بعضا من ايام الدراسه الجامعيه

تعد الدراسه الجامعيه مرحله متقدمه فى الحصول على المعرفه, مناهجها واساليبها وحقولها, بالاضافه الى الاعداد الاولى للتخصص المهنى والذى يمكن ان يتسع ويعمق فى الحصول على تخصصات دقيقه, هذا بالاضافه الى امكانية تطور الوعى الذاتى والالتزام والمسؤليه الاجتماعيه. كنت فى منتصف الستينات ادرس فى احد جامعات المانيه الغربيه,” جامعة الرور- بوخوم, Ruhr Universität-Bochum” وكما هو معرف فان منطقة الرور كانت منذ بدايات الثوره الصناعيه مركزا رئيسيا لصناعات الفولاذ والمناجم والصناعات التحويليه. ان هذه الهيكليه قد تغيرت بقوة وبسرعة كبيره منذ وفرة البترول, خاصة النفط العربى واسعاره المنافسه وسهولة وصوله وامكانياته كماده تحمل الطاقه والعديد من المواد الاوليه لقيام صناعات كيمياويه بالاضافه الى خلق فرص عمل لمئات الالاف, تعويضا عن فرص العمل فى مناجم استخراج الفحم التى تم ايقاف العمل فيها تدريجبا ولكن بخطط مدروسه. كانت الستينات والسبعينات عامرة بالحراك الشعبى والمعرفى, فقد كانت سنين حكم المستشار اديناور ” محافظ, كاثوليكى وضد الشيوعيه” قد حققت تطور اقتصادى والقوه الشرائيه,و تحسين الاوضاع المعيشيه ….الخ الا انه لم يقدم بديلا فكريا وتنظيما جديدا وانما اعادة الماضى بصورة جديده قى اطار الارتباط بالغرب والمصالحه مع الصهيونيه العالميه واسرائيل. ان الاحزاب المسيحيه المحافظه وحزب الراسماليه, الديمقراطيين الاحرار FDP, لم يعيروا اهتماما, فكريا ووظيفيا كافيا بالتغيرات المجتمعيه ما بعد الحرب, من ان تحسين الوضع المعيشى وامتلاك سيارة الفلكس واغن, بالاضافه الى انطلاق السياحه الجماهيريه نحو ايطاليا واسبانيا…الخ تعتبر انجازات كبيره وقاعدة متينة للسلام المجتمعى. فى المقابل فان تسليح المانيا وتكوين جيش اتحادى واستمرار شخصيات من النظام النازى فى الوظائف والمناصب الكبيره كانت دائما موضع تساؤلات وصراع من قبل قاعدة واسعه من المثقفين فى اطار الديمقراطيه, من ناحية اخرى فان جيل الشباب الذين لم يعيشوا سنين الحرب وهم الان طلبه فى الجامعات واداريين وفنيين فى قطاعات الدوله والحقول الاقتصاديه, هؤلاء الذين تمتعوا بفضاءات من الحريه والسفر والتعرف على شعوب وثقافات اخرى طالبوا اولا باصلاح نظام الجامعه الذى استمر كما كان عليه سابقا, من ناحية هيكله التنظمى وكوادره العلميه وبنفس الوقت تطورت لجان طلابيه تدرس التاريخ الالمان ولماذا وكيف حصل النازيون على الحكم وما هو موقف الاباء والامهات اولا ثم ما هى مساهمة المسؤلين ومدى مشاركتهم وتايدهم لجرائم الحزب النازى. فى هذا الاطار نشطت فى اجواء الجامعات حركة نقديه والتى اخذت تعرف بـ ” اعادة كتابة

التاريخ” والتى تطورت مع مشروع الاصلاح الجامعى الذى استمرت الاجتماعات والنقاشات حوله سنين طويله تبلورت حركة الطلبه واخذت ابعادا سياسيه محلية وعالميه, خاصة مع ما تطورت حركةالاحتجاج فى كبريات الجامعات الامريكيه وفى العالم الغربى والليابان بما عرفت بـ ” حركة الشباب والاحتجاج العالمى” التى اخذت تنشط بشكل خاص ضد الحرب الامريكيه فى فيتنام, ضد الاستعمار ومتضامنه مع قضايا “العالم الثالث”. كان اتحاد الطلبه فى الجامعه يرعى مصالح الطلبه وينظم العلاقه مع رئاسة الجامعه وكان له مقعد يتمتع بقرار التصويت والرفض فى رئاسة الجامعه والكليات وكانت له لجان داخلية تقوم بمختلف انواع النشاطات العلميه والاجتماعية, وكان يصدر جريدة اسبوعيه بـ 3000 نسخه و بـ 8 صفحات توزع على الطلبه مجانا وكذلك على عدد من الثانويات. كنت ضمن قريق لجنىة الطلبه لمدة سنتين وكنت احد اعضاء هيئة التحرير, كانت الجريده وسيلة للتعريف بموقف اللجنه الطلابيه من ما يحصل فى الجامعه بالاضافه الى سياسه حكومة الاقليم والحكومه الاتحاديه,وكانت تصلنا مقالات ومساهمات من االطلبه تحضى بالنشر ولاهتمام . كان الزميل “كلاوس دلمان” وانا بعد ان نجمع وننظم المحتويات نقصد المطبعه فى مركز المدينه. فى احد الاسابيع كان الزميل كلاوس مشغولا مع عامل المطبعه وكنت مشغولا بامر اخر, واذا ياتى كلاوس ليخبرنى هناك نقص فى المادة وبحاجه مقاله, عمود لتكتمل الجريده.

كانت الدوله ووسائل الاتصال الجماهيريه والاذاعه والتلفزيون يبثون الاخبار بشكل متواصل ومع نشرات الاخبار التى تبث كل ساعة. ان القضيه تتعلق باختطاف سفير المانيا الغربيه فى احد دول امريكا اللاتينيه من قبل احد حركات التحررالتى تأخذ باسلوب حرب العصابات. مضت يومين على الاختطاف دون ان يعلن المختطفون الاسباب وشروط الافراج عن السفير الالمانى. لقد تبلور رأى عام يرفض ويندد بالعمليه واستخدام القوة, الارهاب والعنف لتحقيق مطاليب سياسيه, خاصة ان المانيا تعتبر نفسها بعيدة عن الاستعمار والعدوان وليس لها نوايا عدائيه مع قضايا العالم الثالث. ان رأى انسان الشارع والسياسى العتيد والمثقف المعروف قد اتفقوا جميعا على ان قضية الاختطاف لاحد مرتكزات السياده تمثل اهانه كبيره لالمانيه وانتهاك للمواثيق الدوليه. ان هذا الراى العام, العاطفى والمنفعل اصبح طاغيا وقمع اى رأى مخالف ينظر الى القضيه من واجهة اخرى. كنت اتالم كثيرا عما يحيط بى وما اسمعه , خاصة امامى واعيش مع الرأى العام حول القضيه الفلسطينيه والفلسطينين ومع مختلف الطروحات والتواريخ والتسميات التى يتعامل بها حتى المثقفين دون اعتبار للحقائق التاريخيه. بعد يومين قدمت الحركه شروطها لاطلاق سراح السفير والتى كانت تؤكد على اطلاق سراح عدد من رفاقهم المسجونين والمعتقلين منذ بضعة سنين دون محاكمه وحددت للاستجابه بضعة ايام, الا ان شيئا لم يحصل, واعطت الحركه مدة ثانيه ولم يحصل شيئا, واخيرا نفذوا حكم الاعدام بالسفير. هذا الحكم اقام الدنيا ولم يعيدها الى الهدؤ ثانية. لقد

تسربت اخبار فى ” النيويورك تايمس” من ان السفير الالمانى كان عميلا لدى الـ ” السى اى اه-CIA ” وكان يقوم بتحريات عن الحركه واعضائها لحساب المخابرات الامريكيه.

كان زميلى مشغولا بامور فنيه وطلب منى الكتابه, والحقيقه فقد كنت مهيأ نفسيا لطرح وجهة نظر اخرى حول موضوع الساعه وبدأ الكتابه مباشرة. فى البدايه اشرت الى الصعوبات الكبيره لعمليات التحرر فى العالم الثالث, خاصة وانها لاتقاوم حكوماتها المحليه وانما ايضا حكومات الجوار التى لا تبخل فى تقديم العون والمشوره للقضاء على الحركه, وليس بعيدا ان تتدخل قوى عالميه بمختلف الاشكال. ان الشعوب تقوم بتطوير اساليب النضال والمقاومه بشكل مستمر مستفيدة من تجربتها التاريخيه وتجربة شعوب اخرى, انها ملزمه بتطوير اساليب جديده تتعامل مع سرعة التطورات العالميه والمصالح المشتركه, انها ملزمه وفى احيان كثيره فى استخدام العنف لتحقيق اهداف اوليه تعتبر مهمه جدا للحركه وضمان تماسكها الداخلى. لقد اشرت ايضا ان اوربا والغرب بشكل عام يستخدم عدة معايير لقضية واحده فى مواقع مختلفة من العالم وفقا لمصالحها المباشره والمستقبليه, وعلية فأنه من الصعوبه بمكان ان نقوم بتجريم حركة التحرر, المختطفين دون الوقوف على الاسباب التى فرضت عليهم حمل السلاح اصلا.

بعد منتصف الليل تمت طباعة الجريده وتوجهنا نحو الجامعه وفى الصباح قمنا بتوزيعها على الكليات وبشكل خاص فى مطعم الكليه” المنزا” الذى يقصده حوالى 1500 طالب وكذلك عدد كبير من الاساتذه والاداريين. لقد وضع كلاوس المقاله كـ ” المقال الافتتاحى” الذى شغل عمودا كاملا ولم يشير الى كاتب المقاله, ان المقاله اثارت الغضب والاحتجاج والاستنكار وفجرت اجواءا للنقاش , تبادل الراى والاتهام. كان صدى المقاله جديرا بالاهتمام, حيث فتح المجال والنوافذ لوجهات نظر اخرى اخذ تنتقد وتستنكر بشدة ارتباط السفير بالمخابرات المركزيه الامريكيه, جماعات اخرى انتقدت هذا التحشيد الاعلامى دون وضع تساؤلات حول الموضوع وعن اسباب الاختطاف وليس اخير فان الطلبه وعدد من الاساتذه والاداريين يتركوا المطعم مباشرة, ابدوا اهتماما بما يحصل من تجمع ونقاشات وجلسوا على غير المعتاد فترة طويله. كان هذا اليوم يوما حافلا لبوادر من عملية وعى وتنوير ونقاش, وتوزعت الجريدة بسرعه واضطررنا ان نعيد الطباعه لـ 2000 نسخه لان عدد من الثانويات ابدوا رغبتهم فى توزيعها فى مدارسهم. فى الاسبوع اللاحق اصدرنا العدد الجديد ونشرنا عددا من رسائل القراء بما فيها الناقده المستنكره والمؤيده الواعيه.

بعد حوالى 4 اشهر وصلت لكل اعضاء هيئة التحرير دعوة قضائيه تتهمنا بالتحريض على العنف وتأيد الارهاب بما يخالف قوانين واعراف الدوله والمجتمع ولا يتناسق مع قواعد القانون الدستورى. ان اى قرار حكم يمكن ان يصدر من المحكمه ضدى يجعل اقامتى فى المانيا غير ممكنه وبذلك يمكن نرحيلى الى العراق, وهذا قرار يمكن ان يجعلنى من الارهابين او ما شاكل ذلك وبذلك فان الحياة والوجود فى خطر كبير . لقد اجتمعت هيئة

تحرير اللجريده واتخذت قرارا يبعدنى عن القضيه. فعلا, فى يوم المرافعه حيث رافقنا اكثر من 150 طالب قدم رئيس الاتحاد بعزل الدعوه, الاتهام ضدى معللا ذلك بأنى كنت مكلف فى الحصول على الاعلانات لتمويل الجريده ولا علاقة له بسياستها. لقد تم موافقه المحكمه وانتهيت من القضيه. اما عن الزملاء الالمان فقد تبنى احد كبار المحامين القضيه التى انتهت بحكم غرامه 200 مارك لكل محرر على ان تقدم تبرعا للاعمال الخيريه. كانت هذه القضيه تجربه مهمه جدا بالنسبه لى اعتز بها كثيرا وتعرفت مباشره على مسلمة التضامن والمسؤليه المشتركه مع الاصدقاء الالمان وقدرة الوعى فى الوقوف وتجاوز الامور الصعبه.

دكتور حامد السهيل 2 2020 . 3 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here