تاريخ تسرب الأفكار العَلمانية إلى كُردستان/ ج1

أ.د.فرست مرعي

العَلمانية ذلك المصطلح الذي أثار من الجدل والصراع منذ بداية القرن العشرين ما لم يثره مصطلح آخر في المجتمعات الاسلامية ؛ حتى غدت ثنائية العلماني والاسلامي أكثر الثنائيات تداولاً، وأعتاها تأبياً على التجاهل أوالتناسي، فضلاً عن الاهمال والتلاشي، والمجتمع الكردي أو بالاحرى كردستان لم تكن بدعاً في هذا المجال.

فكانت غالبية اراضي كردستان واقعة تحت حكم دولة الخلافة العثمانية، وكان يطلق عليها (كردستان العثمانية)، فيما كان الجزء الاصغر واقعاً تحت سيطرة الدولة القاجارية، ويطلق عليها(كردستان الايرانية).

وعندما بدأت الأفكار الاوروبية الحديثة الخاصة بالعلمانية والديمقرطية والقومية تصل تباعاً الى عاصمة الخلافة العثمانية(الاستانة – استانبول)، فلا غرو أن تأثر بها المثقفون الكرد من موظفين وضباط وطلاب المعاهد العالية، كما أن سيطرة جمعية الاتحاد والترقي على مقاليد الامور عام1908- 1909م وعزل السلطان عبد الحميد الثاني، والمناداة بالجنس التركي، كل ذلك أفضى الى تساؤل النخبة المثقفة الكردية وغيرها عن مدى شرعية هذه الدولة التي كانوا لا يزالون يعدونها دولة الخلافة التي يجب عليهم اطاعة أوامرها في حدود الشرع الاسلامي.

ويبدو جلياً ان أول جمعية كردية قد ظهرت في تلك الحقبة عام 1908م، في مدينة استنبول تحديداً، وهي: جمعية التعاون والترقي الكردية، التي كان جل اعضائها من أبناء رؤساء العشائر ومن المثقفين الكرد، وكانت مبادئها تجمع بين الاسلام والقومية، وقد بعث مؤسسوا الجمعية رسالة الى السفير البريطاني في استنبول تضمنت الاسباب التي دفعتهم الى تشكيل الجمعية، مطالبين منه اشعار حكومته بذلك ودعوتها الى تقديم العون والمساعدة للشعب الكردي لتحقيق أهدافهم.ومع ذلك فإنها كانت تتوقع مد يد العون من فرنسا في تلك الحقبة، لانهم كانوا متأثرين الى حد ما بالأفكار الديمقراطية لمبادىء الثورة الفرنسية (حرية – إخاء – مساواة) نتيجة العلاقات التاريخية بين الباب العالي والحكومة الفرنسية، واعتماد النظام القضائي العثماني على التشريعات الفرنسية والسويسرية بعد إقرار نظام الاصلاحات العثماني الذي أقر في منتصف القرن التاسع عشر إثر معاهدة كولخانه عام1839م، وخط همايون عام1956م؛ جراء ضغوط أوروبية بشأن كيفية التعامل مع الاقليات غير الاسلامية واعتبارهم مواطنين؛ كل ذلك مما زاد من جرعات المنتجات الحضارية غير الاسلامية في الساحتين السياسية والثقافية للمثقفين المسلمين العثمانيين من شتى الاعراق: التركية والعربية والكردية وغيرها.

وفي التاسع من شهر آب/ اغسطس 1912م قرر بعض الطلاب الكرد الدارسون في معهد(خلق ألي زراعي) وأكاديمية الطب في استنبول تأسيس جمعية (هيفي الكردية- أمل الكرد)، وكان لعائلة قدري جميل باشا الدياربكري(1892-1973م) الدور الأساسي في تأسيس هذه الجمعية التي كان لها دور أساسي في الحياة السياسية الكردية فيما بعد، وفي ايقاظ الشعور القومي الكردي. وعقدت الجمعية مؤتمرها الأول في مدينة لوزان السويسرية في عام1913م وانتخب فيها ممدوح سليم وانلي(1897-1976م) سكرتيراً للجمعية، والذي هاجم في كلمته الافتتاحية مواقف بعض رؤوساء العشائر الكردية تجاه القضية القومية، كما انتقد الدعوات المطالبة بعدم تدخل الشباب

الكردي في السياسة. وعلى الرغم من القيود التي فرضتها السلطات العثمانية على جمعية هيفي؛ إلا أن أعضائها قرروا مواصلة نشاطهم الثقافي والسياسي بهدف تعريف الشعوب العثمانية بالهوية الكردية، فأصدروا في نفس العام1913م مجلة (روزي كورد- شمس الكرد) التي كانت ذا اتجاه قومي وثقافي في آن واحد، حيث تناولت في اعدادها الصادرة طبيعة الحركة الكردية ونضال الشعب الكردي من أجل الحرية والاستقلال ضمن الدولة العثمانية، لا سيما بعد أن سمحت الحكومة العثمانية للقوميات غير التركية بالتعبير عن آرائها.

الى جانب هاتين الجمعيتين، تأسست في الرابع من تشرين الثاني 1913م في كردستان ايران وبالتحديد في مدينة خوي جمعية (جيهانداني- العالمية) من قبل عبدالرزاق بدرخان باشا ( 1864-1918م) هدفها نشر الجانب التعليمي والثقافي بين سكان المدينة، ويبدو أن السبب في تشكيل الجمعية خارج الاراضي العثمانية هو أن عبدالرزاق بدرخان كان ملاحقا من قبل السلطان العثماني عبدالحميد الثاني بتهمة العلاقة مع روسيا، وفيما بعد القت السلطات العثمانية القبض عليه سنة 1916م في مدينة رواندوز في كردستان العراق وحكمت عليه بالاعدام بتهمة التخابر مع دولة اجنبية (= روسيا القيصرية).

ومن الجدير بالذكر أن حزب خويبون (=الاستقلال) الذي يعتقد بأنه أول حزب كردي قومي ليبرالي تأسس عام 1927م في مدينة بحمدون اللبنانية، عبر توحيد أربعة منظمات كردية، بدعم أرمني وفرنسي، وكان من أبرز قادته الامراء من اسرة بدرخان باشا: جلادت بن أمين عالي بن بدرخان باشا (1892-1951م) وأخيه كاميران أمين عالي بدرخان(1895-1978م)، وبعض الشخصيات من أسرة قدري جميل باشا الدياربكري، وبعض رؤوساء العشائر الكردية المتنفذة في سوريا، وبهذا الصدد فان زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني الدكتور عبدالرحمن قاسملو(

1930-1989م) وقد (اغتالته المخابرات الإيرانية في النمسا عام 1989م) هاجم هذا الحزب بقوله:” … وبالنظر لضيق مصالح قادة الحزب(= خويبون) لم يناشد الحلفاء الحقيقيين(=الاتحاد السوفيتي)، بل اعتمد على تأييد الدول الاستعمارية(= فرنسا) التي كانت ترى المسألة الكردية وسيلة للضغط السياسي على تركيا…”.

وعلى السياق نفسه فقد تأسس حزب (هيوا- الامل) المحافظ من مثقفين وطلبة وكسبة وشخصيات عشائرية في كردستان العراق عام 1939م بزعامة رفيق حلمي

) 1898-1960م) ذي الميول اليمينية (= البريطانية) ، وقد أسهمت مجموعة من العوامل في تفكيك حزب هيوا وغيابه عن الساحة السياسية في كردستان. ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الحزب عانى من التناقضات والخلافات التي دبَّتْ بين صفوفه ، بسبب كثرة الأفكار والعناصر والاتجاهات المختلفة في داخله ، وكذلك اعتماده على الجماهير المثقفة من الطلبة والضباط والاغوات، واهمال الفلاحين الشريحة الواسعة للشعب الكردي كان من أهم الاسباب التي ادت الى تعرض الحزب إلى الانشقاق ، وكان لانتشار الأفكار الماركسية بصورة سريعة داخل الحزب التي كونت جناحًا يساريًا داخله التي ابتعدت معظم عناصرها المثقفة عن الحزب، ومن جهة أخرى عمل البريطانيون على تعميق الخلافات وتشجيع العناصر الموالية لهم.

لذا ابتعدت معظم عناصر الحزب المثقفة عن التيار اليميني وازدادت الخلافات بين الجناحين، وقد رأى الجناح اليميني برئاسـة رفيق حلمي بأنه على الكرد ُإرضاء بريطانيا إذا كانوا يأملون في الحصول على حقوقهم القومية، كما كانوا يناهضون استيراد الفكرة الشيوعيـــة الـتــي وصفوها بكونها فكرة مستوردة. أمـَّا الكتلة اليسارية فقد شجعـها اندفاع الجيش السوفيتــي نـحــو شمال ايران وكردستان إيران كانت جزءاً منها، ومساعدته للحركة القومية الكردية هناك، وكان أعضاؤها يؤمنون بأنَّ الاكراد لا يمكنهم تحقيق حقوقهم القومية ونيلها إلا عن طريق الثــورة الاشتراكية، كما رأت الكتلة اليسارية أن أساس التحرر هو الانفصال عن النظام البريطاني وإقامة نظام ديمقراطي حر والقضاء

على الحكم الرجعي العميل في العراق؛ لذلك إنقسم الحزب الى إتجاهين: يميني ويساري. وفي شهرشباط / فبراير عام 1944 اجتمع أعضاء حزب هيوا في المؤتمر العام الذي عقــد فــي كـركوك، ونتيجة لهذا الخلاف أدى إلى انشقــاق الحـزب إلــى جـنـاح يميني برئاسة رفيق حلمي، وآخر يساري انضم إلــى الحــزب الشـيـوعـي العراقي مكوناً حزباً شيوعياً كردياً يسمى حزب شورش (= الثورة) عام 1944م.

ضمَّ الحزب الشيوعي العراقي في صفوفه عددًا كبيراً من المثقفين الكرد إلى جانب العرب ، وعلى إثر الانشقاق الذي حصل داخل الحزب ، في مؤتمره عام 1944م ، انفصل بعض العرب والكرد عن الحزب مكونين جناحاً عرف ب )وحدة النضال ( ، ومن ثمَّ انفصل الشيوعيون الكردعنْ وحدة النضال ، مكونين تنظيمًا شبه مستقل، عرف باسم )يه كيتي تيكوشين( أيْ ( وحدةالنضال ( ، بقيادة صالح الحيدري، وأصبح هذا التنظيم النواة الأولى للحزب الشيوعيّ الكرديّ في كردستان العراق وضم المكتب السياسيّ كل من: علي عبد الله ، و نافع يونس، وتوفيق رشيد، وأصدر جريدة بالاسم نفسه، وفي خريف عام1945م تقرر تحويل تنظيم ) يه كيتي تيكوشين- وحدة النضال ) إلى حزب شيوعيّ كرديّ في كردستان العراق بعد فشل مفاوضاته مع الحزب الشيوعي العراقي.

لقد أسهمت الأفكار التقدمية والديمقراطية التي انتشرت بفعل الحرب العالمية الثانية في نشوء الحزب الشيوعي لكردستان العراق، والذي أصدر صحيفة بأسم شورش (النضال) كانت لسان حاله. تألفت اللجنة المركزية لشورش من السادة صالح الحيدريّ سكرتير اللجنة المركزية للحزب،علي عبد الله، ورشيد عبد القادر، وعبد الصمد محمد علي، ونافع يونس، وكريم توفيق وكلهم من المثقفين الكرد أغلبيتهم من الطلبة آنذاك ، وقد بلغ عدد أعضائه حوالي 350 عضواً.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here