الأستمتاع بالقصة القصيرة

ترجمة: هاشم كاطع لازم – أستاذ مساعد – كلية شط العرب الجامعة – البصرة

ماذا تعني القصة القصيرة؟ من الواضح تماما أنها تدل على قصة تمتاز بقصرها. لكن ماالمقصود بمفردة(قصيرة)؟ هل هي القصة التي تبلغ عشر صفحات؟ عشرين صفحة؟ ستين صفحة؟ أو مائة صفحة؟ ماأقصى حد تتوقف عنده القصة القصيرة ومن ثم يبدأ بعدها الجنس الأدبي الموسوم الرواية القصيرة novella. الواقع لاأحد يعرف ذلك أو على نحو أدق لايوجد أجماع على مثل هذا التحديد حيث أن الأمر يعتمد على القطعة الأدبية ونية الكاتب فضلا عن رأي القاريء.

مع ذلك هناك بعض الصفات التي يمكن أن تميز القصة القصيرة:

· أولا يمكن قراءة القصة القصيرة في جلسة واحدة ، ربما تكون جلسة طويلة ، في بعض الأحيان، وهي ليست من نمط الأدب الذي نمضي فيه الوقت للتسلية فحسب ونحن نمضي في رحلة طويلة.

· ثانيا تمتاز القصة القصيرة بتركيزها على نقطة محددة لكونها تستقطب أهتمام القراء للتركيز على جانب حياتي معين.

· ثالثا ، تهدف القصة القصيرة الى التسلية أو أنها تقدم للقاريء درسا عن الحياة ، وعادة مايتحقق الهدفان في الوقت ذاته.

ولأن القصص القصيرة تكتب أستنادا الى تركيز محدد في الذهن فأنها تميل الى أستخدام أساليب خاصة. لكن لاتوجد هناك ثمة قواعد تميز الأساليب المعتمدة في كتابة القصة القصيرة عن تلك المتبعة في كتابة الرواية لأن الأمر يعتمد على طبيعة القصة القصيرة.

لنسلط الضوء الآن على بعض أنماط القصة القصيرة:

القصص القصيرة التي تتحكم بها الحبكة

أرتبطت بواكير القصة القصيرة على نحو وثيق ب (الحكايات الشعبية) أو (حكايات الجن) الأولى حيث لاقت جمهورا واسعا لكونها قصيرة ومسلية ومذهلة ووجدانية. بعد ذلك بدأت تلك القصص بالأتساع التدريجي لتشمل المغامرات والأساطير والقطع الأدبية الخاصة بالرحلات التي تتناول غالبا الأماكن البعيدة ذات الأسماء غير المالوفة. وقد (رويت) تلك الحكايات بضمير الشخص الثالث ، أما شخصياتها فهي تماثل الى حد ما تلك الشخصيات الموجودة في حكايات الجن ، فهي ليست بتلك الشخصيات الممتعة بذاتها غير أن الكتاب يضعونها في أماكن معينة ويجعلونها تقوم بأحداث تمتع من يقرأها وهذا يجعلها تعلق الأهمية على الحبكة plot وهي سلسلة الأحداث في القصة.

ومثالا على هيمنة الحبكة على القصة يمكن قراءة قصة واشنطن أيرفنك Washington Irving الموسومة (أسطورة الغور الهاديء) The Legend of Sleepy Hollow وهي حكاية تدور حول معلم

يقع في غرام فتاة محلية يطارده خارج المدينة فارس قاتل دون رأس! وكانت مثل تلك القصص بمثابة كوميديا المأزق1 التي كان يعرضها التلفزيون في حينه.

القصص القصيرة الفنية

ينظر مؤلفون الى القصة القصيرة بأعتبارها شكلا فنيا لايهدف الى التسلية فحسب. في هذا الشأن يرى أدغار ألن بو Edgar Allan Poe (1809 – 1849) أن القصة القصيرة توفر فرصة فريدة لتركيز سائر عناصر الكتابة لخلق (أنطباع واحد) لدى القاريء. وقد تمكن بو من خلال أستخدام هذا الأسلوب من أستحداث قصة الرعب الحديثة بجهوده الفردية تقريبا. وقد دأب روائيون مثل ماري شيللي Mary Shelly في روايتها (فرانكنشتاين) Frankenstein ، من قبل ، على أستخدام الرعب للترويج للأدب. غير أن بو عمد الى تقليص الرعب القوطي2 وجعله يقتصر على أساسياته فحسب من خلال تركيزه ضمن مساحة قصيرة لقصة واحدة حيث يعكف القاريء على قراءتها في جلسة واحدة. كما أبتدع بو منجم ذهب للكتاب من خلال أستحداث (القصة الغامضة) mystery story ، فقصتة القصيرة الموسومة (الرسالة المسروقة) Purloined Letter تهدف الى أنجاز شيء واحد من خلال تقديم لغز للقاريء ومن ثم يفلح بوليس سري في حله. وقد تحولت القصة الغامضة منذ زمن بعيد الى الرواية الغامضة حيث راجت رواجا كبيرا رغم أنها ماتزال تحمل بصمة بو.

القصص القصيرة الأخلاقية

لاتوفر سائر القصص القصيرة المتعة لقراءها حيث ان البعض منها ينطوي على مايماثل صفعة منشطة في الوجه ففي عام 1843 كتب تشارلز ديكنز Charkes Dickens مثل هذه القصة بصيغة قصة أشباح تدور أثناء الأحتفال بعيد الميلاد في أنكلترا. ورغم أن عدد صفحات هذه القصة يصل الى نحو 100 وهي بذلك تحمل ملامح الرواية القصيرة فأنها في الوقت ذاته تحقق متطلبات القصة القصيرة حيث يمكن قراءتها بجلسة واحدة وتركز على موضوع أساسي واحد هو (مصير أبينيزر سكروج في عيد الميلاد). وهذه القصة تطرح درسا أخلاقيا وتوفر المتعة في الوقت ذاته. ترى هل ينسى من قرأ هذه القصة أو شاهدها الشخصيات التي ابتدعها ديكنز في القصة؟ وهل ننسى الدرس الأخلاقي الذي تعلمه سكروج كثيرا؟ في مستهل القصة يبدو سكروج شخصا تعيسا وبخيلا تحدوه الرغبة بأن (يتم حرق أي أحمق يتنقل من مكان الى آخر وعلى شفتيه عبارة (عيد ميلاد بهيج …). أما في النهاية فيحصل تحول واضح:

أصبح سكروج صديقا مقربا ومعلما قديرا ورجلا فاضلا مثلما تعرف المدينة القديمة الطيبة

أو أية مدينة أو بلدة أو قصبة قديمة طيبة في العالم القديم الطيب….وفد عرف عنه تعاطيه

المتميز مع عيد الميلاد . وكم أتمنى لوأن مثل ذلك قد قيل عنا جميعا بصدق!

أن الدرس الأخلاقي واضح تماما في هذا المقطع ونادرا مانقرأ درسا أخلاقيا يضاهيه قوة في نص قصصي آخر.

قصص المصيدة

تخصص بعض كتاب القصة بما يعرف ب (قصة المصيدة) mousetrap وهي قصة تنتهي بأنعطافة أو تطور غير متوقع الى حد بعيد يكون مفاجئا وملغزا في الغالب. أضف الى ذلك تتحكم الحبكة بهذا النمط القصصي ، غير أن الكاتب يستخدم الحبكة لأجتذاب القاريء. وأذا قرأنا أو شاهدنا قصص رولد دال Roald Dahl فأننا سوف نتلمس ماذا يعني الوقوع في مثل هذه (المصيدة). والكاتبان البارزان لمثل هذا النمط من الفن القصصي هما ساكي (أج أج مونرو) Saki (H. H. Munro) في بريطانيا و أو هنري (دبليو أس بورتر) O’Henry (W.S. Porter) في الولايات المتحدة. ففي قصة ساكي الموسومة (النافذة المفتوحة) The Open Window نقرأ عن رجل يعاني من أنهيار عصبي يرى على أثره أشباحا ومن ثم …. (للأسف ، لايمكنني أخبارك). وفي قصة الكاتب أو هنري الموسومة (هدية المجوسى) The Gift of the Magi يعمد شابان متزوجان حديثا الى التضحية بما يحبانه حبا جما ليقدما لشخص أخر هدية عيد ميلاد فاخرة وبعدها …. (للأسف لايمكنني أخبارك عن ذلك أيضا!).

القصص القصيرة الحديثة

قبيل أندلاع الحرب العالمية الأولى أحدث كتّاب الحداثة ثورة قي مجال كتابة القصة القصيرة فقد أتجهوا لأستخدام أشكال جديدة وتجريبية كما تبنوا مواضيع مروعة. وبدلا من تحكم الحبكة بمجرى القصة ووجود بداية ووسط ونهاية لها بدا النمط الجديد من القصة القصيرة يأخذ شكل (جانب من جوانب الحياة) ، ولم يعد هناك ثمة فعل واضح أو طرح درس أخلاقي أو حصول تحول في نهايتها. وتقدم قصة أرنست هيمنغوي Ernest Hemingway الموسومة (تلال مثل فيلة بيضاء) Hills Like White Elephants مثالا على مثل هذا التوجه فحدث القصة بأكمله يتمحور حول رجل وأمرأة ينتظران قطارا ويتبادلان حديثا مقتضبا جدا بحيث يحتاج القاريء الى تركيز كبير ليتسنى له فهم مايدور بينهما حيث تتبين للقاريء قصة حب وخيانة مثيرة للمشاعر. وقد غدا مثل هذا الأمر جانبا جوهريا للحداثة قوامه السعي الحثيث لأجتذاب القراء الى القصة من خلال تحفيزهم لتفسيرها ، وهكذا أصبحت القصة القصيرة تمثل تحديا للقراء من خلال التفكير المعمق وأعادة دراسة الأفكار والمعتقدات.

التعامل مع القصة القصيرة

يمكن على وجه العموم تطبيق أساليب التحليل الأدبي ذاتها التي تستخدم في النقد الروائي على القصة القصيرة. مع ذلك هناك طرق محددة ذات صلة بالقصة القصيرة لوحدها. في أدناها أستعراض لتلك الأساليب وكيفية تطبيقها:

الحبكة

تشير الحبكة الى الحدث الذي تشهده القصة وهي تدور حول صراع واحد أو أزمة واحدة. وهذا التركيز المحكم يجتذب أهتمام القاريء ، لذا لاتوجد فسحة للحبكات الفرعية sub-plots مثلما هو متعارف عليه في الفن الروائي. وتتحكم الحبكة بغالبية القصص القصيرة مثل (أسطورة التجويف الناعس) The

Legend of the Sleepy Hollow و(هدية المجوسي) The Gift of the Magi. وتمتلك مثل هذه القصص بنية نموذجية:

1. الأستهلال: ويقصد به التعريف بالشخصيات والصراع.

2. التعقيد: يؤدي الحدث الى خلق موقف معقد بشكل مضطرد يؤدي بدوره الى تزايد التوتر.

3. الذروة: هي أعلى نقطة نصل اليها حيث يبلغ الصراع أقصى مداه.

4. الحل: يتم التوصل الى حل ما حيث يعود التوتر الى الوضع الطبيعي ، وهذه هي البنية الدرامية ذاتها التي نواجهها في مسرحية ما أو فلم وللسبب ذاته. ولابد أن تجري الأمور بسرعة في جلسة واحدة أو ضمن عدة ساعات في المسرح.

الشخصيات

تضم القصة القصيرة في العادة شخصية واحدة رئيسية أو شخصيتين رئيسيتين وعدد من الشخصيات الثانوية التي تتفاعل معها الشخصية الرئيسية. وتمر الشخصية الرئيسية (البطل) the protagonist ببعض التحول أما الشخصية الثانوية قتتسم ب(الرتابة) و (ثنائية الأبعاد). وفي المسرح يتم أحياء هذه الشخصيات من جانب الممثلين الذين يجسدون نلك الشخصيات ، أما في القصة القصيرة فأن هذه الشخصيات تمنح السمات البسيطة التي تحتاجها لتنفيذ مهمتها المحددة لها في الحبكة. وهذه بالطبع ليست مهمة سهلة حيث أن مثل هذا الأمر يحتاج الى كاتب متمكن مثل تشارلز ديكنز لخلق عدد من الشخصيات التي تأسر أهتمام القاريء ضمن المساحة المحددة للقصة القصيرة. ومع أنطلاق الحداثة Modernism اصبح خلق الشخصيات في القصة القصيرة أمرا مهما حيث تعزز التوجه نحو تكثيف الكثير من المعنى في مساحة ضيقة.

البيئة

للقصة القصيرة عموما بيئة setting واحدة فحسب لذات السبب الذي تحتوي بموجبه القصة على شخصية رئيسية واحدة فحسب: التركيز والمساحة المتاحة. وعلى خلاف الرواية فأن بيئة القصة القصيرة ربما تكون أهم عنصر منفرد فيها ، فعلى سبيل المثال تعمد فرجينيا وولف Virginia Woolf في قصتها الحديثة الموسومة (حدائق كيو) Kew Gardens الى الأستغناء تماما عن الحبكة والشخصيات الرئيسية حيث يتجسد الوسط الذي تجري فيه الأحداث في متنزه هو (حدائق كيو) في لندن والتي يتمشى فيها مجموعة من الأشخاص.

وجهة النظر

تكتب غالبية القصص القصيرة من وجهة نظر الشخصية كلية العلم omniscient أو الشخص الثالث (المخبر). ويعود سبب ذلك الى أن المؤلف يجد نفسه قادرا على نقل كم كبير من المعلومات بسرعة الى القاريء ، وهو أمر (حتمي) في الأدب القصصي. وأحيانا يتم اللجوء الى وجهة نظر الشخص المتكلم (أنا)

توخيا لأحداث نأثير كبير مثلما يتضح في قصة بو القصيرة الموسومة (القلب النمام) The Tell-Tale Heart التي تبدا بالكلمات الآتية:

حقا! عصبي– لقد كنت عصبيا الى حدلايوصف وماأزال كذلك. لكن لماذا تقول بأنني مجنون؟

هنا نلاحظ نقل كم هائل من المعلومات في مساحة محدودة للغاية.

الموضوع

الموضوع يدل غلى فكرة أو مجموعة من الأفكار تدور حولها قصة ما. وعلى خلاف الرواية تتمحور القصة القصيرة على وجه العموم حول موضوع واحد مثلما هو حال القصيدة الشعرية. واذا كان هدف القصة القصيرة الرئيسي هو المتعة مثل (قصة المصيدة) فأن الموضوع عندئذ ربما يكون ذا أهمية ثانوية فحسب. على ان غالبية القصص القصيرة لاترمي الى أشاعة المتعة فحسب فهي تسعى الى تسليط الضوء على بعض أكثر المسائل أهمية ذات الصلة بالوجود الأنساني. وحين نقرأ قصة قصيرة يتعين علينا أن نسأل أنفسنا عن نية المؤلف من وراء كتابتها أذ لابد من وجود سبب معين: (ماذا تريد تلك القصص أن تخبرنا؟)

أذا تمكنت من التوصل الى أجابة لمثل هذا السؤال فأنك سوف تتوصل الى الموضوع وفق تفسيرك الخاص له.

—————————————————————————————————

1 مسرحية هزلية تكثر فيها المواقف الحرجة المضحكة. (المترجم)

2 ضرب من الرواية يتميز بأجواء الرعب والغموض.(المترجم)

https://trackssf.cappelendamm.no/ento/tekst.html?tid=2006478

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here