متلازمة الأمن والاقتصاد الحلقة الثانية

في الحلقة الماضية كنا قد تحدثنا عن طبيعة الملازمة بين – الأمن
والاقتصاد و الواقعية السياسية – ، وقلنا هناك بإن الواقعية تفترض
المقاربة والاتساق وترفض الفصل والتبعيض لأي سبب كان ، وفي نفس
السياق هذا سنواصل البحث ولكن من وجهة نظر الكتاب المجيد اعني : –
( الواقعية البنيوية ) – ، التي ترفض الفصل والتبعيض في هذا الشأن
أيضاً ، وتبني تصوراتها ومفاهيمها على وحدة المضمون ، وقد أتنا
الكتاب بشاهد إثبات على ذلك من أجل التوكيد و زيادة الإيضاح حيث
قال :

( الذي أطعمهم من جوع وامنهم من خوف ) – قريش 4 ، والجملة الخبرية هذه
وردت في صيغة البناء للمعلوم ، والضمير فيها يدل على التوكيد ،
وتقديم الاطعام على الأمن فيها ورد من باب المسامحة ، وموضوع الجملة
جاء في مقام جواب الدعاء الوارد بلسان إبراهيم النبي حين قال :
– ( رب اجعل هذا بلدا امنا وارزق أهله من الثمرات ) – البقرة 126 ،
ودلالة هذا في سياق الكلام واضحة على سبيل الاستغراق في طول الزمان
والمكان .

ومادة الأمن في الكتاب المجيد تدل على الثقة وعلى الشعور
بالاطمئنان ، لذلك وسع اللسان العربي دائرة الاشتغال بها لتكون
مصدراً وصفةً واسماً وفعلاً ، وهي في الأحوال كلها تكون
نقيضاً للخوف أو ما يقابله ، ودلالة الوصف فيها تعني حفظ الكيان
المادي والمعنوي ، وكونها أداة ووسيلة في التعبير تكون دالة على
معنى القوة الذاتية ، والقوة الذاتية : – هي القوة الطبيعة التي
تكون للمجتمع وللدولة في الواقع – .

وقد رتب النص استنتاجه على هذا بلحاظ ما وجده من فاعلية
وقابلية في قوة الاقتصاد و قوة الأمن ، مضيفاً إليهما ما يقوم به
الفاعل السياسي من كسب للقوة عبر : – التحالف مع الغير جلباً
للمصالح و درءً للمفاسد – ، وهذا هو المضمر في لسان النص والذي
ركز عليه في مجال طبيعة العلاقات الواجبة .

إن متلازمة – الاقتصاد والأمن – في الكتاب المجيد تكون أكثر حضوراً
في مجال الحماية وفي تحصيل القدرة من مصادرها ، وفي ذلك غطاءً
شرعيا وقانونيا للدولة و لوجودها وهيبتها وسيادتها على كل الصعد ،
ولا يفصل الكتاب المجيد بين مفهوم الدولة وبين مفهوم القوة ،
فالثروة وحركة الفاعل السياسي عناصر للدولة وقوتها ( في الفضاء العام
)

ولا يفصل الكتاب المجيد كذلك بين قوة الدولة و بين عناصر الحسم فيها
، ولا في سلوكها مع الأخرين .

وحدة الأجزاء :

مفهوم الوحدة في الاصطلاح يعني الجمع غير المتفرق ، وقيل : هو
الجمع الواحد الذي لا يكون لا على نحو الإكراه والتعسف ، حين يتوفر
الوعي الطبيعي لهما في الملازمة بين – الامن و الاقتصاد – وفي
طبيعة وجودهما ، والذي هو بحسب الوضع : – عبارة عن مركب
أجزاء – بشرط عدم الانفصال ذاك الذي يؤدي للانهيار والسقوط ،
وعدم الانفصال لدى ارسطو : – هو وحدة كل جزء مع الجزء الأخر –
، وهكذا نفهم معنى الوحدة في عناصر القوة الوطنية و مقوماتها ،
والحصر ممتنع هنا ، أعني حصر القوة عسكريا سببا أو اقتضاءً
.

أقول هذا : بعدما كشف لنا – فايروس كرونا – عن ضعف القوة
العسكرية في مواجهة هذا الفيروس ، وهشاشة ما تدعيه القوى الكبرى في
هذا المجال ، وكيف خسرت الصين الرهان مع ما لديها من قوة في
هذا المجال ، ومع ما يوفره لها نظامها الشمولي من القوة
وعناصرها ، ولكنه فقد الحصانة في مواجهة هذا الفيروس اللعين ولم
يستطع الحد من تأثيراته ونشاطه ، والأمر نفسه نقوله في شأن
الدول الصناعية الكبرى التي عجزت هي الأخرى في مواجهة قوة الفيروس
الخفية المرعبة ، يقول إغناتيوس : – كشف لنا الوباء عن كذبة
نظامنا وهشاشته ، وعجز أجهزتنا الصحية و الدوائية – ، وهذا
يعطينا انطباعاً موضوعيا بأن الدول التي تمتلك القدرات العسكرية
الفائقة لم تكن و لن تكون في مأمن من الخطر ، ولهذا وجدنا العجز
والانهيار في المرافق الاقتصادية والاجتماعية لكثير من الدول مما يدل
هذا على خطورة الفكر الذي يسعى له بعض دعاة الحرب ، لقد كان
كيسنجر واضحا حين قال ذات مرة : – بانك قد تربح الحرب ولكن قد تخسر
نفسك – ، وتحليلنا هذا ينطلق من مشاهداتنا اليومية لما يجري في
العالم وفي مجتمعات الدول الصناعية الكبرى ، لقد كانت بعض
الممارسات من السوء تجاه العجزة و كبار السن دليلا على طبيعة
العقلية الخطيرة التي يتسم بها البعض ، مما يجعلنا أكثر حذراً في
رؤيتنا للمستقبل على المدى المنظور فيما لو طال أمد الأزمة الحالية .

أن العقلية السائدة اليوم تذكرنا بتلك العقلية التي كانت عليها
النخب السياسية قبل الحرب العالمية الثانية ، وذلك ناقوس خطر يدعونا
للخوف على طبيعة التكوين الديمغرافي والتعايش الاجتماعي ، وهذا
يدعونا لتصديق تلك المقاربة التاريخية التي تقول : – إن حجم
الإنفاق في المجال الأمني أبداً لن يكون البديل ، عن التحليلات
ومراكز الأبحاث التي يقوم بها متخصصين في مجال العلوم والبحوث
الاستراتيجية – ، ولهذا نرفض مبدأ الاختزال الذي تعتمده النظم
الشمولية والامبريالية في نظرتها للمستقبل ، ونرفض تركيزها على
القوة المحضة ، والتي تأتي في المقام الأول عند صناع القرار
الدوليين ، أن نظرتنا للقوة وما تشكله موضوعيا في الجهد
الأحيائي لا تتعدى من كونها وسيلة أو باعتبارها سلوكاً محفزا ليس
إلاّ ، لهذا قلنا بان ما ذهب إليه أرنولد ولفارز لا يخلو من
مخاطرة حين اعتبر : – القوة هي القدرة في أو على دفع الآخرين (
نحو عمل ما يریدون ومنعهم من عمل ما لا يریدون ) – ، لأنه في ذلك
خلط ما بين القوة والتأثير ، فالقوة موضوعيا هي القدرة في أو على
تحريك الآخرين – ، ولكن التأثير ليس كذلك ، وإنما هو
مجرد ترتيب في سُلم الأولويات و المفاهيم وليس هو ذاتها ، وفي الحلقة
الأولى كنا قد اعتبرنا :

القوة هي الفاعل الحيوي في صناعة الحدث وهي الموضوع الذي يرجع
إليه ، في ظل المتلازمة المتحركة التي قلنا بها وفقا للطاقات و
الامكانيات ، وهي ذاتها التي تحفظ للدول قيمتها وهيبتها ، مع
القيد التالي : – ان دول العالم الثالث تعتبر قضية القوة عندها
مرهونة بما لديها من موافقات ، يحددها لها الغير دول ومنظمات
ومؤوسسات – ، ولعل لدول مجلس الأمن السهم الأكبر في ذلك ، ولا
يخفى ما لهذه المؤوسسة من هيمنة وسطوة على القرار الدولي والتحكم فيه
، ودول المجلس ابدا لا تبالي بمصالح وحقوق الدول الضعيفة والفقيرة
من العالم الثالث ، وإنما تفرض نوعا من الشروط والاجراءات المجحفة
.

يقول جميس براون في مداخلته بمجلس العموم : – ان اهتزاز ثقة
العالم بالنظام الدولي ، جاءت بفعل تعسف النظام الدولي وعدم
احترامه للأمن والسلام الدوليين – ، ولهذا سادت الريبة والشك في
العلاقات الدولية وتحملت الدول الصغيرة تبعات تحالفات الدول الكبرى
، مما أدى إلى نشوب الحروب الإقليمية والأهلية المتعددة .

المفهوم الجديد للأمن:

تطالعنا اتفاقية يالطا بجمل فضفاضة تقول : – أن الدول باستطاعتها
تحقيق حاجاتها وفقا لمصالحها وبحرية !! – ، وهذا القول
الرومانسي يعني قدرة الدول على صنع مستقبلها بيدها ، من خلال ما
تجريه من اتفاقيات ومعاهدات بحسب ما ينفعها من الحاجات والمصالح !!
، ولكن الجملة وشروحاتها لا تعبر عن الواقعية السياسية التي تحكم
الموقف الدولي القديم والجديد ، ذلك ان مفهوم الحرية المشار اليه
وفقا لمبدا الحاجة والمصلحة يعد شيئا نسبيا في الواقع ، وهو بحسب
المكانة يعد الأول في الترتيب في السلم الدولي ، وهذا ما
اعتقد به – وولتز – عن ( نظم المفاعلة ) ، والذي يعد تصورا
امنيا سياسيا بامتياز حين ينظر اليه داخل محوطة ( التراتبية
والفوضوية ) في البنى السیاسیة ، والتي تتكون في العادة من مبدأ
التنظيم والوحدة و القدرة ، ويندرج في سهمها نسق المصالح
الدولية التي تحدد السلوك الخارجي ، ومن جهتنا نحن فنعتبر : – ان
الاعتماد على الذات هو الهدف النهائي للدولة ، فيما لو ارادت ان
يكون لها مستقبل ما ، وبداية ذلك ينطلق من الاكتفاء الذاتي في
إدارة شؤون الدولة والمجتمع – ، وهناك رأي أخر يقول : – ان الدولة
الحية هي تلك التي تعتمد على الأرباح النسبية وليست على الأرباح
المطلقة ، وبعبارة ادق – هي تلك التي تعتمد على اضعاف الآخرين
وافقادهم للقدرة او التفوق – ، وقد طبق هذه النظرية الرسول محمد –
ص – عندما اعتبر الحرب – اخر الدواء – معتمدا على مد الجسور
والحوار وعقد المعاهدات في ظل الفضاء الحر ، وقد حقق في ذلك تقدما
مهولا على صعيد الدعوة والحركة وانضمام الكثير الى دعوته ، وهذه
وسيلة في اطار مفهوم – اعدوا لهم ما استطعتم من قوة … – ولا
يخرج هذا عن مفهوم الصراع الطبيعي ولا بين التراتبية والفوضى قال :
( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، وهذه هي الواقعية البنيوية ..

وللحديث بقية

آية الله الشيخ إياد الركابي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here