الأمير كاميران بدرخان مهندس العلاقات الكُردية اليَهودية/ج1

ا. د. فرست مرعي

المقدمة

تصف منطقة بوهتان – بوتان التاريخية على أنها سهل جبلي تقريباً ولها أبعاد مثلثة تغطي مساحة حوالي 5.000 كيلومتر مربع في منطقة شرق الأناضول، يتم رسم حدودها الطبيعية من خلال مجرى نهري بوهتان سو في الشمال ودجلة في الغرب، في حين يتم تحديد الحدود الجنوبية للمنطقة بنهر الخابور. في الجغرافيا المحلية، يتم تعيين المنطقة بشكل واضح عن المنطقة المجاورة طور عابدين في الغرب، وشيروان في الشمال وسهل جبل هكاري في الشرق وزاخو في الجنوب.

ربط المستشرقون الأوروبيون في القرن التاسع عشر بين أراضي بوهتان والكرد وذلك بالاعتماد على مصادر تعود إلى العصور القديمة: حيث ذكر المؤرخ اليوناني اكسينوفون Xenophon شعباً يسمى كاردوخي ” Kaduch ” (karduchoi) الذي استقر في المنطقة حول بوهتان Bohtan ، وقد اعتبر بعض العلماء في وقت لاحق بأن الكاردوخ الذين ذكرهم اكسينفون هم أجداد السكان الكرد اللاحقين في شرق الأناضول.

مثل العديد من إمارات كردستان العثمانية الأخرى، تشكلت إمارة الجزيرة (= بوتان) بعد أن أقسمت العائلات الاقطاعية الكبيرة في المنطقة بالولاء للسلطنة العثمانية بعد هزيمة الصفويين الشيعة في معركة جالديران في عام 1514، وذلك، في مقابل الإعتراف بحكم وراثي محلي لهم(= الفيدراليات الكردية).

يزعم البدرخانيون أنهم ينحدرون من أول أمير لبوطان، من عشيرة عزيزان/آزيزان Azîzan]] وأنهم أقارب ل شرفخانات بدليس الذين كانوا مهندسين لهذا التقارب العثماني- الكردي عام1514م على يد (مولانا ادريس البدليسي)، فضلًا عن كونهم مؤرخين معاصرين لتلك الفترة.

يعود نسب الأمير بدرخان الكبير إلى أسرة (أزيزان-عزيزان) والذين ينتمون الى عشيرة الكيكان الكردية العريقة التي حكمت إمارة جزيرة بوتان منذ العهد الأموي وحتى أواخر القرن التاسع عشر، ولد الأمير بدرخان حوالي عام (1209هـ/1794م) اسمه بدرخان بن عبد الله خان بن مصطفى خان بن إسماعيل خان، ثم يتدرج نسبه حتى يصل إلى جده عبد العزيز.

تولى الإمارة سنة(1227هـ/1812م) وهو يبلغ من العمر 18ربيعا وقد كان رصينا وحازما وذو عقل راجح غيور على مصالح قومه، مما أكسبه محبة الجميع وما أن توطد نفوذه حتى سعى لإنقاذ البلاد الكردية من الإحتلال العثماني وإنشاء دولة كردية مستقلة،

فانصرف إلى تنظيم أمور إمارته من الداخل فشكل مجلسا للإشراف على المالية والجيش والقضاء وأعد جيشا نظاميا من الكورد في جزيرة بوتان وأنشأ معملا للسلاح وآخر للذخيرة في مدينة الجزيرة وشجع

الحركة العمرانية والتجارة والزراعة، ووضع حدا للنزاعات الداخلية وأعمال السلب والنهب، ونظم جمع الضرائب ووفر الأستقرار والأمن فانتشر العدل في البلاد ، حتى أصبحت إمارته مضرب المثل :”من وطن بدرخان يسافر الطفل وفي يده ذهب”.

وبعد أن وطد حكمه دعا زعماء الكرد إلى الإجتماع في مدينة الجزيرة لتوضيح هدفه الرامي إلى الأنفصال عن الدولة العثمانية، وتم تشكيل رابطة أخوية بينهم سميت (الإتحاد المقدس) من أجل القيام بثورة عامة ضد الدولة العثمانية لتحرير كردستان و تشكيل دولة كردية مستقلة، وقد أثارت أعمال بدرخان بك هذه قلق السلطان العثماني محمود الثاني (1809-1839م) الذي لجأ إلى اتباع سياسته المركزية بالقضاء على الامارات الكردية. تمت إعادة إمارة بوطان إلى نور التاريخ من خلال سياسات الدولة المركزية العثمانية في القرن التاسع عشر.

في عام 1834 بدأ العثمانيون بقيادة محمد رشيد باشا حملة لإعادة ضم كردستان كمقدمة لإعادة االسيطرة على سوريا واستعادتها من يد محمد علي باشا والي مصر، الأمر الذي أدى قبل كل شيء إلى القضاء على إمارتي بهدينان وسوران فس سنوات 1836م، و1842م على التوالي، تمت السيطرة على مدينة (جزيرة) أيضًا في عام 1836م، ولكن تعرضت الهيبة العثمانية لطعنة نجلاء بعد الهزيمة على يد الجيش المصري بقيادة ابراهيم باشا نجل محمد علي باشا في معركة نيزيب بالقرب من بريجيك في 1837م. ومن وقتها، تمكن بدرخان بك من استغلال هذه الفرصة لتقوية امارته (= بوطان – بوتان) الواقعة في جنوب شرق الأناضول.

وقد كانت التقارير الاجنبية التي كانت البعثات التبشيرية البريطانية والأمريكية ترسلها الى مراجعها في أوروبا وأمريكا واستنبول العاصمة؛ قد أثارت الرأي العام الغربي عن قمع وتنكيل بدرخان بك بالمسيحيين للنساطرة (= الآشوريون) في منطقة جبال هكاري وقتل الآلاف منهم! في سنوات (1843-1846م) والتي أثارها بشكل خاص الاثاري والمنقب البريطاني هنري أوستن لايارد(1817-1894م) هذه القضية بشكل واسع في أوروبا بعد تأليفه لكتابه (نينوى وآثارها) عام1850م، وفيما بعد عن طريق التقارير الدورية التي كان يرسلها الى السفير البريطاني في العاصمة العثمانية استنبول السيرستراتفورد كانينك.

ومن جانب آخريذكر أحد الباحثين الغربيين :”على الرغم من أنه سيتم تصوير إمارة بوطان في وقت لاحق على أنها بذرة الهوية القومية الكردية، إلا أن استبداد بدرخان ووقوفه وجهًا لوجه ضد الإدارة المركزية، وتحت الضغوط الغربية دفعت العثمانيين إلى استعادة الإمارة بالقوة في عام 1847م”، وهذا ما جعل السلطان العثماني يفكر بالقضاء على نفوذ وسلطة بدرخان بك، وفيما بعد أعدت الدولة العثمانية حملة عسكرية كبيرة بقيادة (عثمان باشا) سميت بحملة كردستان للقضاء على إمارة بوتان، وأمر السلطان محمود الثاني بجمع قوات من المتطوعين من العراق والبلاد العربية لتنضم إلى الحملة، عندما إزداد الضغط التركي على الجزيرة، أمر الأمير بإخلاء العاصمة والتجأ إلى قلعة (اروخ) الحصينة التي حاصرها الأتراك لمدة ثمانية أشهر نفذت خلالها المؤن في القلعة، فخرج بدرخان برجاله واقتحم صفوف المحاصرين مستبسلا في القتال إلى أن إنكسر جيشه والقي القبض عليه، يبدو أن خيانة ابن عمه (يزدان شير) لعبت دوراً كبيراً في ذلك، فأرسل مع اثنين من أولاده وكبار رجالات امارته إلى الاسِتانة (= استنبول) عام1848م، ثم نفاه السلطان عبد المجيد إلى إلى مدينة (قندية) في جزيرة كريت بشكل شرفي، وقد استقبل من قبل سكانها بحفاوة ولعب دورا كبيرا في تسوية النزاع بين المسلمين والمسيحيين فيها، ثم سمح له بالعودة إلى إستنبول ومنح رتبة مير ميران (mîrmîran) الرسمية في عام 1858م، وفي عام 1865م سمح له بالانتقال مع

عائلته الكبيرة مباشرة إلى دمشق بمنحة عثمانية، حيث توفي هناك بعد سنة1868م. تاركا اثنان وأربعون ولدا وحفيدا، منهم (21) ابناً، والباقي أحفاد، وقد دفن في مقبرة الشيخ خالد النقشبندي في حي الأكراد بدمشق وله من العمر 66 عاماً.

يقول الامير جلادت بن أمين عالي بدرخان عن جده بدرخان بك في مذكراته:” أراد الأمير بدرخان أن يتأكد من سيادة الأمن في مملكته، فأمر بوضع زكيبة من المال في عرض طريق عمومية ممهدة السبيل. ما ان رأها العابرون حتى فزعوا وغيروا طريقهم مضطرين لسلوك طرقات صعبة المسالك ابتعاداً عن الزكيبة الملقاة على قارعة الطريق. بقيت الطريق مهجورة من العبور والناس يتعذبون في ذهابهم وايابهم حتى حضر عالم من العلماء المبجلين لحضرة الأمير وقال له: ألا تخاف من الله يا سمو الأمير فتحرم الناس من الطريق السهلة المعبدة؟ تساءل الأمير بدهشة عن السبب فأجابه العالم: ان زكيبة المال التي القيتها في طريق الناس أخافتهم وجعلتهم يفضلون عبور الطرقات الصعبة، هاجرين الطريق السهلة لوجود المال فيها. سّر الأمير من فرط أمانة رعيته وأمر للحال برفع الزكيبة وتوزيع المال على طلبة العلم في المدارس.”

وكانت سلطة الامارة البدرخانية على رقعة جغرافية بين الموصل وسنجار وويران شهر وسيورك وامد وسعرد ووان وشنو واورمية. إشتهرت تلك الامارة بالعدل و الأمن و النظام حتى قيل عن بدرخان “العدالة هي بدرخان وبدرخان هو العدالة” وقاد بدرخان ثورته ضد الحكم العثماني عام 1947م وقاوم في قلعته أروخ ثمانية أشهر ولم يستسلم حتى حوصر وقيد إلى إسطنبول ثم تم نفيه إلى جزيرة كريت وبدأت محاولات تفتيت عائلته وغير الأتراك إسم عائلة بدرخان إلي جنار، توفي بدرخان عام 1868م في دمشق ويقال أنه قبل أن يتوفى قال: “من منكم ينسى لغة بوطان فهو ليس بولدي”.

ومن أبرز أبنائه: محمد أمين عالي بدرخان، عبدالرزاق بدرخان، عبدالرحمن بك، مقداد مدحت، مؤسسو جريدة كردستان في القاهرة عام1898م كأول جريدة كردية في التاريخ.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here