أين اختفى نجوم كرة القدم؟

علي أنوزلا

هذا السؤال طرحته صحيفة لوموند الفرنسية بصيغة نقدية، عندما كتبت في إحدى افتتاحياتها: “كنا نود أن نرى اللاعبين الكبار في الأندية الفرنسية، الذين لديهم صدى كبير، يأخذون نصيبهم من التضامن في هذه الأزمة. لكنهم، للأسف، فوّتوا الفرصة لسد الفجوة بين كرة القدم المحترفة والجمهور العام”. ما حدث في فرنسا تكرّر في أكثر من مكان في العالم، حيث غاب أو تأخر اللاعبون الكبار الذين يتقاضون رواتبهم بملايين الدولارات عن تقديم الدعم والمساعدة إلى مواطنيهم في عزّ أزمة كورونا، مع استثناءات قليلة لبعض النجوم أو بعض الأندية. بل ومن اللاعبين الكبار من انتفضوا ضد خفض جزئي من رواتبهم مؤقتا حتى تمرّ الأزمة!

وفي بريطانيا، تقدّمت الأندية بطلب مساعدة من الدولة لأداء أجور العاملين لديها من غير اللاعبين، بعدما أوقفت رواتبهم بسبب الأزمة، وهو ما حدا بالإعلام إلى نعتها بأنها تعاني من “فراغ أخلاقي”، لأنها تصرّفت بأنانية كبيرة، بل وبنوع من التمييز الكبير ما بين الموظفين العاديين واللاعبين الذين لم يبادروا إلى تحمّل عبء التضامن مع أنديتهم والعاملين فيها. أما “رابطة اللاعبين المحترفين” في بريطانيا، والتي تعد أقدم وأكبر نقابة في البلد، فقد دعت أعضاءها لعدم القبول بأيّ خفض أو تأجيل في دفع أجورهم أو الاقتطاع منها، من دون موافقتهم، ووصفت موقف الحكومة والسياسيين والإعلام بأنه “عار”، لأنهم استهدفوا رواتب اللاعبين دون سواهم!
لكن أهم من الدعم والمساعدة اللذين تفرضهما قيم التضامن التي غابت عند كثيرين من نجوم كرة القدم، استغناء الناس عن مشاهدة مباريات كرة القدم ومتابعة أخبارها وأخبار نجومها، وهو استغناء قد يستمر حتى ما بعد الصيف المقبل، ما قد يدفع إلى طرح السؤال بشأن مدى أهمية مراجعة النموذج الاقتصادي لكرة القدم الذي حوّل هذه اللعبة الجميلة من لعبة لترويج قيم نبيلة إلى سوقٍ للمضاربات المالية الكبيرة، وحوّل اللاعبين إلى سلع معروضة للبيع والشراء.

لقد أدّى تفشي وباء كورونا إلى توقف دوريات كرة القدم في العالم، وتأجيل المباريات والمنافسات الدولية إلى أجل غير مسمّى. وأدت هذه الأزمة غير المسبوقة إلى التأثير على اقتصاديات أندية “كرة القدم واقتصادها أمام مفترق طرق كبير، عنوانه نهاية العصر الذهبي لهذا الاقتصاد الاستهلاكي” كرة القدم واتحاداتها في كل الدول، وسوف تزداد حدّتها بسبب توقف بطولات الصيف المحلية والقارية والعالمية، أو تأجيلها، وهو ما يعني توقف عقود شركات الرعاية وعوائد البث التلفزي ومداخيل مبيعات التذاكر، ومن المتوقع أن يمتد تأثير هذه الأزمة ليطاول الموسم المقبل. وقد بدأت انعكاسات هذه الأزمة المالية الخانقة توثر على مستقبل هذه اللعبة، من خلال إعادة النظر في رواتب اللاعبين التي ستضطر الأندية إلى خفضها، وعقود اللاعبين التي ستتم مراجعتها مع حلول موسم التنقيلات المقبل، ونهاية عقود لاعبين كثيرين.

كرة القدم واقتصادها أمام مفترق طرق كبير، عنوانه نهاية العصر الذهبي لهذا الاقتصاد الاستهلاكي، وهو ما يعني بالضرورة نهاية “عصر الترف” المالي، سواء تعلق الأمر بالعقود أو الرواتب أو الأرقام الفلكية التي كانت تشهدها أسواق الانتقالات. وفساد كرة القدم مردّه إلى ارتباطها باقتصاد السوق وبقيمه الاستهلاكية، فتحولت الملاعب وشاشات عرض المباريات إلى لوحات لترويج المنتجات الاستهلاكية، وتحول أغلب اللاعبين وأشهرهم إلى “أدوات” للدعاية لمنتوجات استهلاكية يروّجون أنماط عيش لا علاقة لها بالقيم الرياضية المفروض أن تروجها اللعبة الأكثر شعبية في العالم.

وإذا كان من شيء إيجابي في هذه الأزمة، فهو أنها على الأقل لفتت الانتباه إلى أنانية نجوم كثيرين أبانوا عن افتقادهم الحس التضامني، والأهم أنها طرحت سؤال الأجور والتعويضات المبالغ فيها التي يحصل عليها هؤلاء النجوم وأنديتهم، في مقابل تحويل لعبةٍ تقوم على قيم نبيلة إلى سلعة في خدمة الاقتصاد الاستهلاكي.

مع بداية تفشّي وباء كورونا، وخصوصا في إيطاليا التي كان مواطنوها يقفون كل مساء على بيوتهم يحيّون الطواقم الطبية ومقدّمي خدمات الرعاية الصحية، وهو التقليد الذي انتقل إلى أكثر من بلد، تكريما لجنود الخطوط الأمامية على جبهة مواجهة الفيروس القاتل، ظهرت مقارنات كثيرة بين رواتب الأطباء والعلماء ورواتب المشاهير في مجال الرياضة والغناء الذين تواروا عن الأنظار، وطرح السؤال بشأن عدالة الأجور في المنظومات الاقتصادية ذات الطبيعة الاستهلاكية. فهل ستكون هذه الأزمة حافزا على تحقيق عدالة الأجور، أو على الأقل وضع معايير أخلاقية تحدّ من التنافس اللاأخلاقي في منح لاعبين وفنانين تعويضاتٍ طائلة، وأحيانا جنونية، تخل بمبدأ الأجر مقابل العمل، والكدّ مقابل الكسب.

ليست هذه المرة الأولى التي يتعرّض فيها استعمال المال بطريقة جنونية في كرة القدم للانتقاد، فقد كانت الأجور المرتفعة وصفقات بيع اللاعبين الخيالية دائما محط انتقاد واستهجان، من دون أن يؤثر ذلك على شعبية اللعبة، أو على الإقبال على مشاهدات مبارياتها. ولكن هذه الأزمة كشفت عن أزمة أخلاقية كبيرة ستلاحق كبار اللاعبين وأشهر الأندية الرياضية التي تصرّفت بأنانية مفرطة، وتبقى الكرة، كما يقال في لغة الرياضة، في ملعب الجمهور، لأنه هو الممول والضحية والحكم في الآن نفسه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here