ترحال فكري … ما بين محطات التوجه الإستراتيجي للمُكلف الجديد بإدارة الدولة؟!

أ. د. جواد كاظم لفته الكعبي

عادة ما تواجه الحكومات والمنظمات والناس والقادة، عند عزمهم القيام بمشروع كبير أو هام أو مستقبلي، مشكلة صياغة توجهاتهم الفكرية العامة حول كيفية تأطير شكل ومحتوى ومسارات تطور هذا المشروع، بمفردات معرفية واضحة ومعقولة وقابلة للتحقيق. يطلق علم الإدارة المعاصر على عملية تأطير التوجهات الفكرية العامة لمشروعات التأسيس أو البناء أو التغيير الكبيرة المختلفة مفهوم “التوجه الإستراتيجي” في الإدارة، وهيكل هذا المفهوم يتكون من ثلاث مفردات (محطات)، هي: الرؤية، الرسالة، والهدف/الأهداف ووسائل تحقيقها. وعلى وفق صواب أو عدم صواب صياغة هذه المحطات، يتوقف نجاح أو فشل إدارة المشروع المعني بكفاءة وفاعلية ونزاهة وأقل الخسائر.

لا أعرف شخصيا السيد مصطفى الكاظمي، وليس لديّ اطلاع سابق على نشاطه المهني وتوجهاته الفكرية حول إدارة الدولة، وسأعتمد تصريحاته بعد تكليفه، المنشورة في الموقعين الالكترونيين: (“الأخبار” يوم 15 نيسان؛ و”صوت العراق” يوم 16 نيسان من هذا العام)، كمصدر لترحالي الفكري المُقتضب أدناه ما بين المحطات الثلاث لتوجهه الإستراتيجي في قيادة الدولة، بانتظار إعلانه الرسمي عن منهاجه الوزاري وتشكيلته الحكومية.

أولا. الرؤية Vision: تُعدّ الرؤية الفلسفة القائدة لمنظومة System الإدارة، وهي ليست هدف منظومة الإدارة بحد ذاتها، وإنما هي الإحساس بالهدف الأرأس لهذه المنظومة لدى صاحبها (في مثالنا المُكلف). هذا يعني أن الرؤية ما هي إلا لوحة مثالية عن المستقبل البعيد يرسمها صاحبها في ذهنه (وربما يُسطّرها في نص وثيقة رسمية مكتوبة)، ويأمل بالوصول إليها وتحقيقها إذا كانت الظروف المحيطة بنشاطه مواتية بقدر معقول من ظروف عدم التأكد والمخاطرة.

إن رؤية المُكلف الجديد، كما أراها، تتمثل في سعيه لــ “بناء مؤسسات الدولة بناءا سليما”. هذا يعني، أن المُكلف يرى في الدولة العراقية القائمة مُجرد هيكل مؤسساتي مُعتل، لم تَجر عملية تشييده بشكل سليم. ومادامت رؤية المُكلف للدولة القائمة على هذا النحو، فإن سعيه لإعادة بناءها سيواجه حتما بمقاومة ربما تكون عنيفة وبمستويات مختلفة من حالات عدم اليقين والمخاطرة من قبل مؤسسات الدولة القائمة: السياسية (الأحزاب والتكتلات السياسية) والتشريعية والتنفيذية والقضائية والرقابية وغيرها، الأمر الذي يتطلب منه تحديد غاياته وأهدافه ووسائل تحقيقها من عملية إعادة البناء بوضوح أكبر. بيد أن مشكلة المُكلف في عملية إعادة البناء لا تقتصر فقط على دقته ووضوحه في

تحديد رسالته وأهدافه المنشودة من عملية إعادة البناء المذكورة، وإنما تتعدى ذلك لتطال تأثير الفترة الزمنية المُتاحة أمامه لتحقيق رؤيته المعلنة في أرض الواقع، وهي فترة زمنية تكون طويلة في العادة.

وبما أن عملية التكليف جاءت بعد استقالة حكومة تصريف الأعمال الحالية، فليس بمستطاعي، كباحث، تحديد المدى الزمني المُتاح للمُكلف لتحقيق رؤيته المعلنة، فقد يكون هذا المدى أربع سنوات (وهو المدى الزمني الدستوري للحكومات العراقية المُنتخبة)، أو سنة واحدة (وهو المدى الزمني الفاصل ما بين نيل المُكلف ثقة مجلس النواب وإعلان نتائج الانتخابات المُبكرة التي يطالب بها الحراك الاجتماعي الواسع النطاق). وفي كلتا الحالتين لا يستطيع المُكلف تحقيق رؤيته بإعادة بناء مؤسسات الدولة، وهو أمر يتطلب منه تعديل مضمونها على ضوء ما مُتاح له من الوقت.

ثانيا. الرسالة Mission: هي الجسر الرابط ما بين رؤية صاحبها (في مثالنا المُكلف) وأهدافه من المشروع الذي يرغب في تأسيسه، والسمات المميّزة لهذا المشروع مقارنة بمشروعات المُكلفين الآخرين السابقين عليه. رسالة المُكلف هي مفردة ينبغي لصياغتها أن تكون أكثر دقة من صياغة مفردة رؤيته، إذ على خلاف الرؤية، الرسالة تمتلك خط نهاية Finishing Line، بمعنى وجود سقف زمني مُقرر لها، عند انقضاءه يُفترض بالمُكلف أداء رسالته. هذا يعني أن الرسالة هي غاية المُكلف وفريقه الحكومي من وراء تأسيس مشروعهم الكبير في إعادة بناء مؤسسات الدولة، والتي يجب أن تتحقق في الفترة الزمنية المُخططين لها.

وكما أرى أيضا، فقد صاغ المُكلف رسالته بقدر كبير من الدقة والوضوح على النحو الآتي: “لا خيار أمامنا سوى خيار المشروع الوطني العراقي الشامل والعابر للهويات الفرعية عرقية أم مذهبية”. هذا يعني أن المُكلف يُدرك تماما بأن رؤيته في إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس سليمة، لا يمكن لها التحقق من دون تبني مشروع بناء “مؤسسات دولة المواطنة”، بمثابة رسالة يوجهها لم يعنيه أمر إدارة الدولة من الشركاء السياسيين الداخليين والخارجيين، وعلى هديها سيقوم بتحديد أهدافه الموصلة لتحقيق خيار المشروع الوطني المعلن من قبله. وكما هو الحال في مفردة الرؤية، سيواجه المُكلف تحديات ومخاطر كثيرة وكبيرة حقيقية أمام تحقيق رسالته، ومنها ضغط الفترة الزمنية المُتاحة له، وهو أمر ربما يتطلب من المُكلف تعديل رسالته بجعلها تأخذ بعين الاعتبار والاهتمام طبيعة التحديات والمخاطر القائمة، ولكن من دون التفريط الجدّي بالمقومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لخيار المشروع الوطني العراقي في إعادة بناء مؤسسات الدولة، لأن

التعديل الكبير في تلك المقومات على ضوء ضغوط الوقت والتحديات والمخاطر القائمة، سيُزيد من طول الفترة الزمنية اللازمة وتكاليفها لتحقيق رؤيته في البناء المؤسساتي السليم للدولة.

ثالثا. الأهداف: يُعّد اختيار المُكلف لهدف أو أهداف تنظيم عمليات تحقيق رسالته (دولة المواطنة)، واحدا من أكثر مفردات الإدارة الإستراتجية أهمية وحساسية وخطورة في قيادة الدولة، لأن اختيار الهدف من قبل المُكلف سيُقرر في نهاية المطاف شكل ومحتوى وآليات وأدوات صناعته وتنفيذه للقرارات المطلوبة للوصل إلى تحقيق رؤيته (البناء السليم لمؤسسات الدولة). وعلى وفق طبيعة الهدف الإستراتيجي المُختار، سيقوم المُكلف برسم الملامح العامة لإستراتيجيته في قيادة الدولة بهيأة سياسات وخطط وبرامج ومشروعات ومبادرات نشاط هذه الدولة في الوقت الراهن والمستقبلي.

في إعلانه عن توجهاته الفكرية لقيادة الدولة، وضع المُكلف لحكومته هدفا واحدا: “حكومتي لها هدف محدد وهو التهيئة للانتخابات المبكرة…”. سأفترض أن المُكلف قد وضع هدفين آخرين لحكومته أيضا، عندما استدرك قائلا: “والتصدي بحزم إلى التحديات الطارئة التي لم تكن متوقعة حتى قبل شهرين … فيروس كورونا، والأزمة الاقتصادية التي تمثلت بانخفاض حاد لأسعار النفط”. في التحليل الذي نجريه هنا، لا تمتلك الأهداف الثلاثة المعلنة للمُكلف أية علاقة تبعية مباشرة بطبيعة رسالته المعلنة عن دولة المواطنة، إذ أن تحقيق الدولة المنشودة من قبل المُكلف يتطلب منه صياغة وتنفيذ أهداف أخرى مغايرة لأهدافه الثلاثة المعلنة، على سبيل المثال وليس الحصر أهداف التعامل مع الملفات الشائكة والخلافية الآتية، ذات الصلة المباشرة ببناء أو عدم بناء مؤسسات دولة المواطنة: الدستور النافذ، النظامين السياسي والاقتصادي القائمين، العلاقة ما بين المركز والإقليم والمحافظات، ملكية وإدارة الثروة النفطية الوطنية وغيرها. وفي المحصلة الأخيرة، ستبقى رسالة المُكلف عالقة تبحث عن أهداف مفقودة لتحقيقها، وهو أمر مُناقض لمنهجيات صياغة التوجهات الإستراتيجية للإدارة.

من جانب آخر، عندما ألزم المُكلف نفسه بهدف التهيئة للانتخابات المبكرة، فسيكون هذا الإلزام بمثابة إقرار واقعي منه بأن حكومته مؤقتة (بالمهمات الواجب انجازها وبالوقت المطلوب لانجازها)، وعادة لا تضع الحكومات المؤقتة أهدافا إستراتيجية تسعى لتحقيقها. والأمر نفسه بشأن هدفيّ التصدي للوباء والأزمة الاقتصادية، مع فارق وحيد يتمثل في أن الوقت المطلوب لانجازهما قد يتعدى الوقت المطلوب لانجاز الهدف الأول خلال سنة واحدة، وبذلك سَتُمّسي عملية التصدي لهما من واجب الحكومة القادمة بعد الانتخابات المبكرة. في صياغته لتوجهاته الفكرية، فقد تحلى المُكلف

بقدر كبير من الواقعية في تحديد أهدافه بلا شك، وهو أمر يُوضع في خانة اعتداله السياسي ومهاراته المنهجية والتنظيمية المطلوبة لقيادة الدولة في ظروفها الحالية.

رابعا. وسائل تحقيق الأهداف: لا قيمة عملية لأي هدف من أهداف قيادة الدولة، عندما لا يجري تحقيقه بوسيلة متاحة للمُكلف من وسائل التحقيق المعروفة أو غير المعروفة له. فضلا عن الوسائل، تحتاج عمليات تحقيق الأهداف الثلاثة المعلنة لوجود منظومة مبادئ ومعايير وإجراءات وغيرها، تضبط إيقاع التحقيق وتحول دون انحرافه عن المسار المرسوم له من قبل المُكلف، نوردها أدناه كما أراد لها صاحبها أن تكون عليه:

· وسائل التحقيق: يتبنى المُكلف وسيلتيّ “الحوار الوطني الداخلي” و”التعاون مع الكتل السياسية” لتحقيق أهدافه الواقعية المعلنة (التهيئة للانتخابات، ومواجهة الوباء والأزمة الاقتصادية)، أو أهدافه المفقودة في بناء دولة المواطنة والمؤسسات السليمة، والتي ربما سيُدرجها في منهاجه الوزاري عند إعلانه رسميا لنيل ثقة البرلمان. الحوار هو وسيلة البشر الأسوياء للوصول إلى تفاهمات مشتركة، يجري تحقيقها بتعاونهم، وهو أمر يتطلب من المُكلف طرح مبادرات أو مشروعات سياسية واقتصادية وقانونية وغيرها واقعية وقابلة للتحقيق لتجسير هوة ما يُفرقهم منها، بغرض التأسيس لرؤية وطنية مشتركة يُريد أن يراها صاحبها واقعا مُعاشا. فضلا عن ذلك، تفتقد وسائل تحقيق أهداف المُكلف للوسائل المادية لانجازها، وتفتقد للمبادرات التشريعية لتأطيرها بأطر قانونية مناسبة.

· مبادئ التحقيق: يتبنى المُكلف المبادئ الثلاثة الآتية لتحقيق أهدافه الثلاثة المعلنة في مجال السياسة الخارجية للبلاد: “إبعاد العراق عن الصراعات الإقليمية”، إجراء “حوار جاد مع أميركا بشأن طبيعة وجودها في العراق” (وليس إلغاء هذا الوجود!)، و”الانفتاح الجاد على المحيطين العربي والإسلامي”. ومع أهمية هذه المبادئ في تحقيق أهداف رؤيته ورسالته، تبقى الحاجة ماسة إلى فك شفرة مضمونها الحقيقي والملموس من قبل المُكلف؟

· معايير التحقيق: في تفاوضه مع الكتل السياسية لاختيار وزراء حكومته، يتبنى المُكلف “النزاهة” و”الكفاءة” كمعيارين لضمان نجاح أعضاء هذه الحكومة في تحقيق أهدافها المعلنة. ومع إقرار المُكلف بأن هذين المعيارين قد تم “استهلاكهما!” كثيرا في العملية السياسية القائمة، إلا أن بحثه عنهما في مرشحيّ هذه الكتل سيكون أمرا سياسيا عبثيا بامتياز من قبله، ولكن على ما يبدو لحد الآن لا مَفر له من أداءه، وبهذا سيكون جهده في

هذا المضمار مناقضا تماما وعلى طول الخط الفكري لرسالته المعلنة في بناء مؤسسات دولة المواطنة التي ينشدها المُكلف نفسه!

· الشخوص الساندة للتحقيق: سيستند المُكلف، لتحقيق أهدافه المعلنة، على دعم “الكتل السياسية” وحدها التي لها أعضاء في حكومته، وبذلك سيكون أمر تحقيقها رهينة للمناورات والمناكفات السياسية بين هذه الكتل، وهي السمة الغالبة على طبيعة العملية السياسية القائمة في البلاد، ولم يَرّشّح عن المُكلف لغاية الآن شيء يَشّي باهتمامه بطلب الإسناد المعنوي على أقل تقدير من حركة الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة النطاق والدامية الجارية منذ شهر تشرين الأول الماضي، أو مباشرة من الشعب العراقي. في الوقت نفسه، نُشيد بتوجه المُكلف نحو عدم تكوين مؤسسات غير دستورية لإسناد عمليات صياغة وتحقيق أهدافه، على غرار “لجنة الخبراء” في المنهاج الوزاري لسلفه المُكلف الأسبق، لسببين على الأقل: افتراضنا بأن أعضاء حكومته سيكونون من أصحاب الكفاءة المهنية لإدارة الوزارات المُكلفين بها؛ والثاني، أن تكوين مؤسسات غير دستورية لا يتصف بالبناء السليم لمؤسسات الدولة (كما يريدها المُكلف نفسه)، وهي طريقة معروفة ومجربة من طرائق الفساد المالي والإداري والسياسي والفكري للهيمنة وبسط النفوذ والاستحواذ على مراكز القرار في الدولة.

· الأفعال اللازمة للتحقيق: وَصَفَ المُكلف أفعاله الموصلة إلى تحقيق أهدافه المعلنة بثلاث مفردات كبيرة تكررت عدة مرات في تصريحاته، وهي مفردات “الحزم، والجدية، والقوة”، من دون أن يُلّبسُها الرداء المعرفي بتحديد دلالاتها ومضامينها وموضوعات وأوقات وإجراءات استخدامها. عادة ما يلجأ القادة السياسيون إلى استخدام هذه المفردات في حملاتهم الانتخابية، ولكنها لا تصلح للاستخدام في المناهج الوزارية الجادة لنيل ثقة الناس.

· الإجراءات التنفيذية للتحقيق: لم يَشّر المُكلف إلى أي نوع من أنواع الإجراءات التنفيذية لتحقيق أهدافه المعلنة، مثلا الإجراءات التنفيذية القانونية لضمان تحقيق هدف إجراء انتخابات نزيهة، أو الإجراءات التنفيذية الاقتصادية لضمان تحقيق هدف التصدي للأزمة الاقتصادية القائمة. وكما ذكرنا أنفا، لا قيمة عملية لأي هدف ما لم يجر تحقيقه بوسيلة محددة ومؤطرة بإجراءات تنفيذية معلنة وشفافة وفاعلة.

د. جواد الكعبي [email protected]

19/4/2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here