ماذا كان ينتظر العراق وما الذي خططوا له بعد 2003؟؟؟(2)

د. كرار حيدر الموسوي
وعندما يتم استكمال تدريب القوات العراقية بأعداد كبيرة، وتثبت جدارتها فى عمليات مقاومة التمرد يمكن للقوات الأمريكية أن تبدأ فى الرحيل. وهذا التحول فى أسلوب عمل القوات الأمريكية سيكون له فوائد كثيرة. أولها أنه سيوقف العنف الذى يهدد الآن بالانتشار إلى مناطق يسودها السلام حالياً فى العارق. كما سيوفر الوقت الذى تحتاجه الولايات المتحدة لتجهيز قوات عراقية إضافية لتحمل عبء فرض الأمن والاستقرار فى العراق، هذا بالإضافة إلى فرض القانون والنظام على المستوى المحلى سيكون من شأنه زيادة شرعية النظام السياسى الجديد والمنتخب فى العراق، وبما يمكن من استئناف عمليات البناء وإعادة التعمير فى المناطق المستقرة من العراق. وكلما ظهر للعيان قوات أمن كبيرة، كلما اقتنع العراقيون بأن التعاون مع السلطات لن يؤدى بهم لأن يكونوا فريسة للمتمردين والمجرمين. كما سيظل النظام الحاكم فى العراق قريباً من الولايات المتحدة، أما بالنسبة للكلفة المادية- والتى هى مرتفعة حالياً- فإنها لن ترتفع بدرجة كبيرة عن مستوى ما ينفق الآن على المستوى الحالى من القوات. أن التحول نحو مواجهة التمرد يجعل تحقيق الولايات المتحدة لأهدافها أكثر احتمالاً مما تسير الطريقة الحالية، ولكنه بلا شك تحول أكيد المفعول. إن مواجهة التمرد هو اختيار غاية فى الصعوبة فى مواجهة عدو متحصن جيداً، وعلى الخصوص عندما يتم توجيهه بواسطة قوى خارجية. ولا توجد هناك تكنولوجيا عسكرية أو تكتيك سهل يتيح للولايات المتحدة الكشف عن هوية 20.000 مقاتل متمرد يزرعون القنابل فى الطريق، أو يصطادون الجنود ببنادقهم القناصة قبل أن يذوبوا فى وسط السكان. ومازال على عاتق الولايات المتحدة أن تقوم بتدريب القوات العسكرية العراقية، وأن ترعى حكومة ديمقراطية لا تزال ضعيفة، وأن تفرض النظام والقانون فى أجزاء من العراق بها توتر، وإن كانت حالياً تعتبر مناطق آمنة فى العراق، وإلا فإن عليها أن تقوم بأعمال متناهية الصعوبة. وعلى هذا فانه إذا انغمست الولايات المتحدة فى هذا الطريق، فربما سيكون عليها أن تتحمل تضحيات كثيرة، فى حين سيكون العائد فى النهاية ضئيلاً. إن الجوانب السلبية ستكون كثيرة وعلى القوات الأمريكية أن تراعيها حتى يتم فرضه الأمن والاستقرار فى البلاد. وأهم ما فى هذا الموضوع أن النظام السياسى الجديد سوف يتمتع بالشرعية فى المناطق المستقرة من العراق وليس فى المناطق التى تسودها الاضطرابات. وستظل حدود العراق مع جيرانها مفتوحة على مصراعيها وحتى أكثر مما هى عليه الآن، كما أن الإطار الزمنى لتنفيذ هذه الاستراتيجية وجنى ثمارها ممتد، وقد يستغرق ذلك سنوات، وقد تواجه هذه الاستراتيجية نكسات متعددة فى المدى القصير. وهكذا سيتعين على الولايات المتحدة أن تخطط لالتزامات بعيدة المدى تجاه العراق من أجل نجاح هذا الخيار. أما الأكثر أهمية، فإن هذه الطريقة المقترحة للتعامل مع القضية العراقية سوف تسمح للمتمردين بالحصول على مأوى لهم فى أجزاء من العراق. فقد ثبت تاريخياً أن المتمردين تقوى شوكتهم عندما يكون لهم ملاذ أمنى يشنون منه عملياتهم. لذلك فإن انسحاب الولايات المتحدة من المناطق السنية التى تكثر فيها الاضطرابات، سوف يخلق من جديد المشاكل التى واجهتها الولايات المتحدة فى الفالوجة فى الماضى، وبما يسمح للمتمردين بإعادة تنظيم أنفسهم فى الأماكن التى يأوون إليها، ويتدربون ويجندون مزيداً من الأنصار، وبما يجعلهم يعيشون فى أمان، وبالتالى يمكن المتمردين من شن هجماتهم ضد المناطق المستقرة فى العراق. ومع زيادة قوة المجاهدين فى المناطق السنية، سيتمكنون من فرض نفوذهم بقوة على هذه المناطق من العراق. وبالإضافة إلى هذه السلبيات والعقبات فإن هذا الحل الوسط التصحيحى يتطلب إجراء أربعة تحولات هائلة يمكن تنفيذها جميعاً، لكن لا يبدو أى منها واقعياً من الناحية السياسية. الأول هو إجراء زيادة فى حجم القوات، إلا أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تفرض الأمن والاستقرار فى كل أنحاء العراق، حتى وأن اتبعت فى ذلك طريقة مواجهة متمردين محدودين بقوات كبيرة. فقد نشرت المملكة المتحدة 20 فرداً من قوات الأمن لكل 1000 شخص فى أيرلندا الشمالية، وهى نسبة تجعل الولايات المتحدة تزيد من حجم قواتها فى العراق إلى نصف مليون (500.00 جندى). هذا بالإضافة إلى أن حجم التمرد فى العراق أصبح كبيراً (فى ايرلندا الشمالية، بلغ عدد القوات شبة العسكرية البروتستانت والجيش الجمهورى الإيرلندى حوالى 1500 فرد) بحيث أصبح القضاء عليه عملية تفوق فى صعوبتها عملية فرض الأمن والقانون فى البلد من أجل منع اندلاع العنف. أضف إلى ذلك صعوبة أخرى تتمثل فى أن أهالى العراق لا يتكلمون لغة القوات الأمريكية، فى حين كانت القوات البريطانية فى ايرلندا تتحدث بنفس لغة سكانها ويملكون نفس الثقافة المعرفية. يدلنا هذا على أن المستوى الحقيقى لحجم القوات الأمريكية لكى يكون فاعلاً فى مواجهة المتمردين بالعراق يجب أن يكون أكثر من 500.000 جندى. وهذا الخيار يبرز لنا حجم الفجوة بين ما يجب أن يكون وبين ما هو متاح حالياً (160.000 جندى)، ويدعو بالتالى للتركيز على بغداد وعلى الأماكن الأخرى الأكثر أمناً فى العراق، وهو ما سيترتب عليه أن يكون حجم القوات أقل بكثير مما ينبغى أن يكون. ذلك أن عدد سكان بغداد قرابة خمسة ملايين نسمة، كما يشكل الشيعة والأكراد غالبية السكان وعلى أى حال ستكون هناك حاجة لسحب حجم قليل من القوات من المناطق الأكثر خطورة – ربما نصف هذا العدد. ويبقى السؤال: من أين سنأتى بهذه القوات؟ تستطيع القوات العراقية أن تسد جزءاً من هذه الفجوة، بتقديم عدة عشرات آلاف من القوات. إلا أن المشكلة تتمثل فى أن القوات العراقية ليس لديهم التدريب الكافى الذى يؤهلهم للقيام بالعمليات الخطيرة. كما أن بإمكان الولايات المتحدة أن تحصل على مزيد من القوات وتضيف عدة فرق لما هو موجود حالياً بالعراق، ورغم أنها عملية مكلفة إلا أنها ممكنة. وتحقيق ذلك بأن تقوم واشنطن بإعادة نشر وتوزيع قواتها، وجلبهم إلى العراق من قواتها المتواجدة فى أوروبا وشبه الجزيرة الكورية، رغم أن كثيراً من هذه القوات المتمركزة بهذه المناطق إما فى طريقها إلى العراق أو عائدة منه. كما أن باستطاعة الولايات المتحدة أن تمد فترة خدمة قواتها المتواجدة بالعراق إلى أكثر من الـ 12 شهراًً المفروضة. ويتطلب التحول الثانى من الولايات المتحدة تغيير نوعية القوات التى لديها فى العراق إذا كان عليها محاربة المتمردين محاربة فعالة. إن مفتاح استعادة الانضباط والانتصار فى حرب المدن يتطلب نوعيات أخرى من القوات منها الشرطة العسكرية وقوات العمليات الخاصة والمشاه خفيفة الحركة المدربة تدريباً جيداً. وتحتاج الولايات المتحدة فى العراق إلى أعداد أكبر من الشرطة والمتحدثين باللغة العربية السليمة، أكثر من حاجتها إلى أفراد عسكريين فى عرباتهم المدرعة المدججة بالسلاح. كما ينبغى على القوات الأمريكية أن تكون قادرة على الانتشار فى مناطق عملها لفترات طويلة من الزمن فى شكل وحدات صغيرة، وهو الاتجاه الذى لا يشجع عليه البناء الحالى للقوات الأمريكية. إن بناء قوات مثالية لمواجهة المتمردين سيستغرق سنوات، ربما سيؤدى إلى ترك الولايات المتحدة عاجزة وقصيرة اليد عن مواجهة تحديات السنوات القادمة. لذلك فإن هذه التحولات المكثفة والواسعة من المحتمل أن يقاومها الضباط العسكريون والمسئولون المدنيون على السواء وذلك لسببين: السبب الأول ويتمثل فى المردودات السياسية لسحب قوات أمريكية من أوروبا أو من كوريا الجنوبية، إذ سيكون منبئاً بأن الأمن الذى تضمنه الولايات المتحدة على المدى الطويل لهذه الدول سيكون محدوداً. أما السبب الثانى فيتعلق بالثقافة العسكرية الأمريكية والتى ستبقى مركزة على كسب حروب ذات حدة عالية بشكل حاسم، مثل الهزيمة الاستهلالية لقوات صدام حسين فى حرب العراق عام 2003. لذلك فإن جعل الجيش الأمريكى بمثابة قوات لمقاومة التمرد وقوات احتلال سيواجه بمقاومات بيروقراطية شديدة. أما التحول الثالث فهو فى كيفية استخدام القوات. حيث تحتاج قوات الولايات المتحدة لتكون قادرة على محاربة كل من الجريمة والمتمردين إلى أن تختلط وتمتزج أكثر فأكثر بالسكان المحليين على مستوى القرى وما يجاورها من محليات، وذلك كجزء من فرق أمريكية – عراقية مشتركة لنشر الأمن، بدلاً من أن تظل قابعة فى ثكناتها المختلفة. وسيكون لهذا الاندماج بالسكان ثمن باهظ، ذلك لأن بعثرة القوات فى مجموعات صغيرة يؤدى على المدى القصير إلى زيادة الخسائر فى أرواح الأمريكيين، وبالتالى يقلل من التأثير الشعبى الذى تلقاه القيادة السياسة الأمريكية داخل الولايات المتحدة لبقاء قواتها فى العراق. كما ستواجه الولايات المتحدة صعوبات وهى تزيد من حجم أعمالها على المستوى المحلى بسبب ما يعوزهم من إجادة اللغة والثقافة، وذلك على عكس البريطانيين فى ايرلندا الشمالية أو الإسرائيليين فى الضفة الغربية. ذلك لأن العراق تعتبر أرضاً مجهولة بالنسبة للولايات المتحدة، حيث يلزم للقوات الأمريكية الاعتماد على مترجمين (الذين هم أنفسهم معرضون للخطر الدائم، كما يمكن للمتمردين استخدامهم بسهولة لجمع المعلومات والعمل لحسابهم). ويكمن التحول الرابع والأخير فى حسن البناء، ولكى نسلك فى هذه الوجهة على الولايات المتحدة أن تتخلى عن أجزاء من العراق لكى تتمكن من تركيز قواتها فى المناطق المهمة مثل بغداد. ويتطلب هذا الأمر اعتراف إدارة بوش بأن حجم المشكلة التى تواجهها الولايات المتحدة فى العراق كبير جداً، وهو ما يتطلب زيادة حجم القوات الأمريكية هناك، وحيث ستبقى هناك لبعض الوقت – وكلاهما سيكون أمراً صعباً ومن الناحية النظرية فإن التحول المطلوب لمواجهة التمرد له ميزات عديدة تتفوق على النهج المتبع حالياً، وتفتح أمامنا الأمل الكبير فى استعادة الانضباط فى العراق على المدى الطويل، ويؤمن فى نفس الوقت قيام حكومة تحظى باحترام الشعب هناك. أما التكاليف على الأمد القصير، وبخاصة فيما يتعلق بانتشار المجاهدين على معظم الساحة العراقية، فهى باهظة، كما سيكون الثمن المقابل كبيراً. ذلك لأن التحولات العسكرية – مهما كان الأمر- هى أكثر العوائق مقارنة بالكلفة السياسية والتى ستجعل من غير المحتمل أن تقبل الإدارة الأمريكية بتبنى هذا الخيار. هذا بالإضافة إلى أن تشكيل قوة مؤثرة للعمل ضد المتمردين سيستغرق وقتاً فى تكوينها، وهو وقت قد تكون الولايات المتحدة فى حاجة إليه بالعراق. الانسحاب: تحرك خطير ولأن نجاح نهج العمل الجارى حالياً فى العراق ليس من المحتمل أن ينجح، بالإضافة إلى عدم احتمالية حدوث تصعيد كبير أو تغيير فى طريقة تعامل الولايات المتحدة مع الموقف الناشب فى العراق، لذلك تبدو مسألة ترك العراق قوية الاحتمال. ذلك لأن تشابه الوضع هناك مع وضع القوات الأمريكية فى فيتنام ينذر بالسوء: حيث يوجد تمرد لا يهدأ، وحكومة مشكوك فى شرعيتها، بالإضافة لاستراتيجية أمريكية فاشلة. فإذا ما قورن العراق حقا بفيتنام فإن أفضل الرهانات ببساطة هو أن يكون على الولايات المتحدة وحلفائها أن يخرجوا الآن بدلاًًًً من الاستمرار فى قتال لا جدوى من ورائه، وعلى استعجال الهزيمة المحتومة. وفى الحقيقة، لم يكن انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام واستيلاء الشيوعيين على فيتنام الجنوبية مأساوياًً بالنسبة لأمن الولايات المتحدة، رغم أنه كان مرعباً لشعب فيتنام الجنوبية. فبالانسحاب من العراق، سيتوقف نزيف ضياع الأرواح والدولارات على الأقل من الجانب الأمريكى. وسوف تزداد شرعية النظام الجديد تلقائياًً حيث لن ينظر إلى الحكومة العراقية التى ستتواجد بعد ذلك على أنها حكومة عميلة للولايات المتحدة التى نصبتها بالقوة فى الحكم. كما سيهدأ غضب المسلمين المعترضين على الاحتلال الأمريكى لأحد المراكز التاريخية للعالم الإسلامى، وبذلك يمكن على الأقل إزالة مصدر من مصادر وأسباب معارضة الولايات المتحدة. كما يمكن الاستفادة من المصادر الوفيرة فى العراق باستخدامها لمحاربة بن لادن والمجاهدين التابعين له فى أفغانستان وأماكن أخرى، هذا إلى جانب أن انسحابا أمريكيا من العراق سيزيل التوتر الدائم فى العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، فلا شئ يدعو للعجب، ذلك أن نداءات الانسحاب تأتى فيما وراء دوائر الانعزاليين المتواجدين فى أقصى اليمين المتطرف وأقصى اليسار المتطرف. وقد دعا الفريق المتقاعد William Odom المدير الأسبق لوكالة الأمن القوى فى صيف 2004 الولايات المتحدة للبدء فى تنفيذ انسحاب استراتيجى في الحال من العراق. وقد ينطوى الخروج من العراق على كوارث كثيرة تفوق البقاء جامدين فيه. فسيعتبر المجاهدون الأجانب أن هذا الخروج هو انتصار لهم، بحجة أن الولايات المتحدة هربت من شدة وطيس القتال وسيتحول العراق بالتالى إلى ساحة يلتقى على أرضها الراديكاليون المتطرفون، يتدربون ويقاتلون ويشكلون روابط تستمر فيما بينهم عندما يتركون العراق ويذهبون لنشر الإرهاب فى بلدان الغرب أو إلى أى بلد آخر فى المنطقة يتوجهون إليه. وقد يقتصر وجود المجاهدين فى العراق على عدة آلاف قليلة من المقاتلين، ولكن لهم نفوذ كبير فى حالة غياب قوة مضادة لهم. ذلك لأن مناطق بأكملها فى العراق وبخاصة المناطق السنية مثل محافظة الأنبار – واقعة تحت سيطرتهم وستشكل هذه المناطق قواعد يستطيع المجاهدون أن ينظموا أنفسهم ويتدربون لينطلقوا منها لضرب الولايات المتحدة ومنشآت التحالف فى مناطق مختلفة من العالم، بما فى ذلك المنشآت التى بداخل الولايات المتحدة ذاتها. كما أنه من المحتمل بصفة خاصة أن يصلوا إلى المملكة العربية السعودية ويضربوا داخلها، لاسيما وأن الحدود الطويلة بين العراق والسعودية غير مؤمنة بدوريات حدودية بدرجة كافية، أضف إلى ذلك اهتمام المجاهدين الكبير بزعزعة نظام آل سعود، وقد يؤدى مثل هذا التطور المحتمل للأحداث بالولايات المتحدة إلى إعادة غزو العراق مرة أخرى كما فعلت فى أفغانستان لكى تدمر قواعد المجاهدين. وعند هذه المرحلة من السيناريو تنهار مقولة التشابه مع فيتنام. فمن العراق قد يستمر المجاهدون فى نضالهم المنتشر فى أرجاء العالم ضد الولايات المتحدة وحلفائها فى المنطقة، وهو ما يعادل تصميم الفيت كونج على ضرب كاليفورنيا واستراليا بعد أن استولوا على سايجون، وستكون المملكة العربية السعودية فريسة سهلة بسبب القلاقل التى يسببها المجاهدون فى هذا البلد، لاسيما فى ضوء حدودها الطويلة المفتوحة مع العراق. هذا بالإضافة إلى أن العراق على النقيض من فيتنام الفقيرة، يعتبر العراق غنياً بالمصادر الطبيعية وفى منطقة حساسة من العالم (حيث تعج بالمصالح الاقتصادية والعسكرية لبلدان العالم الغربى وفى مقدمتها الولايات المتحدة. ولأنه حتى الآن لا يوجد للعراق سوى قوات أمن وشرطة وطنية قليلة العدد وذات كفاءة محدودة بإمكانها سد الفراغ الأمنى الذى سينتج بعد رحيل القوات الأمريكية، فمن المحتمل أن تندلع الصراعات الداخلية بحدة، وبما يؤدى إلى انزلاق العراق نحو حرب أهلية. وفى مثل هذه الظروف ستجد القوات العراقية التى دربتها الولايات المتحدة نفسها عاجزة عن مواجهة الموقف، وسيكون أفراد الأجهزة الأمنية العراقية أقل قدرة عماهم عليه الآن فى حماية عائلاتهم من ردود فعل المجاهدين، ويفقدهم القدرة على مواجهة المتمردين والمجرمين. وسيكون من المحتمل جداً أن ينشأ تعاون بينهم وبين أعداء الحكومة، أو قد يلجأون إلى هروب جماعى. وقد يجد السكان الشيعة – الذين لم يقوموا حتى الآن بأى اعتداءات ضد أى جماعات أخرى – أنفسهم مضطرين إلى الدخول فى حرب أهلية مع مليشيات الطوائف الأخرى، إذا ما تركوا بدون أى حكومة تحميهم. هذا بالإضافة لاحتمال أن يشتعل العنف فى المناطق التى تسكنها طوائف عرقية مختلطة مثل كركوك. حيث يطالب الأكراد الذين يملكون ميليشيات عسكرية وطنية خاصة بهم ومنظمة جيداً (البشمرجة) بحكم ذاتى أو حتى بالاستقلال عن العراق، الأمر الذى سترد عليه تركيا بالتدخل لمنع قيام دولة كردية فى الجهة الأخرى من حدودها الجنوبية. وفى إطار هذا السيناريو سوف تتلاشى آمال الديمقراطية، وتتلاشى أيضاً على جانبها الآمال المعقودة على قيام دولة عراقية موحدة فى غياب الأمن الذى كانت توفره الولايات المتحدة. ولن تكون للحكومة المنتخبة القدرة والقوة اللازمة لتنفيذ قراراتها. وسيكون من الطبيعى أن يلجأ العراقيون الخائنون إلى (بارونات الحرب) العسكريين لحمايتهم من المجرمين والمجموعات المسلحة المتناحرة. وقد لا تثق المجموعات العرقية والطائفية فى بعضها البعض لكى تمتثل إلى تعهدات ومواثيق طويلة الأمد قد تبرمها فيما بينها. فعلى سبيل المثال قد يخش الأكراد أن تتراجع الحكومة الجديدة عن الوعود التى قدمتها لهم بمنحهم حكماً ذاتياً على مستوى عال، هذا إذا ما قويت شوكتها مما يجعلها ترفض أى مستويات. هذا بالإضافة إلى أنه فى حالة انسحاب الولايات المتحدة من العراق، فسوف تجد إيران نفسها حرة فى استغلال نفوذها القوى حالياً فى العراق. إلا أنه سيكون من المبالغة القول بأن يتحول العراق ليصبح وكيلاً عن إيران. ذك لأن معظم الوطنيين العراقيين لا يحبون إيران ولا يعجبون بالنظام السياسى الدينى القائم فيها، بما فى ذلك معظم الشيعة. رغم ذلك فإن نفوذ إيران فى العراق سيزداد بلاشك بشكل هائل فى حالة انسحاب أمريكى من العراق، لأن أموال طهران وعملائها ستجعلهم يشوهون سمعة الزعماء العراقيين الوطنيين الذين يكنون العداء لإيران ويساندون فى المقابل أولئك الذين يفضلون الارتباط بالمصالح الإيرانية، وذلك وسط محيط إقليمى ومحلى تسوده الفوضى السياسية. وربما يكون من بين القوات المنظمة القليلة الباقية فى العراق بعض وحدات من القوات المسلحة والأجهزة الأمنية التى ذاقت الولايات المتحدة الأمرين لتشكيلها، وقد تكون هذه القوات أيضاً عاجزة عن اقتلاع المتمردين. ومهما كان الأمر فإن القيادة المدنية ستكون هدفاً سهلاً جداً الإطاحة بها، وبهذا يكون العراق عرضة مرة أخرى للعودة إلى سنوات الانقلابات العسكرية التى وقعت فى الستينيات، ومخاطر العودة إلى ديكتاتورية مثل نظام صدام حسين. وإذا ما نفضت الولايات المتحدة يدها من العراق فستكون الأجهزة الأمنية التى تم بناؤها فى موقف لا تحسد عليه، حيث ستكون فى غاية من الضعف بحيث لا تستطيع فرض الأمن، ولكنها ستظل أقوى من أى منافسين محليين وفى حالة شيوع الفوضى فى العراق من المتوقع أن يطمع القادة العسكريون إلى التدخل وفرض أنفسهم وسيواجهون فى هذه الحالة معارضة ضعيفة، وقد يرحب بهم الكثير من السكان إذا ما أتاحوا لهم الأمل فى فترة راحة من الجريمة والاقتتال الداخلى. وفى هذا السيناريو ستعانى الولايات المتحدة أيضاً من فقدان مصداقيتها، لاسيما من جانب المجاهدين، وأيضاً على المستوى العالمى بصفة عامة. وسوف يصور المجاهدون انسحاب الولايات المتحدة من العراق باعتباره انتصاراً عظيماً لهم يعادل أو حتى يتجاوز النجاح الذى تحقق بطرد الاتحاد السوفيتى من أفغانستان. ويسخر حالياً بن لادن من الولايات المتحدة معلناً أنها متورطة في العراق مستنقع. وسوف يثبت نجاح من دون أن الولايات المتحدة سيكون عليها أن تنسحب دائماً من كل موقع عندما تواجه مقاومة عنيفة، وهو ما شجع المجاهدين على خلق الاضطرابات والقلاقل ضد الحكومات الأخرى الى يعارضونها، وأيضاً ضد تدخل الولايات المتحدة فى أى مكان أخر من العالم مثل أفغانستان والبلقان. وسوف تعانى أيضاً هيبة الولايات المتحدة من ضربة قاصمة من خارج دوائر المجاهدين، فبسبب عدم ثبوت وجود أسلحة دمار شامل فى العراق، أو شواهد تدل على وجود علاقة بين حزب البعث فى زمن صدام حسين وتنظيم القاعدة على عكس ما كانت تزعم إدارة بوش لتبرير حربها ضد العراق عام 2003، فإن ما تبقى من حطام شرعية هذه الحرب التى لم يؤيدها العالم سيتوقف على ضمان وجود حكومة عراقية ماهرة فى العراق. إن السماح بانحدار العراق إلى مهاوى حرب أهلية أو تسلط حكم استبدادى عليه سيجعل من جهود الولايات المتحدة المستقبلية فى العراق أمراً أقل اقتناعاً بالنسبة للعالم. حيث سيتحول الرأى العام العالمى من مجرد النقد الحالى لاحتلال الولايات المتحدة للعراق، إلى نقد الولايات المتحدة لتركها العراق فى حالة فوضى عارمة. ورغم أن الهيبة والمصداقية أمران مهمان بالنسبة للولايات المتحدة، إلا أنهما لا يساويان استمرار ضياع أرواح الأمريكيين وانفاق الدولارات. ورغم كل ذلك، ولأن هذا الخيار سيجعل من الولايات المتحدة أقل أمناً بالنظر لحقيقة استمرار تهديد المجاهدين لها فى العراق، وهو ما يبدو كارثة مفجعة. خفض القوات: أقل الخيارات سوءاً؟ أن أجدى طريقة تبدو واقعية وتنطوى على أقل تضحيات يمكن للولايات المتحدة تحملها، قد تتمثل فى أجراء انسحاب محدود للقوات، مع الإبقاء على وجود صغير لقوات تقليدية ذات غطاء جوى قوى، وتسهيلات تدريبية. وقد يبدو هذا الخيار بعيداً عن المثالية، إلا أنه رغم ذلك فإن تكاليفه يمكن تحملها، كما أن احتمالات نجاحه – ولو على مستوى محدود جداً – تبدو معقولة. وكجزء من خطة مناسبة لخفض حجم القوات، يتعين على الولايات المتحدة أن تقوم بطريقة مستمرة ومنظمة بالخفض التدريجى لحجم وجودها فى العراق خلال الشهور القادمة، وبحيث لا تترك البلد مرة واحدة. كما يجب أن يتكون الوجود الأمريكى من ثلاثة عناصر: قوات من الجيش بحجم فرقة أو وحدة من فيلق مشاة الأسطول (مارينز) تدعمها بعض التخصصات الإضافية مثل وحدات شئون الخدمة المدنية (مكونة من 15.000 – 20.000 جندى)، بالإضافة إلى وجود بعض وحدات استشارية (مثل عدة كتائب قوات العمليات الخاصة والمارينز)، إلى جانب وحدات استطلاع واستخبارات كبيرة. ويمثل هذا التواجد العسكرى يمكن للولايات المتحدة أن تخلق قوة تستطيع التأثير فى العراق ولكن لا تسيطر عليه. وسيكون بمقدور الفرقة الأمريكية أن تدعم وتساند القوات العراقية، وتمنع جيرانه من التدخل فى شئونه، وإن كان من النادر وغير المحتمل أن تبادر من نفسها بشن حرب على العراق. وهذه القوات الأمريكية يمكن أن تعمل باعتبارها قوات إضافية ترجح كفة الميزان لصالح قوات الحكومة العراقية على الميليشيات المحلية المتواجدة فى مناطق كثيرة. وحجم فرقة أمريكية يعد قوة صغيرة نسبياً عندما يقارن بالوجود العسكرى الأمريكى المكثف فى العراق اليوم، أو بالأعداد الضخمة لجيوش الدول الأخرى فى المسرح الإقليمى المجاور. ولكن عندما ترتبط أعمال قتال هذه القوة البرية من الجيش الأمريكى، بأعمال قتال القوات الجوية الأمريكية المتواجدة فى المنطقة فإنهما يشكلان معاً وجوداً قتالياً فاعلاً للدفاع عن العراق، الأمر الذى يحد من القوة العسكرية لإيران أو دول أخرى مجاورة. أما الأكثر أهمية من كل ذلك أن هذه القوة العسكرية الأمريكية ستمثل رمزاً لالتزام الولايات المتحدة بحماية أمن العراق الخارجى، الأمر الذى يثبط همة أى معتد خارجى عن التدخل فى العراق. كما تستطيع هذه الفرقة أيضاً منع قيام أى انقلاب عسكرى، لأنه سيكون بإمكانها نجدة نظام عراقى ضعيف ولكنه شرعى ضد الجنرالات مثيرى القلاقل. أما المهمة الأساسية لقوات العمليات الخاصة وكتائب المارينز فستكون القيام بالتدريب، حيث بإمكانهم مساعدة العسكريين العراقيين على تحسين مهاراتهم، ولكنهم لا يقومون بالقتال نيابة عنهم. وفى بعض الأحيان يمكن لقوات العمليات الخاصة القيام بشن غارات على معاقل المجاهدين بالاشتراك مع القوات العراقية. ويمكن للكثير من وحدات العمليات الخاصة أن تنتشر بين حلفاء الولايات المتحدة فى المنطقة، علاوة على تخفيض الوجود الأمريكى فى العراق ذاتها. وفى بعض الأحيان أيضاً قد تستخدم الولايات المتحدة قوة نيرانها المكثفة (مقاتلات ومدفعية وصواريخ) ضد القواعد المحتملة للمتمردين، خاصة بواسطة القصف الجوى، أو بأى منصات أخرى متاحة، حتى وأن أدى ذلك إلى وقوع خسائر فى المدنيين لا يمكن تجنبها. وسيساعد الوجود الاستخباراتى الولايات المتحدة على الحصول على المعلومات المتعلقة بتهديد المجاهدين والانشقاقات الحزبية وغير ذلك من المسائل الحيوية الأخرى. إن قدرة الولايات المتحدة فى سرعة إغداق الأموال على بعض العناصر العراقية عندما يحدث موقف ما، سيمكن الولايات المتحدة من تقوية أو عزل القادة المحليين. وفى واقع الأمر على الولايات المتحدة أن تسعى وراء الحفاظ على خياراتها مفتوحة، وقادرة على العمل مع جميع الزعماء والقادة تقريباً ممن قد يسعدهم الحظ ويطفون على السطح فى تحول سياسى سريع لا يمكن تجنبه. أيضاً على الولايات المتحدة أن تعمل للتعرف على طبيعة شخصيات لوردات الحرب (قادة الميليشيات العسكرية وشبه العسكرية) المحليين ذوى الكفاءة، ولديهم الاستعداد للمشاركة فى هزيمة المتمردين، وهؤلاء القادة بدورهم يجب إغداق الدولارات الوفيرة عليهم وتدريبهم، وإذا ما تطلب الأمر إمدادهم بالمعلومات الاستخبارية والسلاح، لذلك يجب أن تكون لدينا صورة واضحة وغير مخادعة عن كثير من هؤلاء الحلفاء. ورغم أن هؤلاء ينبغى أن يكونوا من الناحية النظرية مثاليين من حيث الكفاءة العسكرية والليبرالية الديمقراطية، إلا أنه فى واقع الأمر يحتمل أن نجد كثيراً منهم من ذوى الحرص فقط على إظهار الوجاهة بين الناس، أو قطاع طرق ليس لديهم صبر على تحمل الديمقراطية. إن المزايا التى ستعود علينا من تقليص حجم القوات فى العراق ستكون عظيمة. فالخسائر فى الأرواح والدولارات ستنخفض إلى مستويات كبيرة وبما يمكن تحمله، وهذه فائدة كبيرة حيث ستمكن الولايات المتحدة من توجيه إنفاقها إلى أولويات أخرى. هذا إلى جانب زوال الضغط والتوتر القاسى الواقع حالياً على المؤسسة العسكرية الأمريكية، كما ستتقلص مشاكل التجنيد والاستبقاء فى الخدمة مستقبلا. وبذلك ستكون العسكرية الأمريكية قادرة بشكل أفضل على تأمين أهداف سياسية أخرى، مثل الردع فى شبه الجزيرة الكورية أو تقوية الحكومة فى أفغانستان. وفى المقابل سيتعين على الحكومة العراقية أن تعمل مع ما تبقى من وجود أمريكى، وبمرور الوقت تخرج من الظلال التى تحيطها وتمارس مهامها بوضوح. وعندما تضع الحكومة العراقية على عاتقها المسئولية الأكبر فى الأمن، فسوف يقربها ذلك إلى الشرعية بأكثر مما عليه الآن. وبالمثل فإن التخفيض المكثف للوجود العسكرى الأمريكى فى العراق سيبعث برسالة صريحة للعالم بأن واشنطن لا تجرى وراء احتلال العراق نهائياً، وهى رسالة يجب أن يعززها إعلان واضح بأن أى وجود أمريكى طويل الأمد سيكون بموجب قرار تتخذه الحكومة العراقية الجديدة. هذا مع وجوب تشجيع أى حكومة وطنية تأتى إلى السلطة فى العراق على إظهار استقلاليتها تماماً عن الولايات المتحدة، باستثناء بعض المناطق ذات الأهمية الخاصة. ومن الناحية النظرية والمثالية، فإن تخفيض الوجود الأمريكى فى العراق من المفترض أن يؤدى إلى تلميع القادة الجدد فى العراق، وبما يخلق الانطباع بأن خفض الوجود الأمريكى كان بناء على رغباتهم (وليس لأسباب استراتيجية أمريكية)، وأن هذه الرغبات هى التى أدت بالولايات المتحدة إلى العمل على تقليص وجودها فى العراق. كما يجب أن يكون لدى قوات الأمن العراقية الحوافز الكافية لكى تحمل على عاتقها عبء الأمن، لأن القوات الأمريكية لن تقوم بهذه المهمة بدلاً منها. وهذا التحول من الناحية النظرية (وليس دائماً عملياً) سوف يغير من مستوى دوافعهم لتحمل هذه المسئولية ولكن سيظل العجز فى التدريب وعدم الولاء المؤكد للحكومة المركزية، عقبتين على الرغم من استمرار التدريب بعد نقص الوجود الأمريكى. وسوف يكون باستطاعة الولايات المتحدة أن تمنع محافظة الأنبار والمناطق السنية الأخرى من أن تتحول إلى معاقل للمجاهدين الأجانب، كما حدث فى أفغانستان، وربما يكون هذا التوقع فى أن يصبح العراق مركزاً للمجاهدين الأجانب، هو أخطر نتيجة سلبية إذا ما جرى انسحاب أمريكى كامل من العراق. فبينما لن يكون باستطاعة الولايات المتحدة أن تزيل وجود المجاهدين الأجانب بالكامل من العراق وبشكل نهائى بدون دعم كبير من القوات العراقية، إلا أنه يمكن بسهولة استخدام قوات ذات حجم بسيط أن يمنع تكرار وجود ملاذ للمجاهدين مثل ذلك الذى حظوا به فى أفغانستان، حين استخدموا عشرات المعسكرات علنا، وتمتعوا بحرية الحركة والانتقال فى أنحاء الريف فى ظل حكم حركة طالبان. وفى هذا الصدد ينبغى التمييز جيداً بين المجاهدين الأجانب وبين المتمردين العراقيين، ذلك أن الجماعات التى تقاتل الوجود الأمريكى والحكومة المؤقتة فى العراق اليوم عبارة عن خليط مختلف من عناصر النظام السابق ومقاتلين أجانب وعراقيين من المسلمين المتشددين من السنة والشيعة على السواء، بالإضافة إلى عراقيين وطنيين. ومن ثم فإن العراقيين الذين يقاتلون الولايات المتحدة والحكومة العراقية ممن يرغبون فى الحفاظ على امتيازاتهم السنية الخاصة، أو الذين يريدون توسيع سلطة الشيعة، أو الساخطون من وجود القوات الأمريكية فى بلادهم، ينبغى أن يعطى لهم اهتمام كبير من أجل تلبية احتياجاتهم المشروعة فى العراق، لأنهم – وعلى عكس المجاهدين الأجانب – ليس هناك احتمال بأن يشنوا اعتداءات ضد القوات الأمريكية المنتشرة فى العالم، أو يقوموا بالضرب داخل الولايات المتحدة، ولذلك ينبغى على الولايات المتحدة أن تؤكد على خطورة المجاهدين الأجانب أكثر من المتمردين المحليين. وعليه يجب على الولايات المتحدة أن تعلن بوضوح لجميع المقاتلين المحليين بأن أمريكا سوف تتحالف مع المقاتلين المنافسين لهم إذا ما عملوا بتنسيق وتعاون مع المجاهدين الأجانب، وأن هذا التحالف سيشمل تدريبات وإمدادات من القوات الأمريكية، وتدفق أموال عن طريق ضباط الاستخبارات، حتى وان اضطر الأمر أن تقوم الفرقة الأمريكية التى ستبقى فى العراق بتقديم المساعدة القتالية المباشرة للمتحالفين معها. ولأن معظم المجاهدين الأجانب فى العراق متحالفون تحالف مصالح مؤقت مع المقاتلين المحليين، فإن مثل هذه الصفقة لن يكون من الصعب إنجازها. هذا بالإضافة إلى أن تمركز المجاهدين الأجانب بالمناطق المدنية سيكون فرصة سانحة للقضاء عليهم فى حالة انقلاب السكان المحليين ضدهم، وذلك بترابطهم مع المقاتلين المحليين. وسيوفر خفض الوجود الأمريكى بالعراق الوقت الذى تحتاجه الولايات المتحدة لإنجاز مهمتها فى العراق. ذلك أن هذا الخفض يعتبر مهماً جداً ليس فقط من ناحية الحفاظ على الأرواح والأموال، ولكن أيضاً يقلل إلى حد كبير من عداوة العراقيين الوطنيين للولايات المتحدة. لذلك ينبغى استثمار الوقت الذى تتتجه فترة الانتقال هذه فى تدريب القوات العراقية، هذا بالإضافة إلى إمكانية قيام الولايات المتحدة بتكريس مصادرها للدبلوماسية والمصادر الأخرى من أجل حل المشاكل الإقليمية الأخرى، والتى بدورها ربما تساعد الجهود التى تبذلها أمريكا فى العراق. ولن ينهى بالطبع خفض القوات الأمريكية بالعراق الشعور المعادى للولايات المتحدة لدى كثير من المتمردين الذين سيضغطون من أجل تحقيق انسحاب كامل. ومهما كان حجم القوات الأمريكية التى ستبقى بالعراق ضئيلاً جداً، فإنه سيكون أيضاً ذا مغزى. لذلك سيستغل المعارضون من مختلف الشرائح هذا التواجد الأمريكى رغم ضآلته لتوجيه النقد إلى الحكومة الجديدة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما للولايات المتحدة من تواجد عسكرى فى قطر وأفغانستان ودول إسلامية أخرى، وهو تواجد غير مرغوب فيه فى بلدان الشرق الأوسط للعديد من الأسباب المتعلقة بسياسات الولايات المتحدة فى المنطقة وأسباب أخرى من الكراهية لا يمكن حصرها، إلا أنه رغم كل هذا، فإن ظاهر الأمر من الجهود التى ستبذل ضد المتمردين ستكون إلى درجة كبيرة جهوداً عراقية. وبذلك ستذهب إلى الأبد الحملات الإعلامية دائبة الحديثة عن اعتداءات القوات الأمريكية على العراقيين (على الرغم من حتمية بذل الجهود الأمريكية لاصطياد المجاهدين الأجانب ونشر ذلك علنا). وبالتماثل سوف يتقلص تدخل الأمريكيين فى شئون البلاد كنتيجة مترتبة على تقليص الحجم الكلى للقوات الأمريكية بشكل كبير. وفى المقابل سيزداد تركيز المجموعات العراقية العرقية والطائفية على بعضها البعض، ويقل بالتالى اهتمامها بالولايات المتحدة، وهو ما سيفرض على الحكومة العراقية أن تبتعد قليلاً عن الولايات المتحدة، وتحافظ على مسافة معينة فى التعامل معها، حفاظاً على ما تبقى لها من ولاء وطنى لدى العراقيين واكتساب المزيد منه – وسينطوى بالطبع هذا التحول على تكاليف باهظة بالنسبة للعراق، حيث من المتوقع أن يزداد الوضع الإجرامى والأمنى سوءاًً، لأن عملية الحفاظ على الأمن والانضباط المحددة التى كان يقوم بها جنود أمريكيون سوف تنتهى، وربما يزداد أيضاً الصراع الطائفى والعرقى فى وقت تسعى فيه المجتمعات أن يسودها الأمن الداخلى. ورغم أن قوات الولايات المتحدة ستظل تساند النظام العراقى القائم، إلا أن إمكانية أن ينجرف العراق من الصراع الطائفى إلى حرب أهلية سيظل أمراً محتملاً وواقعياً. وسيكون لتطبيق الديمقراطية فى العراق مردودات كبيرة، ذلك لأن الأمن فى العراق سيعتمد بدرجة كبيرة على النوايا الحسنة للزعماء السياسيين المحليين ولوردات الحرب (قادة الميليشيات العسكرية وشبه العسكرية)، فى حين أن القليلين منهم ديمقراطيون حقيقيون. وسوف تبدو ديمقراطية العراق مشابهة بدرجة كبيرة لديموقراطية أفغانستان، حيث تملك كل المجموعات ذات السطوة هناك سلطة البت فى القضايا المصيرية، ولكن فى المناطق التى يكون فيها الأمن سيئا يتم اختيار ممثلى هذه المجموعات من بين الذين يملكون الأسلحة وليس من بين الذين يتمتعون بشعبية كبيرة. ولقد دفعت الولايات المتحدة (ومعها العراق بالطبع) بالفعل بعضاً من كلفة هذا الخيار، حيث يسود القتال والجريمة معظم مدن العراق. ومن المجموعات السياسية والعرقية والطائفية الأكثر نفوذاً وشهرة فى العراق، الاتحاد الوطنى الكردستانى، والحزب الكردستانى الديمقراطى- وذلك فى المناطق الكردية، والقيادة العليا للثورة الإسلامية فى العراق، وحزب الدعوة، وقوات مقتدى الصدر فى المناطق الشيعية.. وهكذا. وهى مجموعات كونت نفسها من خلال الدور الذى تلعبه الميليشيات التابعة لهم، وليس لأنهم حركات سياسية سلمية قوية، وعلى الرغم من ذلك فإن خفض حجم القوات الأمريكية سيزيد من هذه الاتجاهات السيئة والقائمة بالفعل. إن الحديث عن خفض القوات الأمريكية بالعراق، يثير فى النفس ذكريات سيئة عن فترة نهاية الحرب فى فيتنام، عندما تبنت الإدارة الأمريكية فى هذه الفترة استراتيجية تحمل الفيتناميين مسئولية الأمن فى بلادهم وإدارتها بمعرفتهم، وهو ما عرف آنذاك (بالفيتنمة)، والتبشير بفترة استراحة هادئة من القتال، كانت تخفى فى حقيقتها واقع عملية استيلاء الشيوعيين على فيتنام الجنوبية. وسوف يروج المجاهدون فى العراق ومعارضون آخرون للولايات المتحدة بان خفض الولايات المتحدة لقواتها هو مقدمة لانسحاب أمريكى كامل من العراق، وهو ما يعد بمثابة انتصار لهم سيعلنون عنه داخل العراق وخارجه، وسوف يكون من الصعب على الإدارة الأمريكية الوقوف ضد هذا الانطباع وترويجه إعلامياً من جانب أعدائها، لأن صورة رحيل القوات الأمريكية (مهما كان حجم هذه القوات المنسحبة صغيراً أم كبيراً)، فسوف يزيد هذا الاعتقاد رسوخاً. وفى الحقيقة، ومما لاشك فيه، أن الكثير من المعلقين فى الغرب سوف يصورون تخفيض القوات الأمريكية باعتباره خطوة أولى نحو انسحاب كامل. وعلى الرغم من أنه يجب على الولايات المتحدة أن تضغط على حلفائها لكى يبقوا على تعهداتهم السابقة، إلا أن أعضاءً آخرين فى التحالف يحتمل أن يرون تخفيض الولايات المتحدة لقواتها فى العراق بمثابة فرصة لهم لكى يسحبوا بدورهم قواتهم كلها من العراق، ولن تستطيع أذكى حملات العلاقات العامة أن تتغلب على هذه النظرة. ولكن بمرور الوقت سوف يتحدث التزام الولايات المتحدة المستمر نحو العراق عن نفسه. هذا بالإضافة إلى أن فكرة إسراع الولايات المتحدة بالرحيل من العراق ليست كلها سيئة طالما أنها ستزيد من مصداقية تصريحاتها بأن النظام العراقى الجديد هو حقاً الصوت الحقيقى للعراق. وحتى نكون واضحين، فإن خفض الوجود الأمريكى بالعراق لا يقدم استراتيجية جديدة لتحقيق انتصار فى العراق، ولكن تبقى عملية تأهيل وتدريب العراقيين على تولى السلطة والحكم وفرض الأمن والاستقرار بأنفسهم فى بلادهم هو الطريق الأمثل لتحقيق النجاح، إلا أن هذه المهمة ستظل تكتنفها المصاعب، هذا إلى جانب أن تخفيض الوجود الأمريكى بالعراق لا يشكل علامة على تاريخ محدد لجلاء نهائى للأمريكيين عن العراق. ولكن على الرغم من كل هذه السلبيات التى يحملها هذا الخيار، فإن تخفيض هذا الوجود سيحول بالتأكيد دون حدوث عواقب سيئة (خاصة فيما يتعلق بتحول العراق إلى ملاذ للمجاهدين). كما يمكن لهذا الخيار أن يصمد فى وجه التحديات القائمة والمحتملة وذلك لأن الخيارات الأخرى تتطلب تضحيات كبيرة جداً، كما أنها من الناحية السياسية تعتبر غير واقعية، أما فى حالة (الانسحاب الكامل من العراق) فإننا نكون قد ضحينا بكثير من الأهداف. وقد تكون الولايات المتحدة متحركة حالياً فى هذا الاتجاه، ولكن بطريقة لا تدرك بها المخاطر المنطوية عليها. فقد أشار قائد القوات الأمريكية فى منطقة الخليج الفارسى – جنرال أبى زيد إلى أن الولايات المتحدة قد تقوم بتخفيض قواتها لأن قوات الأمن العراقية أصبحت أكثر تأهيلاً وقدرة على تولى مسئولية الأمن فى بلادهم، وأن ما سيبقى من قوات أمريكية فى العراق ستكون مهمتها الأساسية القيام بعملية تدريب القوات العراقية ومساندتها. وكنوع من التعمية، يمكن للولايات المتحدة أن تزعم بأن الوضع الأمنى أصبح مستقراً، وأن القوات العراقية تم تدريبها بالقدر الكافى، كما يمكن استغلال الانتخابات وما ستسفر عنه من حكومة وطنية كغطاء ومبرر لعملية خفض الوجود الأمريكى فى العراق. ومهما كان الأمر، فإن خفض الوجود الأمريكى فى العراق دون إدراك الحاجة إلى تقليص حجم أهدافنا هناك، سيكون أمراً فائق الخطورة. فإذا ما أعلنت الولايات المتحدة أنها حققت النصر ببساطة، وبالتالى فإن تخفيض حجم قواتها هو نتيجة مترتبة على ذلك، فإنه فى هذه الحالة ستقع على عاتق القوات الأمريكية المتبقية بالعراق مهام كثيرة عليها أن تنهض بها بالكفاءة الواجبة دون مراعاة الأولويات التى ينبغى الاهتمام بها. هذا بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة لن تكون على استعداد لتحمل بعض النتائج السيئة التى سيتحتم وقوعها نتيجة لخفض القوات إذا ما ادعت وتظاهرت بأن الوضع فى العراق استقر وأصبح (وردياً). الخـلاصـــة لا يوجد فى العراق خيارات طيبة، فالمتاح هناك فقط هو أقل الخيارات سوءاً. والطريقة التى تسير عليها الولايات المتحدة حالياً مكلفة وتتجه نحو الفشل، كما أن تحسين وضعنا عن طريق تصعيد العمليات تصعيداً كبيراً ليس ذا جدوى، كما أن العمل على خفض الخسائر من خلال الانسحاب الكامل سيعد أمراً مأساوياً بالنسبة للعراق والمنطقة والولايات المتحدة أيضا. وقد يكون من الضرورى السلوك فى استراتيجية مضادة للمتمردين علنا لإتاحة فرصة لإظهار الانتصار، ولكن حتى الآن فإن ما يشغلنا عن إيجاد سبل لحماية قواتنا، وما تواجهه من نقص فى الجنود، والوقت الذى نحتاجه لتكوين خليط متجانس من القوات، بالإضافة إلى عدم وجود استعداد وإرادة قوية لتقديم التضحيات الضرورية، كل هذه العوامل تجعل احتمالية تبنى هذا الخيار بعيدة. وإذا لم تدفع الولايات المتحدة الكلفة الواجبة، فإن عليها أن تعترف بالحقيقة المؤلمة بأنه من الواجب عليها أن تخفض سقف اهتماماتها نحو أهداف أدنى وأكثر تواضعا. وبغض النظر عما إذا كانت الولايات المتحدة ستواصل السير فى نفس الطريق الحالى، أو ستخفض من وجودها فى العراق، إلا أن تطوير القوات العراقية ينبغى أن يحظى بالأولوية المطلقة. ذلك أن القوات العراقية هى مربط الفرس فى كل اختيار يبدو معقولاً بالنسبة للعراق. وحتى تكون هذه القوات قادرة على تحمل مسئوليات الأمن والاستقرار فى العراق، فإنه لا يمكن للقوات الأمريكية أن تترك العراق فى فراغ أمنى وترحل ولديها أدنى أمل فى النجاح. لذلك ينبغى أن تخصص الولايات المتحدة الموارد والأموال الكافية لإنجاز هذه المهمة (تدريب وتأهيل القوات العراقية) وبدون حدود، على أن تبدأ الخطوة الأولى بتطوير عدة وحدات صغيرة ولكن ذات مستوى مهارات عالية، بحيث يمكن استخدامها فى مهمات تتطلب كفاءة قتالية عالية، ولكن محددة الأبعاد. وبمرور الوقت يمكن أن تصبح هذه الوحدات نواة لوحدات أكبر حجماً. ولكى تزيد الولايات المتحدة من الكفاءة التدريبية للجيش العراقى سيكون من المفيد لها أن تطلب مشاركة أوروبية كبيرة، وبالأخص من الدول التى سبق أن أرسلت مدربين عسكريين كجزء من مشاركة حلف الناتو فى عملية حفظ السلام. (هذه المشاركة الأوروبية الأكبر، مهما كان الأمر حتى وأن كانت غير ذات جدوى، وحتى إن كانت رمزية، إلا أنها سوف تحمل فقط جزءاً صغيراً من مشكلة النقص الكلى للقوات. وكلا الخيارين – تخفيض القوات أو التحول نحو التركيز على مواجهة المتمردين – سوف يتطلب توافر شجاعة سياسية من جانب إدارة بوش. وعلى المسئولين فى الإدارة الأمريكية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here