رباعيات العلامة الصدر…في أحزان واحة الشعر

Image preview

أ. د. ابراهيم العاتي

خلق الإنسان وهو اسير عالمين هما: عالم المشاعر والاحاسيس والموجودات المادية،

وعالم الافكار والمعقولات المجردة والقيم الروحية. ولعل اكثر المشكلات التي واجهها الانسان كانت نابعة من الانشداد الى واحد من هذين العالمين دون الآخر، فإما أن يكون والحالة هذه ماديا حسيا منغمساً في الواقع المحسوس، ولا ينظر الى أبعد من ذلك، فيلاحظ ما في الوجود والإنسان من تجليات روحية واشراقات معرفية، تسمو على ما يشترك فيه مع الحيوان من صور مادية عبّر عنها الشاعر في قوله:

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه فلم يبق إلا صورة اللحم والدمِ

أو يكون الانسان منجذبا الى عالم الروح والافكار المجردة، فينفصل عن الواقع المُعاش الذي يشترك فيه مع الاغيار، والواقع هو محل التأثير ومحط التغيير، ومن دونه لا يبقى للانتاج المعرفي الا قيمة ذاتية محضة تنتهي بانتهاء صاحبها او رحيله عن هذه الدنيا او قبل رحيله احياناً!

إذن ما هو الحل؟…إن الحل يكمن في الوسط العدل الذي يقع بين طرفين: أحدهما افراط والآخر تفريط، بمعنى أن يجمع الانسان بين عالم الواقع المحسوس ومتغيراته وعالم الروح المجرد في صفائه وثباته. وكما ان لهذه الاراء انعكاسات في نظرية المعرفة وفلسفة الأخلاق، فقد كان لها ايضا آثار على نظريات الادب والفن عبر العصور.

لقد قدمت بهذه المقدمة لكي تكون دليلا لنا في تحليل الانتاج الشعري الغزير والقيم الذي جادت به قريحة سماحة العلامة الحجة السيد حسين السيد محمد هادي الصدر (دام حفظه) في رثاء صديقه الصدوق ورفيق عمره الشاعر الدكتور السيد جودت القزويني (عليه شآبيب الرحمة)، وفي وقت يسير هو دون الاسبوعين!

وقد تنوعت المعاني والصور والقضايا المبثوثة في الرباعيات، بتنوع مظاهر الابداع عند الفقيد الراحل وهي كثيرة، ولذلك لا نستطيع أن نوفيها حقها في هذه العجالة، وهي تحتاج الى دراسة خاصة. يقول العلامة الشاعر السيد حسين الصدر:

(الرسائل الدامعة)

أشكو إليك صبابتي وولوعي يا مَنْ مضى مِنْ دونِ ما توديعِ أولستَ تدري أنني بكَ والهٌ ولانتْ عندي واحتي وربيعي وتركتَني والوجدُ ينخرُ مهجتي وحرارةُ الأحزان بين ضلوعي إني بعثتُ إليك ألفَ رسالةٍ ورسائلي امتزجتْ بفيض دموعي ****

إن اول ما يلفت انظارنا هنا هو فيض المشاعر التي يغلفها الأسى ويظللها الحزن العميق والذي يعبّر عنه في صور فنية تجمع بين الواقعية الصرفة والمخيلة الشعرية التي تمتاح

من نهر العاطفة والشعور الذي لا تبدو له نهاية . فالروح التي رحلت الى بارئها فجأة، دون أن نستطيع وداعها (يا مَنْ مضى مِنْ دونِ ما توديعِ)، والاخ الذي تولَّه به فكان له (واحة وربيعا)، لقد ذهب كل ذلك ولم يبق الا فيض دموعه واحزانه التي امتزجت بحروفه وكلماته!

ومن رباعية اخرى للسيد الصدر اقتطف هذين البيتين اللَّذين يستمدهما من صور الطبيعة ومناظرها الخلابة. فيصور شعر الفقيد كباقة الورد التي يطاف بها على الأصدقاء والأحبة، فيعم شذاها الجميع.. يقول:

كما يُحمل الوردُ في باقةٍ ويُهدى ليعبقَ عند الحبيبِ كذاك جعلتَ قوافيك ورداً

وكلٌّ له مِنْ شذاها نصيبْ

***

بمعنى ان الشاعر الفقيد كان كريما أو سخياً في ألوان الكرم المختلفة المادية والمعنوية، والكرم المادي هو الجود بالمال والطعام وما شابه، لكن الكرم المعنوي هو الجود بالشعر والادب على من يستحق، (وكل له من شذاها نصيب)!! وهذا التعبير الرمزي الفني عن الخصال الخلقية للفقيد، ينبئ عن شاعرية فياضة لسماحة السيد الصدر (دام حفظه)، قد تكون لها مصاديق كثيرة فيما كتب وانجز خلال الايام الماضية في رثاء صديقنا معا الاخ العزيز الدكتور السيد جودت. فعلى الرغم من انه فقيه ورجل علم في المقام الاول، لكنه

لم يقع في فخ النثرية، وأبقى للشعر خصوصيته التي تعبّر عن قضايا الانسان والمجتمع بالرمز والصورة الفنية حتى تصل الى مرادها.

والحق أن بين الشعر والفقه علاقة أخذ ورد، ودفع وشد، جعلت بعض الفقهاء يتحفظون على الشعر والشعراء، ربما بسبب الآيات المعروفة في سورة الشعراء التي وصفوا فيها بصفات سلبية، لكنها كانت تصف الشعراء الذين استغلهم طغاة قريش لهجاء الرسول (ص) كجزء من حملة اعلامية مكملة لمحاصرة الدعوة المحمدية وخنقها وهي في المهد ، ولكن الآية استثنت (الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) من الشعراء ، وهؤلاء من دعاهم رسول الله (ص) الى الرد على شعراء الغواية والضلال، فبرز اليهم شعراء مسلمون افذاذ امثال كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، يذبون عن حرم الرسول (ص) والرسالة بالسنتهم، كما يدافعون عنها بسيوفهم.

فقال حبيبنا المصطفى (ص): (( إن المؤمن مجاهد بسيفه و لسانه و الذي نفسي بيده لكأنما تنضخونهم بالنبل)). وورد عنه ايضا قوله (ص): ((إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا)) (*).

وكان للشعراء في عهد الائمة من أهل البيت (ع) وقفات غرّاء في زمن صعب حالك (عزّ ناصره وكثر واتره)، فكانوا بتضحياتهم مشاعل نور تضيء طريق الحرية، وحسبنا الإشارة الى الكميت الأسدي والسيد الحميري والحسين بن الحجاج البغدادي ودعبل الخزاعي، الذي كان شاعر المعارضة ضد استبداد الحكام وطغيانهم، حتى بلغ به الأمر أن يقول: أحمل خشبتي على ظهري منذ اربعين عاما، ولا أجد من يصلبني عليها!!

ولعل سير هؤلاء الشعراء التي تزخر بهم مدرسة اهل البيت (ع) الموشّحة بجليل الافعال ومكارم الاخلاق هي التي بددت الكثير من الهواجس المحيطة بهذا الموضوع، فظهر عدد غير قليل من الفقهاء الشعراء كالسيد محمد سعيد الحبوبي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محسن الامين والشيخ محمد رضا المظفر، وغيرهم. وقد شمل انتاجهم الادبي اغراض الشعر العربي المعروفة، ولكن اغلبهم قد برع في الرثاء، وبخاصة رثاء الامام الحسين (ع) ومصائب العترة الطاهرة، او رثاء اخوانهم وزملائهم من العلماء.

والرثاء من اكثر ما ينفعل به الشاعر فيفرغ دموعه وأحزانه، آلامه وآماله. وهكذا كانت قصيدة السيد الصدر في رثاء الفقيد السيد جودت، حيث يقول فيها:

أُقيمت ولكنْ في القلوب المآتمُ

وليلُ الجراحات المُمِضّةِ قاتمُ

وياموتُ ما أقساك تخطف (جودة)

لتُخفيَهُ عنّا فتَخفى المكارمُ

حبيبٌ عشقناهُ وقد طابَ روضُهُ

وهبّت علينا من شذاهُ النسائمُ

لقد كان فذّاً في الرجال وملهماً

وقد طفقت تبكي عليه الأعاظمُ

وليس عجيباً أن تضجَّ بلوعةٍ

عليه ونيرانُ اللظى تتعاظمُ

لقد كان ملءَ العين والسمعِ والحجى

وقد نهضت للمجد منهُ العزائمُ

****

لقد اختار الشاعر هنا البحر الطويل، وهو اختيار موفق، لأن إيقاعه الموسيقي عميق يشوبه الحزن والتأثر العاطفي الشديد، لكنه تأثر لا يسحق الذات أو يشلها عن الفعل، لأن الفقيد أحد الاعلام الذين جمعوا بين مواهب عديدة يؤكدها الواقع الموضوعي. فالذاتية إذن مطلوبة (أقيمت ولكن في القلوب المآتمٌ…وليل الجراحات…) وغير ذلك من الصور التي عبر فيها الشاعر عن آلامه وأحزانه، لكن انعكاس ذلك الحدث في ما هو خارج الذات (الموضوع) موجود ايضا (وقد نهضت للمجد منه العزائم)، والعمل الفني المتكامل هو الذي يستطيع التوفيق بين الذات المبدعة وتجلياتها في الواقع المعاش، وقد وفّق الفقيه الشاعر العلامة الصدر في جمع طرفي هذه المعادلة الى حد بعيد.

وأعود الى الرباعيات فأشير الى رباعية مهمة وجميلة تخلد الجانب الفكري في تراث د. السيد جودت، وهي بعنوان (صروح الفكر):

بنى الصروح ولكن لم تكن حجرا وراح ينفقُ في إرسائها العمرا صروحه في قلوب الناس قائمة وبالمكارم طابت حرّك الوترا ما خانه فكره الوقّاد في نظر وراح يزجي رؤاه الغرّ مبتكرا ومن تعشّق دنيا الفكر فاز كما أبقى بآثاره ذِكراً له عطرا

****

لاشك ان الجانب الفكري يغلب عليه التعبير العلمي والمنطقي الصارم، وهذا نابع من خصوصيته التي تعنى بالمصطلحات والبراهين والماهيات المعبرة عن حقائق الاشياء بذاتها، لا كما تبدو في ذهن هذا الانسان او ذاك، وهو بخلاف الجانب الادبي الذي ينهل من عالم الشعور والمخيلة، وصوره البلاغية التي تحتمل اكثر من وجه، يرجحه اسلوب

الشاعر، ومكوناته الذاتية والنفسية، وليس براهينه العقلية والمنطقية! أستثني من ذلك أصحاب الشعر الفلسفي الخالص كأبي العلاء المعري قديما وجميل صدقي الزهاوي حديثا.

وإزاء هذين الاسلوبين أو الخطين المتعارضين يقف شاعرنا السيد الصدر ايضا موقفا متوسطا يجمع بين الطابع العقلاني للفكر والطابع الوجداني للشعر من خلال طريقته في التعبير عن قضايا الفكر بالصور الفنية والجمالية، ببساطة ودونما تكلف أو تقعر!!

هذه البساطة التي قد يراها البعض أمرا يهوّن من الجوانب الابداعية لأي نتاج شعري، ذلك لأن الشعر – في زعمهم- كلما استغرق في الرمزية وأمعن في الغموض كان عميقا!!..والحق إن البساطة في عرض القضايا الانسانية والتعبير عنها فنيا وجماليا دون ان نضحّي بالجوانب الفكرية والعبر السياسية والاجتماعية الي يمكن أن تثيرها، هو اصعب في كثير من الأحيان من شعر يصطنع الغموض والإلغاز، لكي يقال أنه (حداثي)!!

وختاما يمكن القول: إن الشاعر عمر الخيام قد اشتهر برباعياته التي بهر بها العالم القديم والحديث، كما اشتهر الشاعر المجدد الشيخ علي الشرقي برباعياته التي اسماها (البلبل السجين) والتي مهدت سبل التجديد في الادب العراقي اوائل القرن العشرين ، فهل يعيد العلامة السيد حسين الصدر (دام حفظه) برباعياته في رثاء صديقنا العزيز الدكتور جودت القزويني –رحمه الله- التألق الى هذا اللون الادبي في القرن الحالي؟ إنه سؤال ستجيب عنه الدراسات النقدية المفصلة والمعمقة في قابل الايام، وما قدمتُهُ هو مجرد ومضات في هذا الطريق.

والله من وراء القصد

أ.د. إبراهيم العاتي

عميد الدراسات العليا

الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية (لندن- المملكة المتحدة)

(*) الطباطبائي، العلامة السيد محمد حسين ، تفسير الميزان، ج15، ص270.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here