معنى الأدب

ترجمة:هاشم كاطع لازم – أستاذ مساعد – كلية شط العرب الجامعة – البصرة

بقلم: وليم جي لونغ William J. Long

المحارة والكتاب

في أحد الأيام كان هناك طفل ورجل يتمشيان على شاطيء البحر حين وجد الطفل محارة صغيرة ، فأمسك بها ورفعها الى أذنه. فجأة سمع أصواتا غريبة وخفيضة وشجية وكأن تلك المحارة كانت تتذكر وتعيد لنفسها همهمات بيتها قي أعماق المحيط! أستغرب الطفل كثيرا وهو يصغي لتلك الأصوات ، ففي داخل تلك المحارة الصغيرة كان هناك صوت من عالم أخر ظل الطفل يصغي ببهجة لموسيقاه وغموضه. بعدئذ جاء دور الرجل ليوضح بأن الطفل لم يستمع لأي شيء غريب ، وأن المنحنيات اللؤلؤية للمحارة قد حبست مجموعة كبيرة من الأصوات الضعيفة التي لاتدركها الأذن البشرية بسهولة وملأت التجاويف واهنة الأضاءة بهمهمة الأصداء التي لاتعد ولاتحصى. ولم يكن ذلك عالما جديدا أنما كان تناغما مبهما لعالم قديم حفز أستغراب الطفل!

أن مثل هذه التجربة تنتظرنا ونحن نهم بدراسة الأدب الذي يتميز بسمتين أولاهما تحقيق المتعة والأعجاب وثانيهما التحليل والوصف الدقيق. على سبيل المثال دع أغنية قصيرة تروق لأذنك أو كتابا ذائع الصيت يروق لقلبك ، عندئذ سوف تقوم في هذه اللحظة في الأقل بأكتشاف عالم جديد ـ عالم يختلف كثيرا عن عالمنا فهو مكان يعج بالأحلام والسحر. أن من الأولويات الدخول الى هذا العالم الجديد والتمتع به فضلا عن الولع بقراءة الكتب لما يعوّل على القراءة من أهمية. أما تحليل الكتب وتوضيحها فأمر مهم أيضا لكنه أقل متعة! ولاشك أن وراء كل كتاب يكمن العرق وخلف العرق هناك البيئات الطبيعية والأجتماعية التي ينعكس أثرها على نحو لاشعوري.

وأذا رغبنا بلوغ الرسالة الشاملة التي يحملها الكتاب في طياته فعلينا أن نعرف تلك السمات كلها. بأختصار لقد وصلنا الآن الى نقطة نتطلع من خلالها الى فهم الأدب والأستمتاع به وأن الخطوة الأولى تكمن في تحديد بعض صفات الأدب الأساسية.

أول سمة هامة للأدب هي الصفة الفنية للأجناس الأدبية كافة ، وأنواع الفن بمجملها هي تعبير عن الحياة بصفتي الحقيقة والجمال أو أنها أنعكاس لبعض الحقيقة والجمال الماثلان في هذا العالم ، لكنهما يظلان بعيدين عن الملاحظة الى أن تقوم روح أنسانية حساسة بجلب أنتباهنا اليهما تماما مثلما تعكس الأنحناءات الرقيقة للمحارة اصواتا وتناغمات تصعب ملاحظتها بسبب أصواتها الخفيضة. في هذا الشأن ربما يمر مائة شخص بحقل للقش فيشاهدوا العمل الشاق فحسب مجسدا أمامهم فضلا عن كوم الحشيش الجاف. لكن هناك شخص أخر يمر بمرج روماني تعمل فيه فتيات في حقل القش وهن يغنين فيلقي نظرة عميقة للغاية ليرى الحقيقة والجمال في مالانرى نحن سوى الحشائش الجافة ليطلق بعدها العنان لتفكيره فيصوغ مايراه بقصيدة قصيرة يخبرنا فيها القش عن قصته الخاصة:

كنت أزهارا يوم أمس.

لقد شربت أخر جرعة من شراب الندى الحلو،

العذارى قدمن وغنين لموتي

القمر ينظر ألي ويراني مكفنا

بكفن نداي الأخير.

أزهار الأمس التي ماتزال في داخلي

لابد أن تعوّض أزهار الغد جميعا ،

والعذارى أيضا اللائي غنين لموتي

لابد أن يمهدن لكل العذارى القادمات.

وروحي مثل روحهن

سوف تحمل عطر الأيام الخوالي.

ربما تمر عذارى الغد من هنا

ولن يتذكرن أزهاري يوما.

الأزهار الجديدة وحدها من يرونها

وسوف يتذكرن روحي المحملة بالعطر

ذكرى عطرة تذكّر النساء بأيام الصبا.

وسوف يشعرن بعدها بالأسى

لأنهن غنين لموتي.

الحزن عليّ سوف يجلل جميع الفراشات.

أحمل معي

الذكريات العزيزة لضياء الشمس

وهمهمات الربيع الخفيضة الناعمة.

نفسي طيب مثل ثرثرة الأطفال ،

ألتهمت خصب الأرض كله

لأصوغ منه شذا روحي

التي سوف تبقى بعد موتي.

أن من يقرأ البيت الأول الرائع من هذه القصيدة (كنت أزهارا يوم أمس) لايمكن أن يرى القش مرة ثانية دون أن يتذكر الجمال الذي كلن مخفيا عنه الى أن أماط الشاعر اللثام عنه. والأعمال الفنية بمجملها لابد أن تحمل الألهام في طياتها وبالطريقة المدهشة ذاتها ومنها ربما أقدم تلك الفنون وهو الفن المعماري architecture ، مع ذلك مايزال هناك الكثير من البنائين يقابله عدد محدود من المعماريين أي اولئك الذين يتعاطون مع الخشب أو الحجر والتي بدورها توحي ببعض الحقيقة والجمال المخفيتان عن الحواس الأنسانية. وتأسيسا على ذلك فأن الأدب هو ذلك الشكل الفني الذي يعبرعن الحياة وبكلمات تروق لأحساسنا بالأشياء الجميلة ، لذا هناك الكثير من الكتاب لكن يظل عدد الفنانين منهم محدودا للغاية. والأدب بمعناه الواسع ربما يعني ببساطة الكتابات التي تتناول الأعراف البشرية وتشمل تاريخها وعلومها فضلا عن قصائدها الشعرية ورواياتها ، أما في المعنى الأضيق فأن الأدب يمثل سجل الحياة من الناحية الفنية وبذا نستبعد منه معظم كتاباتنا مثلما نستبعد الأعداد الكبيرة من البنايات التي لاتعدو كونها أكثر من مأوى عن الريح والبرد ، وهي بذلك لاتشكل جزءا من الفن المعماري. أن عملا ما يتناول موضوعا تاريخيا أو علميا ربما يكون مادة أدبية أيضا بشرط أن يتوافق موضوعه وطرحه للحقائق مع جمالية التعبير التي تميز الأدب.

الأيحاء

الصفة الثانية للأدب هي (الأيحائية) ومناشدة العواطف والأحاسيس والخيال وليس العقل. والأمر هنا لايتعلق بما تقوله المفردات الأدبية أنما بما يمكن أن يوقظه فينا وبفعل مايتصف به من سحر. وحين يقول الشيطان على لسان الشاعر ميلتن Milton (أنا بذاتي الجحيم) فأنه لايذكر أية حقيقة أنما يفتح من خلال تلك الكلمات الثلاث الهائلة عالما شاملا من التأمل والخيال. وحين يقول فاوستس Faustus بحضور هيلين Helen :(هل هذا هو الوجه الذي عوّم السفن الألف؟) فهو لاينطق بأية حقيقة أو يتوقع أجابة ما. أنه في الواقع يفتح بابا يدخل منه خيالنا الى عالم جديد ، عالم الموسيقى والحب والجمال والبطولة — عالم الأدب الأغريقي الرائع! هذا السحر بمجمله يجد صداه في الكلمات. وحين يصف شيكسبير بايرن Biron الشاب وهو يقول:

بمثل هذه الكلمات المناسبة والمهذبة

تتهرب تلك الآذان الهرمة من حكاياته

فهو لايقدم لاشعوريا وصفا دقيقا للغاية لنفسه فحسب أنما يعتبر ذلك مقياسا للأدب عامة الذي يعيننا على الهروب من العالم الحالي والأنطلاق للعيش لفترة وجيزة في عالم الخيال الممتع.أن وظيفة الفن عموما لاتكمن في التعليم والأرشاد فحسب أنما في أشاعة البهجة مما يحفز القاريء لبناء روحه الخاصة أو (بيت المسرات البهي) الذي حلم به الشاعر تينيسن Tennyson قي قصيدته الموسومة (قصر الفن) Palace of Art.

الديمومة

تمثل الديمومة الصفة الثالثة التي تميز الأدب ، وهذه الصفة ترتبط بالصفتين الأولى والثانية. أن العالم لايعيش بالخبز وحده فرغم مايتسم به من سرعة وصخب وأنغماس جلي بالأمور المادية فأنه بدافع الرغبة لايدع أنتهاء أية اشياء مادية. ومثل هذا الأمر يصدق أكثر على الأغاني أكثر منه على الرسم والنحت. ورغم أن صفة الديمومة أمر نتوفعه لما يصدر من أعداد هائلة من الكتب والمجلات التي تتدفق يوميا فأن معرفة الأنسان بصرف النظر عن عمره تتطلب الغوص عميقا لتخطي تاريخه فالتاريخ يسجل أعمال الأنسان الظاهرية الى حد كبير ، لكن أي فعل كبير لابد أن ينبثق من مثل أعلى. ولفهم مثل هذا الأمر يتعين قراءة أدبه الذي يحتضن مثله العليا. وحين نقرأ تاريخ الأنكلوساكسونيين ، على سبيل المثال ، نعلم بأنهم كانوا قراصنة بحر ومستكشفين يتصفون بالشراهة في أكلهم وشربهم وكذلك نعرف شيئا عن أكواخهم وعاداتهم والأماكن التي غزوها ونهبوها. هذه كلها أمور مهمة لكن التاريخ مع ذلك لم

يخبرنا الكثير من الأشياء التي نود معرفتها عن أسلافنا القدماء أولئك: ليس ماقاموا به فحسب أنما ماكانوا يفكرون ويشعرون به ونظرتهم الى الحياة أو الموت وماكانوا يحبونه ويخشونه وتبجيلهم الله وكذلك الأنسان. بعدها ننتقل من التاريخ الى الأدب الذي أنتجوه بأنفسهم لنصبح غلى الفور على بينة من هدفنا. ولم يكن أولئك الناس الأشداء مجرد محاربين أو قطاع طرق ، فقد كانوا بشرا مثلنا فعواطفهم توقظ أستجابة فورية في أرواح أسلافهم. أننا نشعر بالغبطة ونحن نقرأ ماكتبه شعراءهم الرحالون عن حبهم الشديد للحرية والبحر المفتوح ونتحمس أيضا لحبهم لديارهم ولوطنيتهم من خلال ولائهم المطلق لقائدهم الذي أختاروه بأنفسهم ورفعهم لدروعهم وهو رمز لقيادته. كما نبدي أحترامنا للحضور الأنثوي حينذاك أو الشعور بالكأبة أمام قسوة الحياة ومشاكلها أو تبجيلهم الله الذي تجرأوا على تسميته ب (الأب الكلي). أن سائر تلك العواطف الحقيقية والكثير من العواطف الأشد منها تمر بارواحنا ونحن نقرأ ماتبقى من أشعار قليلة وصلتنا منهم.

هذه المسألة تنطبق على أي عصر أو شعب ، فأذا أردنا فهمهم فعلينا ببساطة أن اقرأ تاريخهم الذي يجسد أفعالهم أما أدبهم فيسجل الأحلام التي ساعدت على تحقيق تلك الأفعال. لذا كان أرسطو على صواب تماما حين قال أن (الشعر أكثر جدية وفلسفة من التاريخ) وأيضا الفيلسوف غوته الذي أعتبر الأدب بمثابة (أنسنة العالم بمجمله). والسؤال الذي يطرح هنا: لماذا يتسم الأدب بالأهمية وكيف يظهر الأدب نفسه شيئا أساسيا لثقافة ما؟

أهمية الأدب

من الآراء الغريبة والمتداولة عن الأدب وكذلك أشكال الفن الأخرى أنه محرّك للخيال ليس ألا ومثير للبهجة مثل رواية جديدة لكنه يفتقر الى الأهمية الجدية أو العملية. ولأن الحقيقة شيء لايمكن تجاهله فأن الأدب يحافظ على مثل الناس العليا ، وأن هذه المثل ومنها الحب والأيمان والواجبات والصداقة والحرية والتبجيل تمثل الجوانب المهمة من الحياة البشرية التي تستحق الحفاظ عليها. لقد كان الأغريق شعبا رائعا ، مع ذلك لم يتبق من أعمالهم البطولية الكثيرة سوى النزر اليسير من المثل العليا مثل الجوانب الجمالية المخلدة في الصخور المتبقية وكذلك العقيدة والأيمان المجسّدة في النثر والشعر. كانت تلك ببساطة مثل الأغريق واليهود والرومان المحفوظة في آدابهم التي ساهمت في تشكيل شخصيتهم التي جسدت قيمهم للأجيال اللاحقة. من ناحيتنا نرى أن ديمقراطيتنا التي تتفاخر بها الشعوب كافة التي تتحدث باللغة الأنكليزية عبارة عن حلم وليس ذلك المشهد الملتبس وأحيانا المحبط المحفوظ في قاعاتنا التشريعية أنما ذلك المثل الأعلى المحبب الى النفس والخالد لطبيعة أنسانية حرة وعادلة محفوظة مثل معظم التراث الثمين في كل أدب عظيم أبتداء من الأغريق الى الأنكلوسكسونيين. أن آدابنا وعلومنا

وأختراعاتنا جميعا قائمة بقوة على المثل العليا لأن في داخل كل أختراع يكمن حلم (بيوولف) Beowulf حيث أن ذلك الرجل ربما يتغلب على قوى الطبيعة وأن أساس سائر علومنا وأكتشافاتنا هو الحلم الخالد بأن الرجال (سوف يكونون مثل الآلهة يعرفون كلا من الخير والشر).

بأختصار ، تستند حضارتنا بمجملها وكذلك حريتنا وتقدمنا وبيوتنا وديننا بقوة على تلك المثل العليا التي تمكث على الأرض. لذا يستحيل علينا أن نغالي في تحديد الأهمية العملية للأدب الذي يحتضن تلك المثل فتنتقل من الأباء الى الأبناء في مايختفي الرجال وتنتهي المدن والحكومات والحضارات من على وجه البسيطة. وحين نتذكر مثل هذا الأمر فأننا نقيّم مايقوم به المسلم الورع الذي يلتقط القصاصات الورقية الصغيرة التي كتبت عليها كلمات ومن ثم يحافظ عليها بكل أهتمام لأن أية قصاصة ورق ربما تحمل بالصدفة أسم (الله) ، ومثل هذا المثل الأعلى يتسم بأهمية بالغة بحيث يتعين عدم أهماله أو فقدانه. في هذا السياق لابد أن نخلص الى أن (الأدب هو تعبير الحياة ….).

https://www.thoughtco.com/the-meaning-of-literature-738096

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here