اللي امضيع وطن وين الامبراطورية يلكاها واللي رافع علمهم خللي منهم يتلكاها

اللي امضيع وطن وين الامبراطورية يلكاها واللي رافع علمهم خللي منهم يتلكاها
أ.د سلمان لطيف الياسري

تعود جذور تخلي واشنطن عن الأكراد إلى سبعينيات القرن العشرين، بحسب وثيقة سرية أعدها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، الذي كان في ذلك الوقت يشغل منصب مستشار الأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون.
في 30 يونيو/ حزيران عام 1972 وصل شخصان كرديان هما: إدريس برزاني ومحمود عثمان، إلى مقر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” بولاية فرجينيا الأمريكية، حيث التقوا بمدير الوكالة في ذلك الوقت ريتشارد هيلمز.
ناقش برزاني وعثمان حينها مع مدير سي آي إيه تحولا مذهلا في السياسة الأمريكية، حيث كان كيسنجر قد خوّل لهيلمز أن يعرب للرجلين الكرديين عن تعاطف الولايات المتحدة مع محنة الأكراد وطمأنتهم بـ”استعداده للنظر في طلباتهم للحصول على المساعدة”.
كان الأكراد قد ظلوا على مدار أكثر من عقد يقاتلون ضد الحكومة العراقية، وناشدوا الأمريكيين كثيرا كي يساعدوهم.
في هذا الاجتماع أبلغ هيلمز الأكراد أن الولايات المتحدة سوف تساعدهم، لكن ما لم يخبره به هو أن واشنطن ستغير رأيها سريعا.
التاريخ الطويل من تخلي الولايات المتحدة عن الأكراد مفهوم جيدا لمعظم المراقبين.
ما ينساه كثيرون في الغالب هو أن مثل هذه “الخيانات” الأمريكية كانت متوقعة تماما بالنظر إلى العلاقة التي جمعت الجانبين منذ عقود.
من المستحيل فهم قرار الرئيس دونالد ترمب بترك الأكراد المتحالفين مع الولايات المتحدة يواجهون العملية العسكرية التركية في سوريا من دون فهم أصول العلاقة الأمريكية الكردية.
القصة من البداية
تعود علاقة الأكراد بالولايات المتحدة إلى عام 1920 عندما حصل الأكراد على وعد بالاستقلال وفقا لمعاهدة سيفر.
كان الأكراد في ذلك الوقت أكبر مجموعة عرقية في العالم ليس لها دولة.
نكثت بريطانيا وفرنسا، القوتان الكبيرتان في العالم في ذلك الوقت، عهدهما عام 1923 وجعلوا الأراضي الكردية ضمن حدود ما أصبح يطلق عليه الآن تركيا وإيران والعراق وسوريا.
تمرد الأكراد ضد هذه الخيانة للعهد لكنهم قُمعوا على يد البريطانيين والفرنسيين والإيرانيين والأتراك.
بعد عقود من الهدوء النسبي حاول الأكراد مجددا الحصول على الاستقلال بعد ثورة العراق عام 1958.
بعد اندلاع الحرب في كردستان العراق في سبتمبر/ أيلول عام 1961، تبنت الحكومة الأمريكية سياسة عدم التدخل.
كان الهدف الأساسي للسياسة الأمريكية في ذلك الوقت هو الحفاظ على علاقات جيدة مع بغداد، وكان هناك دائما شكوك مزعجة من أن زعيم المتمردين الأكراد مصطفى البارزاني كان عميلا شيوعيا، بالنظر إلى فترة نفيه التي دامت 11 عاما في الاتحاد السوفيتي من عام 1947 إلى عام 1958.
رغم ذلك فقد رأت إيران وإسرائيل، وهما حليفتان مهمتان للولايات المتحدة في المنطقة، أن الأكراد العراقيين يشكلون حليفا أيديولوجيا واستراتيجيا يمكن استغلاله لكبح النظام القومي العربي في بغداد وجيشه الكبير.
بدءا من منتصف عام 1962 أمر شاه إيران وكالة المخابرات الإيرانية (سافاك) بالمساعدة في تمويل التمرد الكردي في شمال العراق لتقويض استقرار النظام في بغداد.
في عام 1964 انضم الإسرائيليون إلى هذا التدخل الذي قادته إيران، بعد أن اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون بالأكراد حليفا استراتيجيا ضد النظام القومي العربي في بغداد.
على مدى العقد التالي، كانت الاستراتيجية الإيرانية والإسرائيلية بسيطة، وتتمثل في أنه طالما كان الأكراد يمثلون خطرا قائما وواضحا على بغداد، فإن الجيش العراقي لن يتمكن من الانتشار بقوة ضد إسرائيل في حالة نشوب حرب، كما لن يتمكن من تهديد الطموحات الإيرانية في الخليج العربي.
ظهرت ثمرة هذه الاستراتيجية في عام 1967، حيث لم يتمكن العراق من نشر قواته في الحرب ضد إسرائيل.
في الحرب التالية عام 1973 حشد العراق فرقة مدرعة واحدة لأن 80٪ من جيشه كان في شمال العراق.
لكن الأمريكيين تأخروا في تقديم الدعم للأكراد، فمنذ منتصف الستينيات كان كل من الإيرانيين والإسرائيليين يسعون لإقناع البيت الأبيض بإعادة النظر في سياسة عدم التدخل.
سعى أكراد عراقيون كانوا يلتقون بانتظام مع ضباط المخابرات الأمريكية إلى طلب الدعم من واشنطن، لكنهم كانوا يقابلون دائمًا برفض مهذب وحازم.
تغير السياسة الأمريكية
لكن السياسة الأمريكية تغيرت في يوليو/ تموز 1968 عندما استولى حزب البعث العراقي على السلطة، وكان الحزب يضم في قيادته صدام حسين.
في مارس/ آذار 1970 خلص صدام إلى أن الحرب ضد الأكراد في بلده تمثل إضاعة للجهود وسافر بنفسه إلى الشمال والتقى بارزاني.
وافق صدام على جميع مطالب الأكراد التي تركزت على إقامة حكم ذاتي كردي داخل عراق موحد، لكنه أشار إلى أن البرنامج لن يتم تنفيذه حتى عام 1974.
منح اتفاق مارس/ آذار الوقت لكلا الجانبين، حيث تمكن صدام من تعزيز سلطته، بينما أصبح بارزاني قادراً على تأمين حليف قوي وجديد، وهو الولايات المتحدة.
بعد اتفاق مارس/ آذار ارتمى صدام في أحضان السوفييت، ففي ديسمبر/ كانون الأول عام 1971 وقع العراق صفقة أسلحة مع موسكو، وفي أبريل/ نيسان عام 1972 وقع معاهدة الصداقة والتعاون مع موسكو.
في الشهر التالي، زار الرئيس الأمريكي نيكسون طهران لدى عودته من قمة ناجحة في موسكو، حيث تمكن من تأمين انفراجة مع السوفييت.
خلال الزيارة ضغط الشاه على نيكسون لمساعدة الأكراد في زعزعة استقرار العراق.
بعد مراجعة دقيقة للمخاطر، خلصت إدارة نيكسون إلى أن التهديد السوفيتي-العراقي للمصالح الغربية كان كبيرا بدرجة كافية لتبرير مساعدة الأكراد.
بعد الضوء الأخضر الذي أعطاه نيكسون كان التعامل مع الأكراد يدار من مكتب كيسنجر بالبيت الأبيض.
بين أغسطس/ آب عام 1972 وأواخر عام 1974، عندما استؤنف القتال في الحرب العراقية الكردية، تشاورت إدارة نيكسون مع الإيرانيين والإسرائيليين والأكراد مرارا حول كيفية إعدادهم لمواجهة حتمية مع بغداد.
كان هذا يعني تخزين الأسلحة وتدريب المقاتلين الأكراد على تقنيات الحرب الحديثة.
حدث كل ذلك وسط تدهور سريع في العلاقات بين الأكراد وبغداد.
في أوائل عام 1974 انتهك صدام شروط اتفاق مارس/ آذار وفرض من جانب واحد نسخة مخففة من الحكم الذاتي للأكراد.

ردّ بارزاني على هذه الخطوة بالسفر إلى إيران، حيث التقى الشاه ورئيس محطة وكالة المخابرات المركزية لطلب الدعم الأمريكي لخطة تهدف إلى تشكيل حكومة عربية كردية عراقية تدعي أنها الحكومة الشرعية الوحيدة في العراق.
كتب كيسنجر في مذكراته التي صدرت في عام 1999 بعنوان “سنوات التجديد” أن طلب بارزاني “أثار طوفانا من الاتصالات” بين المسؤولين الأمريكيين يركز على سؤالين، أولهما هل ستدعم الولايات المتحدة إعلانا للحكم الذاتي من طرف واحد، والسؤال الثاني عن مستوى الدعم الذي ترغب الولايات المتحدة في تقديمه للأكراد.
من جانبها حذرت السي آي إيه من زيادة المساعدات الأمريكية للأكراد.
لكن كيسنجر رفض تحذير مدير السي آي إيه في ذلك الوقت ويليام كولبي وكتب يقول إن “تردد كولبي ليس واقعيا بقدر حماسة البارزاني”.
قرر نيكسون في نهاية المطاف زيادة المساعدات الأمريكية للأكراد، وتضمن ذلك توفير 900 ألف رطل من الأسلحة السوفيتية التي قامت سي آي إيه بتخزينها، إضافة إلى نحو مليون دولار من مساعدات اللاجئين.
في أبريل/ نيسان 1974 أرسل كيسنجر برقية إلى السفير الأمريكي في طهران تتضمن أوامر نيكسون في هذا الصدد.
كانت هذه البرقية مهمة لأنها تشكل إعلانا موجزا للمصالح الأمريكية تجاه الأكراد.
جاء في البرقية أن أهداف الدعم الأمريكي للأكراد هي: (أ) إعطاء الأكراد القدرة على الحفاظ على قاعدة معقولة للتفاوض على اعتراف حكومة بغداد بحقوقهم، (ب) إبقاء الحكومة العراقية الحالية مقيدة.
لكن مع (ج) التي نصت على عدم تقسيم العراق بشكل دائم، لأن وجود منطقة كردية مستقلة لن تكون فكرة قابلة للحياة من الناحية الاقتصادية، وليس للولايات المتحدة وإيران مصلحة في إغلاق الأبواب أمام وجود علاقات جيدة مع العراق تحت قيادة معتدلة”.
أوضحت واشنطن أيضا أن الدعم الأمريكي لحكومة كردية على المدى الطويل لن يكون ممكنا لأنه لن يكون من الممكن الحفاظ عليه سرا، وكانت هناك مخاوف عميقة داخل الحكومة الأمريكية بشأن جدوى وجود دولة كردية، فضلا عن مخاوف شاه إيران حيال استقلال الأكراد، في ظل وجود أقلية كردية كبيرة في إيران.
نُقلت هذه النقطة إلى الأكراد في بداية علاقتهم مع الولايات المتحدة، وجرى التأكيد عليها طوال العملية مع الأكراد.
هذا يلقي الضوء على المشكلة الأساسية التي واجهها الأكراد دائما، وهي مشكلة جغرافية.
من المؤكد أن كردستان المستقلة لن يكون لها ساحل، مما سيجعلها غير قادرة على المشاركة في الاقتصاد الدولي دون الاعتماد على قوى خارجية معادية مثل تركيا وإيران والعراق وسوريا.
على سبيل المثال، إذا أراد الأكراد تصدير النفط أو الغاز الطبيعي، فسيتعين عليهم اجتياز الأراضي المجاورة عبر خط أنابيب للوصول إلى الأسواق الدولية.
إذا لم توافق أي من هذه الدول فهذا يعني القضاء على الاقتصاد الكردي.
حتى في الخدمات الأساسية مثل السفر الجوي ستضطر الرحلات الجوية المتجهة إلى كردستان إلى السفر عبر المجال الجوي لدول قد تكون معادية، وهي دول تربطها بالفعل علاقات مع الولايات المتحدة.
لهذا السبب، ورغم التقارب العميق للأكراد وتفهم قضيتهم، كانت الولايات المتحدة دائما واضحة – حتى إن لم يكن هذا دائما في العلن – بشأن ترددها في دعم استقلال الأكراد.
في أواخر عام 1974 شن الجيش العراقي هجوما شاملا ضد الأكراد، حقق فيه مكاسب كبيرة في الجبال، بفضل توجيه المستشارين العسكريين السوفيت.
رغم الجهود الإيرانية والإسرائيلية الكبيرة لدعم الأكراد عسكريا، تمكن العراقيون من الصمود خلال شتاء 1974-1975.
هذا دفع كيسنجر والإسرائيليين إلى وضع خطة لتزويد الأكراد بأسلحة بقيمة 28 مليون دولار، لكن هذا جاء بعد فوات الأوان، حيث لم تكن الأوضاع الجيوسياسية في صالح الأكراد.
في 18 فبراير/ شباط عام 1975 التقى شاه إيران مع كيسنجر في زيوريخ، وأبلغ كيسنجر أن الأكراد “لم يعد لديهم أي قدرة” وأنه يفكر في الاجتماع مع صدام خلال مؤتمر أوبك في مارس/آذار ليرى ما إذا كان بإمكانه مقايضة دعمه للأكراد بتنازلات حدودية.
زعم كيسنجر في مذكراته عام 1999 أنه عارض اقتراح الشاه وذكّره “بتحذيراته المتكررة من أن انهيار الأكراد سوف يزعزع استقرار المنطقة بأكملها”.
لكن إيران مضت في عزمها التخلي عن الأكراد، وفي 6 مارس/ آذار أعلن الشاه وصدام عن اتفاق الجزائر، الذي تبادلا فيه السيادة الجزئية على شط العرب، وهو ممر مائي استراتيجي على طول الحدود الإيرانية العراقية، في مقابل عدم التدخل في شؤون بعضهما البعض.
أمر الشاه بإغلاق الحدود الإيرانية مع العراق، وهو ما يعني التخلي عن الأكراد تماما.
مع إغلاق الحدود أصبح الأمريكيون والإسرائيليون غير قادرين على الاستمرار في تزويد الأكراد بالمساعدات.
في اليوم التالي، أطلق العراقيون قواتهم العسكرية بأكملها ضد الأكراد مما أجبر آلاف المدنيين على الفرار إلى إيران.
لم يتمكن الأمريكيون والإسرائيليون من فعل شيء لمنع المذبحة، حيث اجتاحت قوات صدام مناطق الأكراد ودمرت 1400 قرية، واعتقلت الآلاف من أتباع البارزاني، وفرض صدام سيطرته على المنطقة.
مأساة متكررة
هذه النهاية المأساوية للتدخل الأمريكي بهدف دعم الأكراد تشكل بداية العلاقة المترددة بين الولايات المتحدة والأكراد التي لا تزال موجودة حتى اليوم.
لقد خسر الآلاف من الأكراد في العراق حياتهم بسبب تخلي الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل عن دعمهم في عام 1975.
في الثمانينيات، وجد الأكراد والولايات المتحدة أنفسهم على الجانبين متعاكسين في الحرب العراقية الإيرانية، التي شهدت استخدام صدام للأسلحة الكيميائية ضد إيران وضد الأكراد، ما أدى إلى حدوث إبادة جماعية في كردستان العراق.
عادت الموجة من جديد في أوائل التسعينيات من القرن العشرين بعد غزو العراق للكويت في عام 1990.
حثت الولايات المتحدة الأكراد على الثورة ضد حكومة صدام، لكن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب تخلت عنهم لاحقا عندما احتاجوا الدعم الأمريكي.
في أبريل/ نيسان 1991 أدرك البيت الأبيض خطأه وفرضت الولايات المتحدة منطقة حظر طيران شمالي العراق، وسمحت للأكراد العراقيين بالعيش أخيرا في سلام.
في عام 1992 أنشأ الأكراد العراقيون إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي، وأصبح حليفا للولايات المتحدة لا غنى عنه خلال حرب العراق والحرب ضد تنظيم الدولة.
يبدو أن الولايات المتحدة قد صححت أخيرا الخطأ الذي ارتكبته في عام 1975.
لكن حتى هذه الخيانة الأخيرة يجب ألا تشكل صدمة، فهي تتوافق تماما مع المصالح الأمريكية تجاه الأكراد، والتي وصفتها الولايات المتحدة لهم بشكل سري منذ البداية.
للولايات المتحدة تقليد عريق في التخلي عن الأكراد في أحلك لحظاتهم. وبعد أن تنهي واشنطن العلاقة المنفعية والآنية مع التنظيمات الكردية، يعود قادة الأكراد لاسترضاء جلاديهم السابقين للبحث عن تسوية جديدة من موقع ضعيف.بعضنا لا يزال يذكر الابتسامات غير الطبيعية للمام جلال طالباني والأستاذ مسعود برزاني جالسين مع صدام حسين بعد أن تخلت عنهم واشنطن (هنري كيسنجر تحديدا) بعد اتفاق الجزائر بين شاه إيران وصدام حسين في 1975 حول شط العرب والذي أنهى الدعم الاميركي للأكراد وأعطى نظام البعث الضوء الأخضر لاجتياح كردستان العراق.هذا ما نراه اليوم بعد أسبوع واحد من إعطاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الضوء الأخضر لاجتياح شمالي سوريا للقضاء على أي فرصة للأكراد لتقرير مستقبلهم.وخلال مكالمة هاتفية واحدة قوّض الرئيس ترامب كل الإنجازات التي حققتها الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، بالتعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية” التي يشكل الأكراد عمودها الفقري، وأبرزها دحر إرهابيي “الدولة الإسلامية”، وإعطاء الأكراد في شمالي شرقي سوريا للمرة الأولى في تاريخهم فرصة إدارة شؤونهم الذاتية، في تجربة كان يمكن أن تتطور إلى حكم ذاتي في صيغة فدرالية مستقبلية في مرحلة ما بعد نظام بشّار الأسد.مرة أخرى يجد الأكراد أنفسهم لوحدهم، وهذه المرة حتى بعيدين عن أصدقائهم القدامى: جبالهم الوعرة في العراق وتاريخ الأكراد في القرن الماضي هو سلسلة من المحاولات الشجاعة واليائسة، وأحيانا المتهورة، لتقرير مصيرهم في جزء من وطنهم المقسم بين أربع دول التقت على حرمانهم من حقوقهم الوطنية والسياسية والثقافية.عندما ناقش الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى مصير الشعوب والأراضي التي كانت تضمها الإمبراطورية العثمانية في مؤتمرات دولية، قرروا خلال مؤتمر سيفر في 1920 إعطاء الأكراد وطنا قوميا لهم.

ولكن بريطانيا استخدمت نفوذها وتعاونت مع تركيا للقضاء على الحلم الكردي في مؤتمر لاحق عقد في لوزان في 1923 والذي تم فيه الاتفاق على تقسيم الأراضي الكردية بين تركيا والعراق وسوريا. هذا المؤتمر كان أول نكسة يلحقها الغرب بالأكراد.جمهورية مهباد في كردستان إيران، والذي كان الملا مصطفى برزاني من قادتها بالكاد بقيت على قيد الحياة لأقل من سنة قبل انهيارها في 1946 لأسباب عديدة من بينها أخطاء القيادات الكردية، وإصرار إيران على تقويضها، وامتناع الدول الغربية ومن بينها الولايات المتحدة عن دعمها.محاولات أكراد العراق إقامة حكم ذاتي في الشمال، بعد عودة الملا برزاني من منفاه السوفياتي في 1958 قوبلت بمقاومة قوية من بغداد. ما حققه أكراد العراق من حقوق سياسية وثقافية جاء نتيجة نضال طويل تخلله مساومات سياسية واقتتال داخلي وأخطاء سياسية ارتكبتها قيادات “وسلالات” احتكرت السلطة لوقت طويل.الاجتياح التركي السريع، والذي جاء بعد انسحاب أميركي أسرع لقوات محدودة من شمالي سوريا، فرض على قادة الأكراد خيارات شبه مستحيلة. قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عابدي لخص معضلة الأكراد بعد تخلي الرئيس ترامب عنهم بالشكل التالي “إذا كان علينا أن نختار بين التسويات وإبادة شعبنا، بالتأكيد سوف نختار الحياة لشعبنا”. وأضاف عابدي في مقال نشره في مجلة فورين بوليسي “نحن نعلم أنه علينا أن نختار تسويات مؤلمة مع موسكو ومع بشّار الأسد إذا قررنا السير على طريق العمل معهم”.تاريخ الأكراد في القرن الماضي هو سلسلة من المحاولات الشجاعة واليائسة، وأحيانا المتهورة، لتقرير مصيرهم- وفسّر عابدي الانهيار السريع لقواته بالإشارة إلى أنه بناء على طلب من واشنطن (وتحت الضغوط التركية) سحب الأكراد أسلحتهم الثقيلة ودمروا دفاعاتهم العسكرية في المنطقة الحدودية وسحبوا أفضل عناصرهم العسكرية. هذا القرار الكردي اتخذ في سياق قناعتهم بأن تركيا لن تجرؤ على اجتياح شمالي سوريا طالما التزم الأميركيون بضماناتهم الأمنية. وهذا بالضبط ما لم يلتزم به ترامب، الذي اتخذ قرارا اعتباطيا بمفرده، ودون استشارة المسؤولين في مجلس الأمن القومي ووزارتي الخارجية والدفاع، أو الحلفاء في الخارج.

مرة أخرى يجد الأكراد أنفسهم لوحدهم، وهذه المرة حتى بعيدين عن أصدقائهم القدامى: جبالهم الوعرة في العراق.منذ وصوله إلى البيت الأبيض والرئيس ترامب يكرر رغبته بالانسحاب من سوريا في سياق إنهاء ما يسميه “الحروب التي لا نهاية لها”. المسؤولون الأمنيون والعسكريون أقنعوه بتأجيل الانسحاب إلى حين القضاء كليا على تنظيم “الدولة الإسلامية” كقوة عسكرية فعالة.في ديسمبر الماضي، وبعد مكالمة هاتفية مع أردوغان أعلن ترامب بطريقة اعتباطية أنه سيسحب القوات الأميركية من سوريا. ذلك القرار دفع بوزير الدفاع آنذاك جيمس ماتيس إلى الاستقالة. الهدف الأولي للتدخل العسكري الأميركي (والدولي) في سوريا، والذي أمر به الرئيس السابق باراك أوباما، كان لهزيمة قوات “الدولة الإسلامية” التي اجتاحت أراضي سورية وعراقية كبيرة في صيف 2014.القضاء على “الدولة الإسلامية” في سوريا بعد 4 سنوات من القتال لم يكن ممكنا لولا التحالف مع قوات سوريا الديمقراطية. بعد القضاء على دولة “الخلافة”، أبقت الولايات المتحدة على قواتها في سوريا لاستخدامها للتأثير على أي تسوية سياسية، ولكن أيضا لمنع قوات النظام في دمشق والقوات الإيرانية من استعادة السيطرة على شمالي شرقي سوريا الذي انتشرت فيه القوات الأميركية وحلفائها الغربيين بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، خاصة وأن المنطقة غنية زراعيا ونفطيا.أعطت السيطرة على المنطقة الفرصة للقوات الأميركية لمنع إيران من مد جسر بري بين إيران وسوريا عبر العراق. صحيح أنه لم يكن لحكومة الرئيس أوباما، ولا لحكومة الرئيس ترامب سياسة واضحة وقابلة للتطبيق لمستقبل سوريا، إلا أن الوجود العسكري الأميركي كان يعني أنه لا يمكن تجاهل واشنطن في أي حل مستقبلي للحرب في سوريا.ترامب وأردوغان يواجهان تحديا قويا قد يهدد مستقبلهما السياسي, ولكن الانسحاب الأميركي السريع الذي نراه الآن في خضم وضع أمني خطير وفوضوي ومتغير، يعني أن واشنطن تخلت طوعا عن نفوذها لحماية مصالحها ومصالح أصدقائها، وأنها ستترك وراءها وضعا هشا ومفككا، سوف تكون فيه روسيا الدولة ذات النفوذ الأوسع سياسيا وعسكريا في المدى المنظور. وأن أي تغيير في سوريا لن يكون فيه أي دور للولايات المتحدة.الطريقة التي وصف فيها وزير الدفاع مارك أسبر انسحاب القوات الأميركية من سوريا، والتي يصل عديدها إلى ألف عنصر لأنها وجدت نفسها بين الجيش التركي الزاحف من الشمال وجيش الأسد وحلفائه الزاحف من الجنوب، أعطى الانطباع بأن القوات الأميركية كانت في حالة تقهقر.

وفي إشارة لافتة، عكست ازدياد استياء المسؤولين الأميركيين من تركيا ورئيسها، قال أسبر إنه لا يعتقد أن تركيا تتصرف كحليف لأميركا، وتبع في مقابلة تلفزيونية أن سلوك تركيا “في السنوات الماضية كان رهيبا، لأنها تبتعد عن الفلك الغربي”.مع نهاية الأسبوع الأول للأزمة الجديدة يمكن القول إن موسكو هي الرابح الأكبر، لأنها الطرف الوحيد القادر على التواصل مع جميع الأطراف المعنية والمتقاتلة: الأكراد، نظام الأسد، تركيا وإيران.دعوة الأكراد حكومة بشار الأسد لإرسال قواتها إلى المناطق الحدودية التي كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية من القامشلي إلى منبج، هو اعتراف ضمني، ولكن مدو بأن الاكراد قد فقدوا السيطرة على هذه المناطق التي أداروها لسبع سنوات.ومن غير الواضح ما الذي حصلوا عليه من ضمانات ـ هذا إذا حصلوا على أي ضمانات ـ من نظام الأسد أو من الروس. اللافت هو أن الأكراد كانوا قد ألمحوا لمحللين أميركيين، بعد استقالة وزير الدفاع ماتيس، أن عليهم استشراف سبل استئناف الاتصالات مع الروس ونظام الأسد، كضمانة ضد أي تغيير مفاجئ في مواقف ترامب.سيجد الأكراد أنفسهم في وضع ضعيف في أي مفاوضات تجري بينهم ونظام الأسد، وسوف يلجؤون ـ الآن بعد أن تخلت عنهم واشنطن ـ أكثر فأكثر إلى موسكو.قرار الرئيس ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا، دون تنسيق ذلك مع الحلفاء ستكون له مضاعفات بعيدة المدى على سمعة ووعود والتزامات واشنطن السياسية والأمنية من الشرق الأوسط إلى أوروبا.استمرار الاحتلال التركي للأراضي السورية سوف يشجع الأصوات المطالبة بطرد تركيا من حلف الناتو,الاجتياح، شاء أردوغان أم أبى، سوف يلحق أضرارا كبيرة بتركيا سياسيا واقتصاديا. ومع مرور كل يوم يزداد فيه عدد الدول الاوروبية التي تفرض حظرا عسكريا على تركيا، الدولة التي لا تزال عضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو).وسوف يناقش مجلس الشيوخ في الأيام المقبلة مشروع قرار برعاية السناتور الجمهوري ليندزي غراهام والسناتور الديمقراطي كريس فان هولن لفرض عقوبات اقتصادية ضد أردوغان ونائبه ووزراء المالية والدفاع والطاقة والاقتصاد، إضافة إلى فرض عقوبات عسكرية ضد تركيا، تضمن معاقبة أطراف ثالثة تساعد تركيا عسكريا.ما هو مؤكد في نهاية الأسبوع الأول للأزمة، هو أن الرئيسين ترامب وأردوغان يواجهان تحديا قويا قد يهدد مستقبلهما السياسي. الكونغرس الأميركي غاضب منهما، ومن المتوقع أن يصوت على قرارات عقابية سوف تضعضع أكثر العلاقات بين واشنطن وأنقرة ـ الهشة أصلا.استمرار الاحتلال التركي للأراضي السورية سوف يشجع الأصوات الأوروبية والأميركية المطالبة بطرد تركيا من حلف الناتو، بعد أن يتوصل الحلف إلى آلية تنفيذية لهذا الهدف.

لماذا تركت واشنطن أكراد العراق لمصيرهم؟!فقد الأكراد مجددا فرصة تقرير مصيرهم بأنفسهم وإنشاء دولة خاصة بهم، لأنهم ربطوا مصيرهم مرة أخرى بسياسات أمريكا التي لم تراع أبدا حلمهم التاريخي بإقامة دولة كردستان. هذا ما خلص إليه كيفورك ميرزايان، الأستاذ المشارك في قسم العلوم السياسية في الجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية، في مقال كتبه لوكالة نوفوستي.فقبل نحو شهر، صوت أكثر من 90% من الناخبين الأكراد في شمال العراق بـ”نعم” في الاستفتاء على الانفصال، بعدما تراءى لهم أنهم أصبحوا يملكون مقومات دولة: جيشهم الخاص (البيشمركة)، نفطهم، أموالهم، أجهزتهم الحكومية، عاصمتهم أربيل.غير أن هذا الاستفتاء، وبدلا من أن يقربهم خطوة من تحقيق حلمهم بإقامة دولتهم، أعادهم عشرات بل ومئات الخطوات إلى الوراء، وانقلب وبالا عليهم، وكاد يحوّل حلمهم إلى كابوس، إذ أطلقت وحدات من الجيش العراقي والقوات المتحالفة معه عملية ضدهم تمكنت بواسطتها من طردهم من جميع الأراضي التي تقدموا إليها منذ صيف العام 2014. والأكثر إيلاما فقدانهم لمدينة كركوك، التي تحمل إلى جانب المعاني الرمزية، من وجهة نظرهم، أهمية خاصة من الناحية المادية كونها تصم أكبر حقول النفط .
وعلى الرغم من أن الأزمة بين بغداد وأربيل لم تنته فصولها رسميا بعد، إلا أن من الممكن تلخيص نتائجها الكارثية على الجانب الكردي. إذ أن كردستان العراق لم تفشل فقط في تحقيق مهمتها فحسب، بل دفعت ثمن محاولتها خسائر فادحة. فبدل أن يؤدي استفتاء سبتمبر إلى إضفاء الشرعية على جميع عمليات الاستحواذ على الأراضي في العراق، فقد الأكراد السيطرة الفعلية على هذه الأراضي وغيرها. وأدى استفتاؤهم أيضا إلى الدخول في اشتباك إقليمي مع أهم شريك لهم في السياسة الخارجية – تركيا.بالإضافة إلى كردستان العراق، اتضح أن الخاسر أيضا، هو رئيس الإقليم مسعود بارزاني، الذي سعى من خلال الاستفتاء ليس فقط لتحقيق حلم الأكراد، ولكن أيضا إلى تعزيز مواقعه في كردستان العراق وزيادة نفوذه، لكن النتائج جاءت بما لا تشتهيها سفنه.الولايات المتحدة التي اعتقد أكراد العراق أنها حليفتهم وبنوا حساباتهم على أساس ذلك، أدارت لهم ظهرها وسلمتهم لقمة سائغة لبغداد. أولا، لأنها لم توقف الهجوم العراقي عليهم. وثانيا لأن من الصعب أن يصدق أحد، بأن الأميركيين لم يكونوا على علم ودراية بالهجوم الخاطف لقوات بغداد، على كركوك ونفطها ورمزيتها في الذاكرة الجمعية لأكراد العراق.وقال ديفيد فيليبس الذي كان مسؤولا عن ملف العراق، منذ ما يقرب من 30 عاما في وزارة الخارجية الأمريكية، إن “رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لم يكن ليهاجم كركوك من دون ضوء أخضر من قبل الولايات المتحدة”.

ومن الواضح أن واشنطن تدفع الأكراد العراقيين لإلقاء اللوم جزئيا على أنفسهم، من خلال القول لهم إنهم لم يسمعوا مطالبتها لهم بعدم إجراء الاستفتاء. غير أن الرغبة في معاقبة الأكراد على عصيان أوامر الباب العالي في واشنطن، أدت إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بالأمريكيين أنفسهم قبل غيرهم.الهزيمة لا تتمثل فقط في خيبة أمل العالم من الضمانات الأميركية ومدى وثوقها. ولا حتى في حقيقة أن الأكراد يتهمون الولايات المتحدة بخيانة آمالهم القومية، وهذه ليست المرة الأولى.لقد خسر الأمريكيون كردستان العراق كرأس جسر، كان يمكنهم استخدامه من قبل استخباراتهم لزعزعة استقرار المحافظات الكردية في إيران نفسها. ولم يخسر الأميركيون هذه الحرب فحسب، بل استسلموا لإيران في بداياتها. وبعد ذلك من في الشرق الأوسط مستعد لدعم الولايات المتحدة في أي صراع محتمل مع طهران؟!.في الواقع، كانت هزيمة الولايات المتحدة انتصارا لطهران، وكان الجانب الإيراني بشكل عام أحد المستفيدين الرئيسيين من هذه الأزمة. وقال ممثل حكومة بارزاني، فاهال علي، إن “الأميركيين يقدمون العراقيين لإيران على طبق من فضة، ولا استطيع أن أعبر عن ذلك بشكل أكثر دبلوماسية “.طهران، لم تكتف بتوجيه ضربة مؤلمة للولايات المتحدة، وتدمير “الجسر الكردي” تحت أنظارها وأقدامها، بل أظهرت أيضا لجميع الذين يمكن أن يلاحظوا قوة الدبلوماسية الإيرانية، كيف عقدت طهران صفقة رابحة بين بغداد وعشيرة طالباني. وقد تم تنسيق الاتفاق نفسه من قبل الجنرال الإيراني قاسم سليمان، الذي يعتبر سيد العمليات السرية في الشرق الأوسط.
فوز بغداد وموسكو -العراقيون أنفسهم هم أول المستفيدين المباشرين من الخيانة الأمريكية لآمال الأكراد. لقد تمكنت بغداد من استعادة السيطرة على أهم الأراضي وأهم حقول النفط في كركوك، وبالتالي الحصول على مصدر لتجديد وتعزيز الميزانية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد ألحقت ضربة كبيرة، وربما حتى حرجة بالطموحات الانفصالية الكردية. وفي الوقت نفسه، لعب العراقيون بعناية فائقة. أولا، العمليات العسكرية للجيش العراقي لم تنفذ إلا في تلك الأراضي التي غنمتها البيشمركة بشكل غير قانوني في السنوات الأخيرة، ولم تحاول أن تدخل أراضي كردستان العراق. أي أنه اتضح أن بغداد أخذت ببساطة كل ما تريده.ثانيا، بعد تحرير هذه الأراضي مباشرة، عرض رئيس الوزراء العراقي على الرئيس الكردي حل جميع الخلافات المتبقية على طاولة المفاوضات، مع العلم أن الأكراد، بعد عملية عسكرية ناجحة، سيكونون في موقف تفاوضي ضعيف. وسيكون من الصعب جدا عليهم معارضة ما تريده بغداد منهم. لذلك، فلا يمكن التعويل على استعداد البيشمركة للعودة إلى كركوك بالقوة، فليس للأكراد فرصة تذكر لذلك. وليس من المستغرب أن تظهر حكومة كردستان العراق بالفعل استعدادها لإجراء مثل هذه المفاوضات. وبطبيعة الحال، فإن الأكراد استخلصوا العبر من كل ما حدث. وبالتالي، يمكن اعتبار موسكو واحدة من المستفيدين. ليس فقط لأن الأكراد الذين وجدوا أنفسهم في عزلة مفاجئة، مستعدون لـ”استئجار” مظلة عسكرية -سياسية روسية، مقابل عقود نفطية أبرمت بالفعل، بل لأن الاستنتاجات الصحيحة يمكن أن يستخلصها ليس فقط أكراد العراق، بل أيضا أكراد سوريا. فبعد كل هذا، سيتوجب على هؤلاء التفكير مليا في ما إذا كان من المفيد لهم الآن، الاستمرار في التحالف مع الولايات المتحدة، واللعب ضد مصالح روسيا في دير الزور؟ وبالتالي تعريض أنفسهم لنقمة روسية-سورية-إيرانية-تركية دون أية ضمانات أمنية أمريكية.

يختلف الكُتّاب والباحثون في العالم حول أسباب فشل أو نجاح سياسة دولة عظمى كالولايات المتحدة أو غيرها استنادا إلى دوافعهم الأخلاقية والشخصية وإلى الأبحاث والدراسات التي يجرونها حول مواقف ومبادرات مثل هذه الدول في العالم، وهذا أمر بديهي.ويحاول ناقدو الكتب السياسية والاجتماعية والتاريخية تقييمها آخذين في الاعتبار دوافع المؤلفين، من جهة، ومستوى الأبحاث والدراسات التي ساهمت في تحقيق أي نتاج من هذا النوع، من جهة أخرى.صَدَر مؤخرا كتاب بعنوان “الخيانة الكبرى، كيف تخلت أمريكا عن الأكراد وخسرت الشرق الأوسط” للاختصاصي في شؤون سياسة هذه المنطقة وتاريخها، ديفيد ل. فيليبس، مدير مركز دراسات عن السلام وحقوق الإنسان في جامعة كولومبيا الأمريكية، وقد عمل سابقا كمستشار لوزارة الخارجية الأمريكية ولسكرتارية هيئة الأمم المتحدة، وحاضرَ في جامعات عالمية حول منطقة الشرق الأوسط وحقق كتبا أكاديمية موثقة عن تركيا والعراق وسوريا والقضية الكردية.في هذا الكتاب الجديد عن “خيانة” أمريكا للأكراد يعرض فيليبس موقفه المؤيد للشعب الكردي الذي تم تجاوز حقوقه ومطالبه منذ المقدمة والفصول الأولى، بحيث يعتبر ان هذا الشعب الذي يناهز عدده حوالي الخمسة والثلاثين مليون نسمة والمنتشر خصوصا في العراق وسوريا وإيران وتركيا وعدته الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى بانه سيحصل على دولة مستقلة وذلك عام 1920 في “اتفاقية سيفر” ولكنها تراجعت عن هذا الوعد بعد ذلك بثلاث سنوات، في “اتفاقية لوزان” عام 1923. وأنه منذ ذلك الحين وحتى الساعة، يقف الشعب الكردي إلى جانب الدول الغربية الكبرى في معاركها ومشاريعها فيما هي تستخدمه ميدانيا وعسكريا، وبعد ذلك تتخلى عنه، كما يحدث حاليا في سوريا والعراق (في رأي الكاتب). وينصبُ فيليبس نفسه ناطقا باسم الشعب الكردي واستعادته لحقوقه عبر معرفته وأبحاثه ودراساته، وليس كما قد يفعل آخرون أقل قدرة علمية وأكثر ميلا نحو الديماغوجية، ولكنه لا يتجاوز كليا التزامه الكبير وانحيازه لهذا الشعب. فهو مثلا يتحدث عن تراجعات وخيانات متكررة تعرضت لها القيادات السياسية والمقاومة الكردية وعاناها الشعب الكردي الذي فقدَ الآلاف من أبنائه في حروب المنطقة.

الخيانة الثانية بعد لوزان، حسب الكاتب، تمت في عام 1975 عندما وقّعَ العراق “اتفاقية الجزائر” مع نظام شاه إيران (في سقوطه لاحقا) كجزء من صفقة حول حدود البلدين ومنطقة شط العرب، أشرف عليها هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، الذي أصبح لاحقا وزيرا للخارجية. وفي جزء من هذه الاتفاقية، تعهدت إيران ـ الشاه بوقف دعمها للقائد الكردي المُلا مصطفى بارزاني، ما أدى إلى تقهقر المقاومة الكردية التي قادها بارزاني الأب بدعم من الأجهزة الأمريكية الأمنية.الخيانة الثالثة تمت في عام 1991 وبعد إخراج قوات الرئيس جورج بوش الأب فصائل الجيش العراقي من الكويت ودعوة بوش الاب الأكراد والشيعة العراقيين إلى الثورة ضد نظام الرئيس صدام حسين. وعندما فعلا ذلك، عزفت أمريكا عن دعمهما عسكريا واسقاط النظام فارتكب النظام العراقي “مجازر بحقهما” ما أدى إلى مقتل الآلاف منهم وإلى هجرة مليون ونصف مليون كردي إلى الجبال المجاورة للحدود العراقية ـ التركية والحدود العراقية ـ الإيرانية.الخيانة الرابعة في حق الأكراد تمت عام 2017 عندما قررت القيادة الأمريكية اعتماد مبدأ “بغداد أولا” في نقل الأسلحة والمعدات الحربية إلى العراق، أي أنها فضلت عدم إعطاء أولية لنقل مثل هذا السلاح الثقيل إلى حليفتها الوفية قوات البيشمركه الكردية. وهنا يستنتج الكاتب أن بعض الأسلحة الأمريكية الثقيلة والمتطورة انتقلت من السلطة العراقية في بغداد إلى الميليشيات الشيعية العراقية وغيرها مما عزز قوة الحلفاء العراقيين، الحرس الثوري الإيراني ـ فيلق القدس بقيادة الجنرال قاسم سليماني. وهذا الأمر حدث في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2017 أي خلال رئاسة دونالد ترامب لأمريكا وبصرف النظر عن التضحيات التي قدمتها القوات الكردية لحملات مواجهة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) بين عامي 2014 و2017 والتي قُتل خلالها ما يزيد عن ألف وسبعمئة عسكري من البيشمركه وجُرح حوالي عشرة آلاف منهم، وبرغم من أن القوات الكردية ساهمت في تحرير ما يزيد عن الثلاثين ألف متر مربع من الأراضي التي كانت تحت سيطرة “داعش”.الأمر الأفظع حاليا، حسب فيليبس، هو أن إدارة ترامب خانت “وحدات حماية الشعب الكردية” (YPG) التي نفذت ميدانيا عمليات تحرير مدينة الرقة السورية والتي كانت مركز “خلافة تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) فيما غضت واشنطن الطرف عن التعاون الكردي الميداني الحثيث معها لمدة سنتين في سوريا ولسنين قبل ذلك في العراق، وبدلا من ان تحمي الأكراد ساهمت في هزيمتهم في معركة عفرين وإن بشكل غير مباشر.ويُلقي الكاتب اللوم على إدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب في مجال خيانة الأكراد. فالرئيسان الأمريكيان سعيا إلى هزيمة “داعش” واستخدما القوات الكردية ولكنهما اتجها لاحقا إلى اعتماد سياسة “بغداد أولا” التي أفشلت المشاريع السياسية الاستقلالية الكردية لتقرير المصير. وعاقبت أمريكا القيادات الكردية على اجرائها استفتاء في أيلول (سبتمبر) 2017 في إقليم كردستان العراق أظهر أن الأكثرية الساحقة من سكان الإقليم رغبت في الحكم الذاتي المستقل.ومن الحجج التي استُعملت لتبرير هذه الأخطاء الأمريكية أن الأكراد ينتمون في أكثريتهم إلى المذهب السني الإسلامي وبقاؤهم في العراق كدولة يعزز التوازن السني ـ الشيعي في البلد. ولكن الذي حدث هو المزيد من التنافر والمواجهة الطائفيين والصعود المتزايد لهيمنة إيران على الجزء الأكبر من الفاعليات الشيعية في البلد، حسب الكاتب. إذن فأمريكا بدلا من أن تعتمد خططا سياسية ناجحة لمواجهة “داعش” ساهمت بشكل غير مباشر في تعزيز هيمنة إيران في العراق التي تتذرع حاليا بانها تواجهها بفاعلية ونجاح. كما أنها لم تقضِ كليا على وجود وانتشار تنظيم “الدولة” في المنطقة، كما تدعي. ويبدو فيليبس متحمسا إلى حد المبالغة في بعض تحليلاته وانتقاداته وخصوصا عندما يشعر القارئ وكأنه يدعو إلى حرب أمريكية ـ غربية ضد إيران ودول أخرى في المنطقة على شاكلة الحرب التي شنها نظام جورج بوش الابن عام 2003 ضد العراق وفشلت وأدت إلى نشر المزيد من عدم الاستقرار في المنطقة وخصوصا لدى قوله إن إلغاء الاتفاقية النووية بين إيران والدول الغربية وأمريكا (1 + P5) لا يكفي لضبط نفوذ إيران ومنع تأسيس “الهلال الشيعي” الممتد من طهران نحو العراق، فسوريا فلبنان، والذي سيشكل عائقا لمشروع “الديمقراطية في المنطقة”! وهنا يتقارب موقفه مع مواقف أعضاء “مؤسسة ايلي فايزل” التي يديرها والمتناغمة مع مشاريع “المحافظين الجدد” والصهيونيين المتطرفين في منطقة الشرق الأوسط. وتُطرح تساؤلات حول الترابط في أذهان البعض بين المشروعين الكردي المتحفظ عربيا، من جهة، والصهيوني المنكّل بالعرب من جهة أخرى.ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا الترابط السلبي لديه خصوم بين فئات من الأكراد وبعض اليهود الأمريكيين والشعوب الحرة الأوروبية وقادتها، بالإضافة إلى الشعوب العربية المقاومة.ويُعبر الكاتب في أحد مقاطع كتابه عن خشيته إزاء اضطرار الأكراد وقياداتهم إلى التقارب من الأنظمة العربية والشرق أوسطية التي ينتشرون فيها إذا استمرت أمريكا في خيانتهم والتخلي عنهم، وكأن في هذا التقارب خطيئة!وفي أحد مقاطع الفصول الأخيرة للكتاب، ينتقد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما لأنه لم يستمع إلى نصائح وزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلينتون ومدير “وكالة الاستخبارات المركزية” (CIA) في فترات تسلمها مهام تلك الوزارة اللذين نصحاه بإنشاء مناطق آمنة للسكان الأكراد على شاكلة ما أنشئ في شمال العراق بعد حرب تحرير الكويت عام 1991 فيما رفض أوباما هذه النصائح.

كما يتهم أوباما بأنه كان عدوا للتطلعات القومية وحق تقرير المصير للشعب الكردي ولرغبة هذا الشعب بالطلاق من بغداد، معتبرا أن هذه السياسة الأمريكية جعلت كردستان العراق والمناطق الكردية عرضة لهجمات “تنظيم الدولة” وإيران ضدهما.وكان على أوباما اعتماد القوة (في رأي الكاتب) عندما تدعو الحاجة لذلك وكما نصح به السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين. وبالتالي، تميزت مواقف فيليبس بالصقورية برغم انه وصف نفسه بالمدافع عن السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية.فلا عجب إذن ان نقرأ بعض الأسماء الواردة في الصفحات الأولى والأخيرة والمعلقة بالثناء والإعجاب بالكتاب كاسم الجنرال غاي غارنر أول حاكم عسكري للعراق بعد احتلال البلد عام 2003 من جانب القوات الأمريكية، والسفير الأمريكي في العراق بين عامي 2007 و2009، زايان كروكر، الذي كان سفيرا أيضا في مناطق حصلت فيها تدخلات عسكرية أمريكية أحادية كأفغانستان وباكستان والكويت وسوريا ولبنان إلى جانب غيرهما من المفكرين والعسكريين والسياسيين “المزدوجي الحرص” على حقوق الإنسان، من جهة، والعمليات العسكرية الأمريكية الأحادية الضخمة من جهة أخرى، في الوقت عينه.ويرى المؤلف انه إذا استمر الوضع على ما هو عليه في تعامل أمريكا والدول الغربية “الانتهازي” مع الأكراد وكأنهم “حلفاء بالإمكان استعمالهم والاستغناء عنهم عند الحاجة” فقد يتجه الأكراد ليس فقط للتعامل مع خصومهم المحليين والإقليميين بل إلى الانفتاح إلى درجة أكبر نحو دول كروسيا والصين وأمثالهما، خصوصا أن الوضع السوري في المستقبل يبدو انه سيُقرر بين روسيا وتركيا وإيران بالتنسيق مع النظام السوري، والوضع في العراق سيخضع أيضا لتنسيق أمريكي ـ روسي ـ خليجي ـ إيراني.ويَطرح المؤلف في نهاية كتابه السؤال التالي: “أي شعب في العالم سيكون مستعدا للتضحية بأبنائه من أجل نجاح أجندة أمريكا في المستقبل بعد الطريقة الانتهازية التي تعاملت فيها واشنطن مع الشعب الكردي، من دون تقديم أي مكافأة لتضحياته؟”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here