أوجه الشبه، بين محنة العراقيين مع النخب الحاكمة في العصر الراهن،…

ومحنتهم في العصر العباسي الغابر !
(مقتبس بتصرف) د. رضا العطار
.
لو شئنا ان نلقي نظرة سريعة وشاملة على الحياة السياسية في الدولة العباسية، لقلنا انه عندما سقطت الدولة الاموية, لم ياسف على ذهابها احد, لكن عندما قامت الدولة العباسية بدعوى اعادة الحق الى نصابه و استبشر الناس بالخير وسط امال عراض في انتظار طال امده، كان الشعب متعطشا في استقبال نسائم الحرية, كانت نفوسهم تواقة ان ترى ان الامور ستسير في الطريق الصحيح، لكن الخلفاء العباسيين صارحوهم في اول يوم لقيام دولتهم بان السلطان لهم وحدهم (بأمر من الله) لا يشاركهم فيه احد, فخابت امال العراقيين وايقنوا انه لا سبيل لهم الى ان يطالبوا بحقوق او باصلاح انما تقتصر حقوقهم في ممارسة فرائضهم الدينية وطقوسهم المذهبية حسبما يشتهون.
وطبقا لهذه السياسة، خطب ابو جعفر المنصور في الناس عند تسنمه الخلافة قائلا :
( ايها الناس انما انا سلطان الله في ارضه, اعمل بمشيئته، واذا شاء ان يقفلني اقفلني, فإرغبوا الى الله وأسألوه ان يلهمني الرأفة بكم ويفتحني لأعطياتكم )

ولا تعني هذه الكلمات سوى ان المال العام للأمّة هو مال الخليفة. لذلك انقلب اغلب الخلفاء ووزرائهم ورجال حاشيتهم الى لصوص يسرقون ثروات الشعب، دون ان يكون للشعب الحق في محاسبتهم، رغم ان حياتهم قد اتسمت بالترف السافر والبذخ الكافر، ناهيك عن سوء سلوكهم المتصف بالجور والظلم والتعسف. فهي اوامر الهية كتبت في اللوح المحفوظ. فالمطلوب من الامة هو عبادة الله وطاعة الخليفة ليس الا.
ان مثل هذه السلطة الغاشمة التي تنخر اسسها هوة واسعة بين القول والعمل. بين الذين ينتجون كالفلاحين والصناع ولا يملكون, وبين مالكي السلطة الذين ينهبون ثروات الامة ويتلاعبون بمقدراتها، في مجتمع ينافق بعضه بعضا, تستباح فيه كل القيم , يظهر الجميع بألتزامه بالقيم العليا بالعلن لكنه يتخلى عنها في السر، وفي مقدمتهم الخليفة نفسه.

كانت محنة العراقيين انذاك نتاج مارسة سياسة الظلم الاجتماعي الصارخ من قبل الخلفاء. وعدم مبالاتهم لأسباب الثورات التي توالت عليهم. وقد ادت ادارتهم الفاسدة الى تدهور حالة الشعب المعاشية واصبحت ظاهرة الفقر والبؤس والشقاء حالة معتادة، وبذلك فترت همته واقتصر همّه على كسب العيش ومواصلة الحياة لا مجد فيها ولا لذة ولا جمال، وقد الف الناس الظلم حتى لم يعدوا يشعرون ببشاعته وذله وعاره.
هكذا كان غالبية الشعب وهم طبقة العمال والفلاحين الفقراء يكدحون ويتصببون عرقا، متحملين عبء الحياة ما يطاق وما لا يطاق، كي تهيئ للطبقات الحاكمة اسباب النعيم.

كانت الطبقات العاملة في البلاد مستغلة من قبل الطبقات العليا ابشع استغلال، يسلبونهم بطرق شتى، فلا اصلاح ولا تعليم ولا رعاية صحية. كان المال يبتز من ايديهم رغم قلته، وفي احيان كثيرة كانوا يخضعون الى اعمال السخرة. لا يترك لهم الاّ ما يسدّ رمقهم، وان سدّ كان ذلك كثيرا. فكثير ما كانت اسعار القمح والشعير ترتفع حتى يصبح حصول العامة عليها عسيرا. وكان الفقراء احيانا يلتجأون الى الخليفة يسترحمونه ان يخفف عن كاهلهم هذا العبئ، كان بؤس الطبقة المسحوقة يزداد سوءا مما تسبب في ظهور الشحاذين والسراق والدجالين الذين لبسوا لباس الدين واظهروا للبسطاء من الشعب حرصهم البالغ على سلامته وطقوسه، مستعملين كل حيلة في سبيل الاستحواذ على المال والمنصب، حتى حدت كثرتهم بالشاعر طه الراوي ان يصف الحالة الاجتماعية بالنظم التالي :

بغداد دائر لأهل المال طيبة * * وللصعاليك دار الضنك والضيق
بقيت امشي مضاعا في ازقتها * * كأنني مصحف في بيت زنديق

كانت السلطة الحاكمة سلطة غاشمة، تنخر اسسها هوة واسعة بين القول والعمل.
بين الذين يكدون وينتجون كالفلاحين والصناع ولا يملكون, وبين النخبة الحاكمة ورجال السلطة الذين يملكون ثروات الشعب بمقدراته, في مجتمع ينافق بعضه بعضا, تستباح فيه كل القيم الأخلاقية, يظهر الجميع بألتزامه بالقيم السماوية في العلن لكنهم يتخلون عنها في السر وفي مقدمتهم الخليفة نفسه.

كان خلفاء بني العباس نموذجا صارخا لطراز حكم استبدادي ظالم، يظهرون امام الشعب بمظهر الزهد الزائف في إطار براق، يتحكمون في أرائه كيفما يشاؤون، ويخدعونه بأقاويل موظفيهم الفقهاء، ويدعون كذبا بانهم ( ظل الله )، وعليه ان يتبعهم، يجلًلهم ويطيعهم ولهذا كان يحلو لهم من ترديد الاية القرآنية الكريمة :
( قل اللهم مالك الملك تولي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيئ قدير).

لقد طغت موجة البذخ والاسراف في عهد الخليفة المهدي الذي كان كثير الميل لحياة الطرب واقتناص ملذات الحياة جهارا، ففي حفل زفاف ابنه هارون استورد من الأفاق صناديق الحلى و الجواهر, ثم قام بتوزيعها على ضيوفه في جامات من الذهب .
ان حالة الغنى الفاحش الذي بلغه بعض افراد سلطة الخلافة، تعد فريدة في زمانهم. فزوجة الخليفة المهدي, بلغت ثروتها قبل موتها بأكثر من 100 مليون دينار ذهب. وكان هذا المبلغ المسروق من بيت المال، يعادل نصف واردات المملكة العباسية آنئذاك. واذا قيس بمعيار القيمة الزمنية، فأنها تساوي الى ثلثي ثروة روكفلر في عصرنا الحاضر.
وان زبيدة زوجة هارون الرشيد كانت مثقلة بأقراص الجواهر والذهب لدرجة انها لم تعد قادرة على المشي. وكان الخليفة الهادي يفرش قصوره الرئاسية ب 22000 قطعة من السجاد الفاخر، في الوقت الذي كان الفلاح العراقي يفترش الأرض لفقره.

اما المأمون، الخليفة العباسي الذي عهدنا به شغفه الواسع بالثقافة ونشره العلوم والاداب، نراه يمضي على خطى اترابه من الخلفاء في تبديد ثروات الشعب وعدم المبالاة لبؤسه وشقائه، فنجده في حفلة زفاف ابنته بوران، بعد ان اجلسها على حصير منسوج من الذهب الخالص وقيامه بنثر الجواهر والدرر على رأسها، يأتي بصندوق يحوي رقائقا، وقد كتب عليها عبارة اما حصان او جارية او ضيعة، ثم يطلب من ضيوفه ان يجرب كل حضه، فإذا كانت الوريقة المسحوبة تحمل اسم ضيعة، اصبح حاملها في تلك اللحظة صاحب تلك الضيعة وما فيها من مزارع وممتلكات وما عليها من بشر.

كان الخلفاء العباسيين شغوفين بالجواري فكان لكل منهم جيشا منهن يرفلن في ابهى الكساء والحلل فكان شغف الرشيد بالجاريات العربيات وشغف المأمون بالمسيحيات اما شغف المعتصم فكان بالغلمان والجواري التركيات الذي اضطر اخيرا الى نقل مركز الخلافة الى مدينة سامراء ليجنب اهالي بغداد شرهم واذاهم .

لقد كان السلوك المعيب لبعض الخلفاء مشجعا في اذكاء الممارسات العابثة في المجتمع العباسي، فلم يكن للمقدس عندهم حرمة، ولا لدار الخلافة أية هيبة، وقد تجلت هذه السلوكية المعيبة في شخص الأمين على نحو فاضح، عبر تعلقه المشين بالغلمان. فإمتلئ قصره بإعدادهم الكبيرة، مما حدى بأمًه زبيدة، ارملة هارون الرشيد، ودرءا للعواقب الوخيمة، ان هيئت عشرة صربيات جميلات بزي الصبيان بهدف صرف ولع ابنها عن سلوكه المنحرف، بعدما شاعت بين اهالي بغداد قولة السوء حولهم، فكانوا يدعون قصور الخلفاء بالحانات الليلية.

لقد انحدر معظم الجواري من دول وثقافات مختلفة حتى ان قسما منهن دخلن قصور الخلافة وصار بعض الخلفاء من ابنائهن, فالمنصور امه جارية حبشية والرشيد امه جارية رومية والمأمون امه جارية فارسية.
كان الرشيد يستكثر منهن في قصوره حتى تجاوز عددهن عن اربعة الاف جارية.

كان بعض الجواري يحسن نظم الغزل المثير يكتبنها على عصائبهن وثيابهن ومناديلهن، منها هذا البيت :
أتهون الحياة بلا جنون ؟ * * فكفوا عن ملاحقة العيون
وفي اخبار الخليفة المهدي ان جاريته اهدت اليه تفاحة بعد ان نقشت عليها النظم التالي :

هدية مني الى المهدي * * تفاحة تقطف من خدي
محمرة مصفرة طيبة * * كأنها من جنة الخلد
هكذا تفنن الخلفاء ورجال حاشيتهم على امتلاك كل طريف ونفيس، غيرابهين مما ينفقون ولا من هول ما يسرفون. يحيون الليالي الحمراء ويمارسون فيها كل محرًم ومجون، تزخر باللهو المباح وغير المباح، يقضون ساعات سهرهم راضين مرتاحين منتشين، تطربهم انغام قينة تشدو وجارية تميس وخصر يهتز وغلمان ترتاح لصباحتهم العيون، فلا هموم ولا غموم بل حبور وسرور. كل ذلك يجري داخل قصور الخلفاء, بؤرة الموبقات، تعزلهم عن غضب الشعب الجائع اسوار عالية, يحرسها جند الاسلام,

يومذاك، كانت الامبراطورية العباسية، مركزا للحضارة الانسانية العالمية، الوحيدة في عالم ذلك الزمان ، فكانت بغداد تتباهى أمام أمم الدنيا بعلو مجدها المجيد ورقي مستوى علومها وآدابها، حقا انها كانت منارا للأشعاع الفكري المنير، تمثل في ثقافات علمية متنوعة، انتقلت الى الدول الاوربية آبان القرون الوسطى ودخلت جامعاتها، فكانت سببا طليعيا في نهضتها وتقدمها.

نعم لقد كانت بغداد تفتخر بحضارتها المزدهرة، متجلية بشهرة عصرها الذهبي اللامع، عصر الخليفة هارون الرشيد. لكن في الوقت نفسه، لم يكن اغلب دول العالم حينذاك يعلم ان السواد الاعظم من شعب العراق كان يشكو الفقر واليؤس والعوز وانعدام العيش الكريم، وذلك بسبب سوء الادارة الحكومية الفاسدة.

* مقتبس بتصرف من كتاب العصر العباسي الاول لمؤلفه الدكتور شوقي ضيف. والفقرة الاخيرة إضافة لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here