الفيتناميون ينقلون بلادهم من الخراب إلى درب التنمية والاستقرار

الفيتناميون ينقلون بلادهم من الخراب إلى درب التنمية والاستقرار
عادل حبه

هوشي مين والجنرال جياب
على مدى ألفي عام عانى الشعب الفيتنامي من نير الغزاة، الاباطرة الصينيين تارة واليابانيين تارة أخرى، وتبعت هؤلاء الغزوات الفرنسية التي استمرت من عام 1859 وحتى عام 1885 حيث أصبحت فيتنام جزءاً من مستعمرات “الهند الصينية الفرنسية” حتى عام 1941 عندما غزت القوات اليابانية أراضي الهند الصينية وأزاحت الغزاة الفرنسيين. عندها تشكلت وحدات عسكرية شعبية هي “الڤيت مين” بقيادة الحزب الشيوعي وسعت إلى استقلال البلاد. واجه الغزاة اليابانيون هذه الحركة بالقمع والإبادة وراح ضحيتها قرابة 10% من سكان البلاد. وبعد هزيمة اليابان وسقوط دميتها (الامبراطورية الفيتنامية) في نهاية الحرب العالمية الثانية، استولت قوات الڤيت مين على مقاليد الأمور في هانوي وأعلنت الحكومة المؤقتة بتاريخ الثاني من أيلول عام 1945 برئاسة هوشي مينه. وسعت الحكومة الفرنسية إلى إعادة سيطرتها على الهند الصينية وأصطدمت في العشرين من تشرين الثاني عام 1946 بقوات الڤيت مين وأنلعت الحرب الهندو صينية-الفرنسية التي شملت أراضي لاؤوس وفيتنام وكمبوديا التي دامت حتى العشرين من تموز عام 1954 بعد أن هزمت قوات التحرير الفيتنامية القوات الفرنسية في اشنع هزيمة لها في معركة “ديان بيان فو” الشهيرة بقيادة الجنرال الفيتنامي الاسطوري ” فون جوين جياب “. وجرت مفاوضات في جنيف توصل الطرفان المتحاربان إلى اتفاقية وقف إطلاق النار وتقسيم البلاد إلى شمال وجنوب حيث أعلنت في القسم الشمالي، جمهورية فيتنام الديمقراطية الشعبية، حكومة بزعامة هوشي مينه وفي الجنوب بزعامة الامبراطور باو داي وتراجعت الهيمنة الفرنسية عن كل أراضي الهند الصينية وبضمنها فيتنام، لتتولى الولايات المتحدة الدفاع عن صنيعتها في الجنوب والهيمنة على المناطق الجنوبية. ورفض حكام الجنوب وحماتهم كل دعوات قادة الشمال

نصيرة في قوات الفيت كنغ
باجراء انتخابات لتقرير مصير البلاد ووحدتها. وسارعت الولايات المتحدة وفي ظروف الحرب الباردة إلى تعزيز ترسانتها العسكرية في جنوب فيتنام بهدف تحقيق خطتها في الإطاحة بالنظام التحرري في الشمال الذي يتمتع بالدعم الكامل من الاتحاد السوفييتي وجمهورية الصين الشعبية آنذاك، قبل بروز الاختلافات بين الطرفين. وبحلول علم 1965 بدأت شرارة الحرب من جديد في فيتنام، وقامت الولايات المتحدة بتطبيق سياسة الأرض المحروقة في الشمال والجنوب الفيتنامي، وتشكلت فرق المقاومة الفيتنامية في الجنوب “الڤيت كونگ”التي نسقت خططها مع القيادة العسكرية في جمهورية فيتنام الديمقراطية ومع القوى التحررية في لاؤوس وكمبوديا لتندلع نار حرب ظروس+ استمرت ثماني سنوات وانتهت باقتحام الڤيت كونگ العاصمة الجنوبية وهروب القوات الأمريكية جوا وبشكل مذل، ولتعلن وحدة الشمال والجنوب. لقد أبادت الولايات المتحدة قرابة 4 ملايين فيتنامي و 350 ألف في لاؤوس و 600 ألف في كمبوديا، ودمرت البني التحتية والمشاريع الاقتصادية والمؤسسات الصحية والتعليمية والخدمية عبر قصف متواصل للطيران واستخدام الاسلحة المحرمة دولياً، مما اضطر الحكومة الفيتنامية إلى تحشيد 90 ألف عامل فيتنامي لحفر أنفاق تحت الأرض يبلغ طولها 30 ألف كيلومتر لتأمين المواصلات بين المدن. ولكن كل هذا الدمار لم يحطم إرادة هذا الشعب الجسور.
وُضعت نهاية للحرب القذرة هذه بفعل صمود الفيتناميين وتصاعد الاحتجاجات في العالم ضد عدوان الولايات المتحدة، وفي الولايات المتحدة نفسها جراء الخسائر التي أصابت القوات المسلحة الأمريكية حيث أودت الحرب بحياة قرابة 90 ألف عسكري أمريكي وتحطم ما يزيد على3689 طائرة حربية و 4857 هيلوكوبتر و 7 بوارج حربية. وبرزت بعد الحرب مهام بالغة التعقيد أمام الحكومة الفيتنامية لإعمار البلاد وإعادة الأمور إلى الأوضاع السلمية. وكانت المهمة الأولى هي الخروج من دائرة وأجواء العسكرة التي فرضت على البلاد بفعل هذه الحرب الشاملة، ثم البحث عن السبل لإعاد الحياة إلى العملية الأقتصادية وحل المشاكل البالغة التعقيد التي يعاني منها الشعب جراء الحرب. كانت الخطوة الأولى الانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلام، وطرحت حلول تبدأ بالدرجة الأولى في إعادة النظر في تركيبة الهياكل الإدارية والحزبية التي تولت المسؤولية في فترة الحرب. وجرى التوجه صوب العناصر المهنية والتكنوقراط في مؤسسات الدولة وفي الحزب ذاته. فطابع المسؤولية أثناء الحرب لم تعد مناسبة في أوقات السلم، ولذا أجريت تغييرات واسعة في مرافق الدولة وفي صفوف الحزب والمؤسسات المهنية لصالح الفئات المهنية القادرة على إعادة بناء الدولة والمجتمع والمرافق المختلفة للدولة، مع النظر بالتقدير العالي والإمتنان لتلك الفئات التي تولت إدارة الدولة والحزب والمنظمات الاجتماعية في فترة الحرب العسيرة. أي الانتقال من قيادة للحرب إلى قيادة الدولة في مرحلة السلام والبناء، فلكل مرحلة رجالها وفئاتها. وهذا ما انتبه إليه الناخب البريطاني في الانتخابات التي جرت بعد الحرب فلم تنتخب ونستون تشرشل أحد أبطال التحالف المعادي للفاشية، وانتخبت كليمنت أتلي الذي قدم برنامجه لفترة ما بعد الحرب. وهذا ما لم تنتبه إليه القيادة السوفياتية بعد الحرب حيث أولت المسؤولية للشخصيات التي أظهرت البطولة والبسالة في دحر الغزاة النازيين، ولم تبحث عن الفئات والعناصر القادرة على إدارة البلاد في مرحلة ما بعد الحرب …مرحلة البناء السلمي التي تحتاج إلى مواصفات تختلف عن مواصفات فترة الحرب وعسكرة المجتمع. وكان هذا الخيار أحد أسباب الركود والفشل الذي واجه الدولة السوفييتية بعد دحر الفاشية. ويكاد ينطبق الأمر على المثل العراقي أيضا، فغالبية من تصدر المشهد السياسي بعد انهيار الديكتاتورية هم من المسلحين الذين ساهموا في النشاط المسلح ضد النظام السابق سواء في جنوب العراق أو في الإقليم الذين يفقرون إلى فن إدارة الدولة وفن ممارسة الديمقراطية ولا يتمتعون بالمهارة والخبرة والقدرة على حل المشاكل المعقدة التي واجهت البلاد منذ عام 2003، وهذا ما دفع بالبلاد إلى نفق لا مخرج منه حتى الآن.
أما الوجهة الأخرى التي ركز عليها الفيتناميون فهي تحديد سياسة اقتصادية واضح’ وبدون لبس ضمن امكانيات البلاد المادية والبشرية والفنية والمهنية، إضافة إلى التفتيش عن الفرص المطروحة اقليمياً عالمياً. فلم يعد بمقدور الدولة احتكارالعملية الاقتصادية لوحدها على انتشال البلاد من الدمار الهائل الذي حل بالبلاد. كما أن هناك شحة كبيرة في تأمين الموارد المالية والفنية بحيث لا يمكن أن تخطو البلاد اية خطوة إلى الأمام بدون تأمين التوظيفات اللازمة من المحيط الدولي. وقد استفادت القيادة الجديدة في فيتنام بعد الحرب من المثل الذي سارت عليه النمور الأسيوية المجاورة في عملية التنمية. وخططت لاتباع سياسة اقتصادية عبارة عن مزيج من الملكية الخاصة والجماعية وملكية الدولة لوسائل الإنتاج. ويوصف الاقتصاد الفيتنامي الآن بأنه اقتصاد سوق متعدد القطاعات، وهذا الاقتصاد عبارة عن مزيج من الملكية الخاصة والجماعية وملكية الدولة لوسائل الإنتاج. وهذا الاقتصاد هو نتاج الإصلاحات التي تعرف باسم ( (Doi Moi أي الاقتصاد الجديد الذي أدى إلى إحلال الاقتصاد المختلط محل الاقتصاد القائم على التخطيط المركزي. ولربما هو نسحة ويتنامية معدلة من سياسة النيب السوفياتية (НЕП) التي اقترحها لينين عام 1921 بدلاً من الشيوعية العسكرية والتمركز المفرط للاقتصاد بيد الدولة، هذه السياسة التي لو تم السير على خطاها لما انهارت التجربة السوفياتية بهذا الشكل الدرامي.
ومن أجل الشروع بهذه السياسة كان من الواجب العناية بالتعليم والتدريب. واستطاعت فيتنام بدريجياً إعداد أجيال جديدة من الشباب بعد إصلاح وتطوير نظام التعليم بصورة سريعة، بحيث أصبحت قادرة على جذب استثمارات أجنبية فى عمليات تصنيع تحتاج إلى عمالة كثيفة وبمهنية عالية. وهكذا أصبح التعليم أحد أهم عناصر التقدم الاقتصادي بعد أن تم تخصيص نحو 7% من ميزانية البلاد للتعليم وتخريج أجيال شابة على أعلى مستوى من التعليم والتدريب.
وعلى هذا الطريق تمت هذه الإصلاحات فى عام 1986 بعد انعقاد المؤتمر العام السادس للحزب الشيوعي الفيتنامي، الذي اقر الخطة العامة التي تتيح للملكية الخاصة اقامة المشروعات الصغيرة، وتفتح المجال لدور أكبر للشركات الأجنية للعمل في السوق الفيتنامي، وتوفير قاعدة تقنية مادية تكون أساساً لتحقيق العدالة الاجتماعية.
وانتقلت فيتنام تدريجياً بعد تطور اقتصادي سريع إلى مصاف الدول المصدرة لبضائعها لتحتل اليوم المرتبة العاشرة في سلم الدول المصدرة. ففي عام 2017 صدرت فيتنام مامقداره 213 مليار دولار من البضائع والمواد إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وأضحت المعدات الكهربائية المصنوعة في فيتنام تشكل أكبر كمية من البضائع المصدرة إلى الولايات المتحدة، وبضمنها المحركات الكهربائية والتلفونات والأسلاك الكهربائية وغيرها من المعدات الكهربائية التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية. وفتحت الشركات العالمية المنتجة للأحذية فروعاً لها في فيتنام ومنها شركات Nike,Adidas, Puma ,Clarks وأخريات، بحيث أصبحت فيتنام رابع دولة في انتاج الأحذية في العالم بعد الصين والهند والبرازيل، وبلد مصدر للجلود الخاصة بالأحذية والملابس الجلدية. وقامت أكبر شركات تصنيع الالكترونيات بفتح مصانع لها في فيتنام بسبب انخفاض تكاليف العمل، حيث أصبحت لوحات الدوائر المتكاملة تشكل 5.8% من صادرات فيتنام. واقتحمت فيتنام سوق الملابس الجاهزة في السوق العالمية حيث تشكل صناعة الألبسة ما مقداره 30 مليار دولار. كما تحتل صناعة الأثاث مكانة بارزة في الاقتصاد الفيتنامي، وتحتل المرتبة الثامنة عالمياً في صناعة هذه البضاعة. كما تحتل فيتنام المرتبةالثانية بعد البرازيل في انتاج القهوة وتصدير المنتجات السمكية على اختلاف أنواعها. وتصدر النفط والمنتجات النفطية إلى الدول الإقليمية. وتشتهر فيتنام بأنواع نادرة من الفواكه والخضروات التي أزدادت نسبتها في حجم الصادرات الفيتنامية.
لقد قطعت البلاد شوطاً مدهشاً في عملية التنمية والبناء خلال العقود الثلاثة الماضية ومنذ إعلانها الإصلاح الاقتصادي عام 1986، بعد أن كانت فيتنام في عداد الدول الفقيرة. فقد إزداد دخل الفرد من 231 دولار عام 1986 إلى 2700 دولار في عام 2018. وغادر 45 مليون فيتنامي دائرة الفقر، وتراجع معدل الفقر بمقدار 70%. هذا هو الطريق الذي سلكه الفيتناميون بحكمة وصبر وإصرار منذ أن سويت بلدهم بالأرض على يد حكام الولايات المتحدة، ليلعبوا الآن دوراً نشطاً في الاقتصادي العالمي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here