهدافها دون الإيمان الفعلي بها. فالأيديولوجيا الدينية التقليدية كانت قد تكرست في عقليته بقوة بسبب ضعف ثقافته العامة وضعف اطلاعه التاريخي على تاريخ العراق والمجتمع، وبالتالي فطرحه الدولة المدنية كانت مجاراة مؤقتة وليست أصيلة، كما كانت تقلباته مدروسة وغير عفوية ومرتبطة بالصراعات داخل البيت الشيعي الأذى الشديد الذي لحق به وبجيشه في العام 2008 في البصرة على أيدي نوري المالكي والذي لم ينسه حتى الآن.
الأمثال الشعبية فيها حكم كالمثل الشعبي القائل ” أبو گريوه يبين بالعبرة”، أي حين يحتدم الصراع ويكشف عن التناقض الاجتماعي المتعاظم تتكشف المصالح وتتباين المواقف.
إن الحركة المدنية الاحتجاجية أثمرت الكثير من الإيجابيات لصالح الثورة الجارية ومما يعتبر لدى البعض اليوم انتفاضة أو ثورة شعبية عفوية. فالحراك المدني لم يكن عفويا بل كان نتيجة منطقية لنهج النظام الطائفي الفاسد والبطالة والفقر ونهب الخيرات والصراعات حول السلطة ودوس كرامة الإنسان وهوية المواطنة والتدخل الخارجي الفظ في الشأن العراقي ولاسيما الإيراني، وكذلك التركي والأمريكي والسعودي الخليجي. وأثمر الحراك المدني عن نشر الوعي السياسي والاجتماعي والوعي الاحتجاجي بشكل خاص ووصل بمضامينه المدنية إلى المجموعة الأولى من كتلة الصدريين الواسعة أيضا. وإذ اثمر الحراك المدني هذه الانتفاضة الشبابية، شاء البعض أم أبى، فأن الانتفاضة الشبابية والشعبية حققت ست مسائل جوهرية:
أولاً : عبأت الانتفاضة المزيد من الشعب وهي تتحول إلى ثورة عارمة صامدة بوجه الطغيان والفساد والتآمر.
ثانياً: كشفت عن الوجه الحقيقي للنظام السياسي الطائفي الفاسد وعدوانيته إزاء إرادة ومصالح وحقوق الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفكرية.
ثالثاً: فضحت عورة النظام الفاسد والتابع لإيران ودور حكام إيران العدواني ضد الشعب العراقي وجموحهم في الهيمنة على العراق واستعماره واعتباره جزءاً من الإمبراطورية الثيوقراطية الفاسدة.
رابعاً: بعد مرور أربعة شهور على الانتفاضة الشعبية استطاعت تحقيق اصطفاف سريع بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة أولاً، كما خلقت اصطفافا يتبلور يوما بعد اخر داخل الكتلة الصدرية، وربما في صفوف قوى أخرى، أي من يقف مع الثورة ومن امر بضرب الثوار بالحديد. النار وقتل وجرح أكثر من مئة مناضل ولطخ يدين وأيدي أتباعه بدم الثوار الأبرار في النجف وبغداد ممن يرتدون القبعات الزرق ومن ادعوا وقوفهم إلى جانب الشعب ومطاليبه ثانيا. وأهمية هذا الأمر يكمن في النقطة الخامسة والأساسية وهي:
خامساً: أهمية السعي لتشكيل تحالف شعبي واسع النطاق لكل القوى التي تريد تحقيق التغيير والخلاص من النظام الطائفي الفاسد والمقيت والمحرم. إنها عملية صيرورة وسيرورة مستمرة ومعقدة ولكنها ضرورية أتمنى ان يدرك كل الثوار وليس بعضهم أهمية بلورة هذا الموقف والتعجيل به لدوره الكبير في تحقيق المزيد من النجاح في العملية الثورية السلمية وتقليص خسائرنا بثوارنا البواسل.
سادساً:تحقيق تأييد عالمي واسع النطاق لثور الشعب المقدامة وإدانة مباشرة للطغمة الحاكمة الفاسدة.والثوار بحاجة إلى المزيد من العمل لكسب الرأي العام العالمي إلى جانبها وبدعم الجالية العراقية في الخارج.
أرى إن من واجب القوى الديمقراطية في المرحلة الراهنة ان ترى الأمور برؤية سياسية اكثر تدقيقا وجدلية لما يجري في الساحة السياسية المعقدة وفي دور إيران في نهج وسياسات قوى الإسلام السياسي وجميع الميليشيات الطائفية المسلحة دون استثناء. فهذا الدور يذكرني بقول فهد عن الحكومات العراقية المتعاقبة في عام 1947، حين كتب يقول: ” الحكومات العراقية طيارات ورقية خيوطها بيد سميث وآل سميث”.
لقد لعب مقتدى الصدر والنواة الصلبة في كتلته دوراً تخريبياً مؤذياً كشف عنه بشكل كامل حين ادرك بأن الجماهير المنتفضة تلفظه ولا تريد أي دور له في ثورتها لأنها ادركت بوعيها الفطري وتجربتها خلال الأعوام المنصرمة عن هذا الدور المؤذي. إنها تريد التغيير وليس الإصلاح الذي تريده الطغمة الحاكمة ببقائها في سلطات الدولة العراقية كافة. وكان الموقف الصارخ حين رحل إلى إيران ووضع نفسه تحت تصرف القيادة الإيرانية. ثم جاءت الأحداث متسارعة بعد مقتل قاسم سليماني المسؤول عن الملف العراقي. عنه وعن كتلته. اخيرا اصطف مع قوى السلطة الظالمة، مع قوى الثورة المضادة علناً حين سمح لقيادة كتلته وميليشيا “سرايا السلام” أو ميليشيا “جيش المهدي” توجيه نيران أسلحتها الخفيفة والمتوسط إلى صدور الثوار السلميين في النجف وتلطخت يديه وأيدي أتباعه الأوائل الذين شاركوا في هذه الفعلة القذرة بدم شبيبة العراق ودوت الثكالى.
الآن حانت ساعة الحقيقة بالنسبة لأعضاء كتلة الصدر الذين خاب ظنهم به وبكتلته ليحرروا أنفسهم من قيود التبعية والرعية الطائع أولاً، كما حان الوقت لحلفاء الكتلة الصدرية في”سائرون” في أن يقرروا مواقفهم المبدئية قبل فوات الأوان إزاء هذه الكتلة وسائرون وشخص “قائدها” مقتدى الصدر.
لقد فات اوان طرح السؤال التالي: هل مقتدى الصدر والمجموعة القيادية الأساسية التي تقود كتلته وميليشيا جيش المهدي قد اصطفوا إلى جانب أعداء الثورة؟ الجواب الواقعي يؤكد بأنهم قد حسموا موقفهم فعلا إلى أعداء الثورة وبالضد من مصالح الغالبية العظمى من الكادحين والفقراء والمعوزين التي شكلت، وربما لا تزال تشكل غالبية اتباعه. إنها الخيانة لهذه المصالح ولقضية الثورة والشعب ما حصل في النجف وفي المطعم التركي وما يمكن ان يحصل لاحقاً.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here