فتن الفقهاء،

الدكتور صالح احمد الورداني
——-
أحدثت فتن الفقهاء و أصحاب المذاهب الكثير من الاضطرابات والبلبلة في وسط المسلمين..
وأدت في أحيان كثيرة الى إراقة الدماء وخراب الممتلكات وضياع الأموال..
وهو ما رصدته لنا العديد من المصادر..
ومن أشهر الحنابلة اصحاب الفتن البربهاري (ت329ه) ..
قال عنه الذهبي في تاريخه سنة ثلاثين وثلاثمائة : وفيها توفي البريهاري أبو محمد الحسن بن علي الفقيه القدوة شيخ الحنابلة بالعراق ، وكان له صيت عظيم وحرمة تامة أخذ عن المروزي وصحب سهل بن عبد الله التستري وصنف التصانيف وكان المخالفون يغلظون قلب الدولة عليه فقبض على جماعة من أصحابه واستتر هو في سنة إحدى وعشرين..
ثم تغيرت الدولة وزادت حرمة البربهاري، ثم سعت المبتدعة به فنودي بأمر الراضي بالله في بغداد لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري فاختفى إلى أن مات في رجب..
وفتن الفقهاء لا تتسع لها مجلدات إلا اننا سوف نعرض هنا لصور منها كنماذج :
جاء في الكامل في التأريخ لابن الأثير حوادث سنة عشر وثلاثمائة :وفي هذه السنة توفّي محمّد بن جرير الطبريُّ، صاحب التاريخ، ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ودفن ليلاً بداره، لأنّ العامّة – الحنابلة- اجتمعت، ومنعت من دفنه نهاراً، وادعو عليه الرفض، ثمّ ادعوا عليه الإلحاد..
ولذلك سبَب، وهو أنّ الطبريّ جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء، لم يصنف مثله، ولم يذكر فيه أحمد بن حَنبَل..
فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيهاً، وإنّما كان محدّثاً، فاشتدّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه..
وذكر في حوادث سنة سبع عشرة وثلاثمائة كما جاء في جاء في تاريخ الاسلام للذهبي والمختصر في اخبلر لبشر وتاريخ الخلفاء للسيوطي وغيرها :وفيها وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المَرْوَزيّ الحَنبليّ وبين غيرهم من العامّة..
ودخل كثير من الجند فيها، وسبب ذلك أنّ أصحاب المَرْوَزيّ قالوا في تفسير قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) الاسراء:هو أنّ الله سبحانه يُقعد النبيَّ، (ص)، معه على العرش..
وقالت الطائفة الأخرى: إنّما هو الشفاعة، فوقعت الفتنة واقتتلوا، فقُتل بينهم قتلى كثيرة..
وجاء في المنتظم حوادث سنة سبع وأربعين وأربعمائة: وقعت بين الحنابلة والأشاعرة فتنة عظيمة حتى تأخر الأشاعرة عن الجمعات خوفاً من الحنابلة..
وذكر ابن الاثير في حوادث سنة تسع وستين وأربعمائة: في هذه السنة ورد بغداد أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجاً، وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس، وفي رباط شيخ الشيوخ، وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب الأشعري، ونصره، وكثر أتباعه والمتعصبون له، وقصد خصومه من الحنابلة، ومن تبعهم، سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة.
وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة..
وذكر في حوادث سنة خمس وسبعين وأربعمائة ذكر الفتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلة: ورد إلى بغداد، هذه السنة، الشريف أبو القاسم البكري، المغربي، الواعظ، وكان أشعري المذهب، وكان قد قصد نظام الملك، فأحبه ومال إليه، وسيره إلى بغداد، وأجرى عليه الجراية الوافرة، فوعظ بالمدرسة النظامية، وكان يذكر الحنابلة ويعيبهم..
وجرى له معهم خصومات وفتن..
وذكر في حوادث سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ذكر الفتنة بنيسابور:في هذه السنة، وقعت الفتنة بها بين الكرامية وسائر الطوائف من أهلها، فقتل بينهم قتلى كثيرة..
فكان الظفر للشافعية والحنفية على الكرامية، فخربت مدارسهم، وقتل كثير منهم ومن غيرهم، وكانت فتنة عظيمة..
وذكروفي حوادث سنة خمس وتسعين وخمسمائة ذكر الفتنة بفيروزكوه من خراسان:في هذه السنة كانت فتنة عظيمة بعسكر غياث الدين، ملك الغور وغزنة، وهو بفيروزكوه، عمت الرعية والملوك والأمراء، وسببها أن الفخر محمد بن عمر بن الحسين الرازي، الإمام المشهور، الفقيه الشافعي، كان قدم إلى غياث الدين واحترمه، وبالغ في إكرامه، وبنى له مدرسة بهراة ، فقصده الفقهاء من البلاد، فعظم ذلك على الكرامية فكرهوه..
وذم الفخر، ونسب إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة..
وامتلأ البلد فتنة، وكادوا يقتتلون، يجري ما يهلك فيه خلق كثير، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعة من عنده إلى الناس وسكنهم، ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم، وتقدم إليه بالعود إلى هراة، فعاد إليها..
والكرامية نسبة لمحمد بن كرام (ت 255ه)
قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية : محمد بن كرام الذي تنسب إليه الفرقة الكرامية وقد نسب إليه جواز وضع الأحاديث على الرسول وأصحابه..
كان يجلس للوعظ عند العمود الذي عند مشهد عيسى عليه السلام واجتمع عليه خلق كثير ثم تبين لهم أنه يقول إن الأيمان قول بلا عمل فتركه أهلها ونفاه متوليها إلى غور زغر فمات بها ونقل إلى بيت المقدس
وذكر ابن الاثير في حوادث سنة خمس وتسعين وخمسمائة :وفيها وقعت قتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي فذكر يوما شيئا من العقائد فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم والأمير صارم الدين برغش فعقد له مجلسا فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه..
واجتمع بقية الفقهاء عليه وألزموه بالزامات شنيعة لم يلتزمها ،حتى قال له الأمير برغش كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق، قال نعم..
فغضب الامير وامر بنفيه من البلد فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره وأرسل برغش بالاسارى من القلعة فكسروا منبر الحنابلة وتعطلت يومئذ صلاة الظهر في محراب الحنابلة واخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك وجرت خبطة شديدة نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن..
وجاء في السلوك لمعرفة دول الملوك حوادث سنةفي سنة خمس وسبعمائة: فيها قام شمس الدين محمد بن عدلان بالقاهرة، وأنكر على تقي لدين أحمد بن تيمية فتوى رآها قي مسالة الاستواء ومسألة خلق القرآن، واجتمع بالقضاة في لنائب آل الأمر فيه إلى أن كتب ابن تيمية خطه وأشهد عليه إنه شافعي المذهب يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، وانه أشعري الاعتقاد..
فنودي بدمشق من ذكر عقيدة ابن تيمية شنق..
وفي محيط الشيعة جرت العديد من الفتن بين فقهاء الإخباريين وفقهاء الأصوليين..
وبين فقهاء الأصولية وبعضهم..
قال الشيخ علي كاشف الغطاء في كتابه تطور علم الفقه عن الإخباريين: وعمدة من نقح طريقتهم المذكورة الميرزا محمد أمين الاسترابادي في فوائده المدنية ومن مشاهير علمائهم السيد نعمة الله الجزائري ويوسف البحراني صاحب الحدائق ..
وقويت هذه الطريقة في القرن الحادي عشر الهجري و الثاني عشر و أوائل الثالث عشر ولكن الطريقة الأصولية تغلبت عليها بمواقف الوحيد البهبهاني المتوفي سنة 1208هـ . .
وقال محقق كتاب أمل الآمل للحر العاملي (ت 1104 ه) الإخباري في مقدمته : وكان أشد الاخباريين شناعة على الاصوليين وأطولهم لسانا في التشنيع عليهم هو صاحب كتاب (الفوائد المدنية) الميرزا محمد أمين الاسترابادي المتوفى سنة 1021 ه‍، فانه كتب في كتابه المذكور فصولا طويلة حول الانتصار للمذهب الاخباري والتشنيع على المذهب الاصولي وكان الاثر البالغ في تنمية البغضاء في النفوس، بل تكفير كل فرقة الفرقة الاخرى..
والإخبارية تيار يرفض الاجتهاد ويعتمد على روايات أهل البيت..
ويوجه النقد الشديد للأصوليين..
وقد ادى هذا بفقهاء الأصولية الى إصدار فتوى بجواز إراقة دم فقهاء الإخباريين..
وتم قتل محمد بن عبد النبي المحدث الاسترابادى المعروف بالميرزا محمد الاخباري المقتول سنة 1232ه..
وتم قتله مع بعض تلاميذه واتلاف مكتبته وتشريد أسرته..
وصرح بقتله المرجع كمال الحيدري في أحد محاضراته كما جاء في دائرة المعارف الاسلامية الكبرى مادة الأخباريون..
وافتى الشيخ وحيد البهباني بعدم جواز الصلاة خلف الشيخ يوسف البحراني..
وفي فترة السبعينيات حدث صدام بين الفقهاء والمرجع الراحل محمد باقر الصدر..
ثم وقع الصدام بين الفقهاء والمرجع الراحل فضل الله وصدرت الفتاوى بكفره..
واصطدم التيار الشيرازي بتيار الخميني وأعلن الحرب على الجمهورية الإسلامية..
واصطدم بالفقهاء المخالفين وأتباعهم..
وأحدث العديد من الفتن في الوسط الشيعي..
وأظهر اللعن والسب في مواجهة السنة..
وبعيدا عن بصمة السياسة ودور الحكام في هذه الفتن يبقى الدافع الأساس لها هو الخلط بين الثوابت وغير الثوابت..
واعتبار أصول المذهب هى أصول الدين..
والخارج عليها أو الناقد لها في عداد الكافرين المنبوذين..
وإراقة الدماء وإثارة الفتن من أجل هذه الأمور يدل دلالة قاطعة على أن هؤلاء الفقهاء يعيشون في غيبوبة عن حقيقة الدين وأهدافه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here