الرقمنة ونهاية الأحزاب السياسية .. افكار تبعث للتفكير

الرقمنة ونهاية الأحزاب السياسية
افكار تبعث للتفكير

يقلم الباحث الإيراني ب. بي ‌نیاز (داریوش)
ترجمة عادل حبه

الرقمنة
لفهم الاختلافات بين الرقمنة (Digital)اليوم والتناظرية (Analog) بالأمس، من الضروري إلقاء الضوء بشكل موجز على الماضي مروراً بحاضرنا. بطبيعة الحال، يدور جوهر مناقشتنا هنا حول ثقافة التواصل بين البشر (communication culture). ويمكن القول إنه لم يطرأ أي تغيير على ثقافة التواصل الإنساني منذ عهد فيثاغورس (حوالي 570 قبل الميلاد) حتى يومنا هذا؛ أي في فترة الإنتشارالعالمي للإنترنت. لقد قسّم فيثاغورس البشر إلى مجموعتين: المتخصصون بالرياضيات( 1) ، أي أولئك الذين لديهم القدرة على التدريس، و المستمعون الذين يتلقون الغذاء الروحي والمعرفي من علماء الرياضيات.
وإحتفظ البشر بـ”أدوات التواصل” طوال تاريخه(2) ، لأن التواصل مع بعضهم البعض من ضرورات الحياة الجماعية البشرية. كانت الوسيلة الأولى للاتصال بين البشر هي المراسيم التي كانت تجري في المعابد تحت القيادة المباشرة لرئيس القبيلة / الملك. في هذه المرحلة التاريخية، كان الملوك كانوا يقومون بدور إما الله نفسه أو شعاع الله. وكان رجال الدين في هذه المرحلة من “ألسِنة” الملوك. فقد كانوا ، في الواقع ، يلعبون دور “المتخصصون في الرياضيات”عند فيثاغورس، والذين كانوا ينقلون المعلومات الدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها من الأخبار والمعلومات إلى الناس عبر المراسيم الدينية، أي الأدوات الإعلامية في ذلك الوقت. وتحدث فيثاغورس عن علاقة إعلامية أحادية الجانب بلغة اليوم: من النخبة إلى عامة الناس!
ومع إضمحلال العصور القديمة ووصول الإنسان إلى العصور الوسطى ، حدثت سلسلة من التغييرات الكمية: فرجال الدين ، الذين لعبوا حتى ذلك الحين دور “المتحدث الرسمي” للملوك في الأضرحة، فراحوا يتحدثون الآن في المعابد والكنائس والمساجد وغيرها من الأضرحة. في الواقع ، أصبحت الكنائس والمساجد وسيلة جديدة للتواصل ، حيث يتم نقل الأخبار والأحداث من خلال هذه الأدوات إلى الجمهور.
مع اختفاء العصور الوسطى وتهميش رجال الدين في السلطة السياسية في أوروبا وإدخال مخترعات جديدة كالكتب والراديو والتلفزيون ، فقد جرى الاحتفاظ بجوهر هيكل فيثاغورس حتى الآن(3)، على الرغم من حدوث تغيير نوعي في وسائل الاتصال. إن المُلاّك الجُدد للسلطة، الذين كانوا يحتفظون حولهم بجيش كبير من “علماء الرياضيات”، لا يزالون ينقلون للمستمعين الغذاء الروحي والمعلوماتي بواسطة هذه الأدوات الإعلامية الجديدة ، ولكن من جانب واحد. وأضطر عامة الناس أن يأكلوا ويبتلعوا ما تقدمه لهم الإذاعة والتلفزيون. لقد كان من الممكن للكتاب أن يكون أكثر “حرية” بقليل، إلاّ أنه أصبح هو الآخر خاضعاً لقوانين الرقابة.
ومع ذلك، وبالاعتماد على الحقائق التاريخية، يمكن البرهان على أن الأدوات الإعلامية كانت دائماً في أيدي من يتولون السلطة ، وبالطبع ، في معظم الحالات ، تصرفت من جانب واحد؛ أي أن الناس لم يُنظر إليهم كمواطنين بالغين وأصحاب فكر ، بل كـ”دمى” يجب تغذيتها من قبل النخب التابعة إلى من هم في السلطة. كانت هذه هي الوظيفة الإعلامية لجميع الأنظمة السياسية حتى الآن. أي أن الأنظمة السياسية حتى الآن، على الأقل في هذا المجال ، استخدمت ولا تزال تستخدم هياكل متماثلة نسبياً ؛ بالطبع ، يجب أن أؤكد أن هذه الشروط ، من جهة ، كانت تتناسب مع نمو وسائل الإعلام ، ومن ناحية أخرى ، مع التقسيم الاجتماعي للتعليم العام.
قلب الأوراق
يختلف الإنترنت نوعياً عن جميع تقنيات التواصل التي كانت بحوزتنا في السابق على الإطلاق. لأنه، على عكس الراديو والتلفزيون، فإن نوعيتها ليست أحادية الجانب، ولكنها ذات اتجاهين أو تفاعلية (Interactive). ومن ناحية أخرى، قضت هذه التكنولوجيا عمليا على الاعتماد البشري على التقنيات من جانب واحد مثل الراديو والتلفزيون. وأدى هذا التخلي عن الماضي الإعلامي إلى إغراق الأحزاب السياسية الكلاسيكية في أزمة عميقة. لأن الأحزاب الكلاسيكية التي تشكلت على أساس علاقات القوة وثقافة التواصل السابق ، بغض النظر عن طبيعة خططها ، لديها طرق مماثلة في علاقاتها مع عامة الناس.
كان انتشار الإنترنت والشبكات الاجتماعية ولا يزال يمثل بمثابة تسونامي بالنسبة للأحزاب الكلاسيكية. ويعتقد العديد من السياسيين المخضرمين أنهم إذا استخدموا هذه التكنولوجيا الجديدة ، فعليهم أن يتصرفوا بشكل “حديث” جدًا! ولكن يظهر مسح موجز أن سلوك هؤلاء السياسيين مع الإنترنت هو نفس سلوكهم تجاه الإذاعة والتلفزيون والصحف ، وإن “الأدب الانترنتي” لا يزال “أدباً صادراً من النخبة وموجهاً إلى الدمى”.
بالطبع ، كان “سوط” الواقع أكثر إيلاما! لقد أدت العملية الحادة المتمثلة بإنفصال الأعضاء من الأحزاب الكلاسيكية من ناحية، وتأثير شبكات التواصل الاجتماعي على الجمهور من ناحية أخرى، إلى قلب الأوراق إلى حدود بعيدة، بحيث ابتعد الأعضاء عن الأحزاب الكلاسيكية. فالأحزاب السياسية الآن هي التي تبحث عن “علم الصوتيات” في الفضاء الإلكتروني وتريد “الأخذ والعطاء”. فاليوم ، يمكن للمواطن العادي أن يكون له تأثير كبير على هذا الحزب السياسي أو ذاك بفكرة صغيرة. هذه هي المرة الأولى في تاريخ البشرية التي أدرك فيها سكان كوكب الأرض قوتهم – بوعي أو بغير وعي – ويتنحون كمؤرخين تاريخيين ولديهم فرصة لإحداث اضطراب سياسي بمفردهم أو بشبكة خاصة بهم.
مرحلة انتقالية
نمر حالياً في فترة انتقالية؛ أي الانتقال من الحياة التناظرية إلى الحياة الرقمية. ومن وجهة نظر الاقتصاد السياسي، الانتقال من الرأسمالية التناظرية إلى الرأسمالية الرقمية. لماذا نصف هذه الحالة بالمرحلة الانتقالية؟ السبب يعود إلى أن جزءاً كبيراً من حياتنا لم يتم رقمنته بعد، وأن جزءاً كبيراً من سكان العالم ولدوا قبل عام 2000. ومن ولد في عام 2000، هم الأطفال الحقيقيون للعالم الرقمي. ويقدر ما يتعلق الأمر بعلم الاجتماع لهذا الانتقال، فيمكننا القول أننا دخلنا إلى عالم رقمي يتم تربية العاملين في نفس البيئة الجديدة.
إن الفترات الانتقالية لا تهم أين وفي أي فترة من الفترات الأكثر حساسية في التاريخ سواء البشرية أو الجيولوجية أو البيولوجية… وما إلى ذلك. يمكن أيضاً أن نطلق على الفترات الانتقالية صفة الفترات المضطربة، لأنه في خلال هذه الفترات ، يحدث النزوح والعيوب بسرعة أكبر، حيث تهتز الهياكل القديمة ، وتظهر براعم الهياكل الجديدة ببطىء، ولكن الوضع الحالي لا يتمتع بهياكل مستقرة نسبياً حتى الآن.
إننا نرى انعكاس هذا الوضع الفوضوي في الأحزاب السياسية: فالأحزاب الكلاسيكية والقديمة (سواء من حيث تاريخ الحزب أو من حيث العمر) تحاول الحفاظ على نفسها في هذا الفيضان الموحل بأية طريقة ممكنة. وفي الوقت نفسه، تظهر مجموعة جديدة من الأحزاب والجماعات في نفس الفترة المضطربة، تنوي على ما يبدو تمثيل ضحايا هذا الوضع المضطرب. إن جميع الأحزاب ذات الأصول الفوضوية ، سواء كان يميناً أو يساراً ، هي في الأساس أحزاب شعبوية أساسها “خوف” الناس، لأن أخطر فيروس ينتج ظروف فوضوية هو الخوف: الخوف من الحاضر والخوف من المستقبل.
وبقدر ما يتعلق بالأحزاب السياسية، فقد تسببت هذه الفترة الانتقالية بأزمة حادة فيها، بما فيها تلك الأحزاب التي كان وجودها نتاج ظروف الاضطراب حيث تضطر إلى معالجة نفس المشاكل التي واجهتها الأحزاب القديمة. إنني على إعتقاد بأن هذه الفترة الانتقالية ستكون المرحلة الأخيرة من حياة الأحزاب السياسية، وفقًا للإحصاءات التي يمكن الاستشهاد بها. فكل الإجراءات التي تتخذها هذه الأحزاب “للحفاظ على نفسها” تؤخر فقط حدود فاتها، ولا شيء أكثر من ذلك. بالطبع ، ليس من الممكن التنبؤ بالضبط متى ستفقد الأحزاب السياسية الحالية وجودها، ولكن العملية التي بدأت تشير إلى أنها ستحول إلى متحف التاريخ.
ما هي الاحزاب السياسية؟
الحزب عبارة عن مجموعة أو فريق؛ وفي مجال السياسة ، تعني “التنظيم السياسي”. ويعني الحزب (party) ضمنياً “جزء/طرف”. ولهذا السبب فأن كلمة الحزبي (partisan) تعني “الموالي”. لذلك ، فإن كل “موالي” هو أيضاً حزبي/ مؤيد، أي موالي لمجموعة معينة أو طبقة اجتماعية.
ولجميع الأحزاب السياسية التي كانت موجودة طوال التاريخ البشري وحتى الآن عدد من السمات المشتركة:
1) يمثل كل حزب سياسي جزءاً فقط من المجتمع؛ وبعبارة أخرى، فإن الوزن الثقيل لبرنامج أي حزب سياسي يميل إلى فئة أو طبقة معينة من المجتمع. وبالتالي، لا يمكن لأي حزب سياسي أن يمثل جميع أفراد الشعب. وبعبارة أخرى، يتجاوز برنامج أي حزب سياسي، سواء أراد ذلك أم لا ، مصالح فئات وشرائح أخرى من المجتمع.
2) في جميع البلدان التي تلعب فيها الأحزاب السياسية دوراً في حياة الناس، أصبحت مجموعة الضغط بلا شك واحدة من أهم الوسائل التي تؤثر على الحياة السياسية للناس. فالضغط هو الوسيط بين “رأس المال” والسياسة. وبدون الضغط، لا يمكن لأي حزب سياسي أن يعيش ، سواء في الولايات المتحدة أو في ألمانيا أو في إيران. بمعنى آخر، يحاول كل طرف من “رأس المال” الاقتراب من هذا الحزب أو ذاك وفقًا لمصالحه الخاصة، ومن ثم تغذيته مالياً. وبعبارة أخرى ، فإن السياسة التي يحددها “رأس المال” تنهال على الحزب السياسي في شكل أموال، وتجد طريقها في نهاية المطاف أخيراً في التصديق هلى هذا القانون أو ذاك أو رفضه ، ولصالح هذا القطاع الاقتصادي أو ذاك.
3) النوعية الشمولية للأحزاب السياسية. تشترك جميع الأحزاب السياسية، من “الأكثر ديمقراطية” إلى “أقصى اليمين”، في النوعية المشتركة للشمولية. إذ أن “الفردية” لا يمكن أن توجد في أي طرف من الأطراف. ويجب أن يكون كل عضو في الحزب مخلصاً لبرنامج الحزب، وإلا سيتم طرده من الحزب، أو في أحسن الأحوال ، يُصنف على أنه “متمرّد”. فعلى سبيل المثال، لنفترض أنه من المقرر أن يجري التصويت في البرلمان على قرار لإشعال نار الحرب ضد دولة من الدول ، ويصوت حزب معين على هذا القرار. بعض أعضاء فصيل الحزب في البرلمان ، حتى لو كانوا معارضين منطقياً ومعنوياً للحرب، يتحتم عليهم أن يصوتوا إلى جانب القرار، أي يجب عليهم التضحية بموقفه الشخصي لصالح سياسة الحزب. ولكن من ناحية أخرى، يجب أن أؤكد أن هذه “الكيفية الشمولية” أمر لابد منه، وإلا فلن يتمكن أي حزب من الإلمشاركة في حملة سياسية للمنافسة مع حزب آخر، أي أنه يجب أن يقف أعضاء الحزب “بالإجماع وبشكل تضامني وخالي من الشك” إلى جانب موقف الحزب المعني ( حسب برنامج الحزب)»أدخل الحملة السياسية ، وإلا فلن تكون هناك أية فرصة في المنافسة. ومن ثم ، فإن هذا السلوك الحزبي لا علاقة له بأخلاق كل عضو ، ولكنه مشكلة حزبية هيكلية.
4) أحد الأهداف الرئيسية لأي حزب هو “الانتشار والنمو” ، أي أن كل حزب يختط هذا الاتجاه الداخلي الحتمي، كي يصل إلى هذا الهدف ويصبح بإستطاعته إزاحة الأحزاب المنافسة الأخرى من الميدان. هذه الخميرة غير المرئية ولكنها الفعالة، هي واحدة من القوى الدافعة وراء تطور الحزب، والتي تنطوي على الميل ، في أكثر مستوياتها الكامنة، صوب الشمولية.
إن هذه الأركان الأربعة هي التي تحدد طبيعة الأحزاب السياسية الراهنة حتى الآن، السيء منها أو الجيد، وتحدد أداءها. وتحدد الركائز الأربع المذكورة أعلاه جودة الأحزاب السياسية الحالية ، التي أدت وظائفها ، للأفضل أو للأسوأ.
الدولة والحكومة
ما هي وظيفة الحزب السياسي؟ يتم انتخاب الأحزاب السياسية (6) كي تتمكن هذه الأحزاب من سن القوانين في البرلمان (السلطة التشريعية)، باعتبارها السلطة التشريعية التي تحكم البلاد. كما يشكل الحزب الحاكم أو الأحزاب المؤتلفة حكومة مهمتها تطبيق القانون. بما أنه يقع على عاتق الدولة الدستورية (constitutional state) سن قوانين معينة لتنفيذ أي مشروع اقتصادي واجتماعي وثقافي ، فيمكن الاستنتاج أن كل برلمان يقع على عاتقه مصير المجتمع لفترة معينة من الزمن.
وكقاعدة خلال الانتخابات، تقدم الأحزاب مرشحيها ويصلوا إلى مقاعد البرلمان وفقاً للأصوات التي حصلوا عليها، عندها يتم المصادقة على التشريعات أو رفضها. حتى الآن، لم يكن لدى الأشخاص المستقلين فرصة كبيرة ليدلوا بدلوهم. ومع ذلك، فإن الأحزاب ، وخاصة في البلدان الأوروبية، هي أحد أعمدة الديمقراطية التقليدية، التي أسميها ديمقراطية النخبة.
إن السؤال الآن يطرح نفسه هو: كيف يصبح الوضع عندما تنعدم الأحزاب السياسية في المجتمع، وهل يمكن تنظيمه بطريقة ديمقراطية؟
على الصعيد العالمي، تمتلك معظم البلدان الآن مؤسسة يطلق عليها أسم الدولة. الدولة، بمعناها الخاص والمحدود، هي البيروقراطية التي لديها سلسلة من المهام اليومية/ الروتينية. والحكومة هي مؤسسة متغيرة وصلت إلى السلطة بشكل دوري في الديمقراطيات، التي تتولى تطبيق القوانين الجديدة بهدف توجيه الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. إن الحكومة أو السلطة التنفيذية (8)، تعمل مثل رافعة السلطة التشريعية ، وهي سلطة متغيرة تتماشى بشكل مباشر أو غير مباشر مع السلطة التشريعية نفسها.
وتبعاً لذلك، فإن مناقشتنا هنا تدور حول العنصر المتغير، ألا وهو الحكومة. كما ذكرنا أعلاه، تتكون الحكومات من أحزاب يختارها المواطنون ؛ أي نفس الأطراف التي تم سرد أركانها الهيكلية الأربعة أعلاه.
عمى الديمقراطيات المعاصرة
إن القضية الأكثر جوهرية وحاسمة التي لم تتمكن الديمقراطيات من حلها حتى الآن هي قضية “الشفافية” (Transparency). فعلى سبيل المثال، لا نعرف كيف تجري العلاقة الحقيقية بين جماعات الضغط ، أي رأس المال الاقتصادي ، وبين الحزب كمؤسسة وأعضاء الحزب بشكل منفرد. يمكن القول إن الشفافية يستحيل تحقيقها بشكل أساسي في مثل هذا الهيكل السياسي ، لأن الحكومات والوكلاء الحكوميين يتغذون على هذا النقص في الشفافية. وبشكل أساسي، في هذا النظام الحزبي ، حيث من المستحيل على السياسيين القضاء على اللوبي، أي القضاء على آثار رأس المال الاقتصادي (الذي تسعى قوته الدافعة فقط لتحقيق أقصى الأرباح). لهذا السبب ، أصبح الفساد المالي والرشوة والفساد السياسي والسرقة في المناقصات الحكومية وما إلى ذلك سلسلة من السلوكيات الطبيعية والمقبولة.
ولا تقتصر هذه الفوضى على هذا البلد أو ذاك! فكل إنسان وبشكل عام لديه قدرات إبداعية وأخلاقية رائعة، ولكن سلوك هؤلاء الأفراد أنفسهم، الذين يعيشون في المتاهة المظلمة للهياكل الاجتماعية والاقتصادية، يمكن أن يتخذ أبعاداً اجتماعية غير قابلة للتصديق. ولا يمكن عبر تقديم النصائح أو العقوبات الأخلاقية، إيقاف هذه السلوكيات غير الاجتماعية. لذلك ، فإن الحل الوحيد لمنع السلوك المعادي للمجتمع هو الشفافية. ولمعالجة ذلك، أطلق الحزب الشيوعي الصيني “نظام مراقبة” يتضمن نصب أكثر من 700 مليون كاميرا – والتي بالطبع ستفسح المجال تدريجياً للكاميرات الذكية (9). وهي خطوة لا تسيئ إلى المواطنين. فكل شيء فيها جيد تقريباً لـ “الناس / المجتمع”(10). لكن هل هذا هو الحل النهائي؟ هل يستطيع الحل الصيني أن يشق طريقه في الدول الأخرى ، وخاصة في العالم الغربي ذي التقاليد الديمقراطية الكلاسيكية؟ وعشرات الأسئلة الأخرى!
ديمقراطية بدون أحزاب سياسية؟
عندما نتحدث عن القضاء على الأحزاب السياسية ، فإننا لا نعني القضاء على البرلمان والحكومة التابعة ، بل التغيير في تشكيل وأداء البرلمان وأولئك الذين يتم انتخابهم كممثلين من قبل المواطنين.
نحن الآن في بداية المسار للانتقال من ديمقراطية النخبة إلى ديمقراطية المواطن، وإن المواطنين أنفسهم هم الذين سيوفرون أولاً وقبل كل شيء الظروف المادية والذهنية لها، ويمهدون الطريق لمسؤولية ديمقراطية المواطن. في الجزء الأول من هذا المقال ، كتبت أن أهم العناصر المحددة لحياة المخلوقات على الأرض هي ثلاثة عناصر: الهواء والماء والتراب. وكمواطنين اليوم ، سنتعلم تدريجياً أنه من واجبنا الملح حماية مثلث الحياة هذا (الهواء والماء والتراب). ماذا يعنى ذلك؟ أي أن إطلاق أي مشروع اقتصادي (من الزراعة إلى بناء السدود إلى تربية البذور ، وما إلى ذلك) يجب قياسه من خلال مدى الضرر الذي يلحفه بمثلث الحياة هذا. سواء شئنا أم أبينا، فإن تحقيق أي مشروع اقتصادي (صناعي / زراعي / لوجستي) ينطوي على قدر من تلاعب بالطبيعة. عندها يجب أن يكون المحدد هنا هو تقليل الضرر الذي يلحق بمثلث الحياة هذا.
إن مواطني العالم المستقبلي هم مواطنون ولدوا وترعرعوا في بيئة رقمية. وربما سيصبح هذا المواطن العالمي في المستقبل مواطناً “شبه رقمي” ، أي مواطن يزرع عدة رقائق (chip / microchip) في جسده ولا يعرف شيئاً عن ما يسمى بـ”الخصوصية” ولا يهتم بها على الإطلاق ، ولكن تبعاً لذلك سيكون مستوى التعليم الذي يتمتع به مهماً بالنسبة له، وهو أمر لم يفكر فيه حتى أكثر الرجال “ذكاءً” هذه الأيام. مثلما لم يفكر جيمس وات وإديسون ونيوتن في أبسط الأشياء التي يمكن للطالب الحديث أو التفكير فيها ؛ فعلى سبيل المثال ، لم يدور الحديث عن أمور مثل حماية البيئة لم يكن لها محل من الإعراب عند هؤلاء العلماء في القرون السابقة.
ومن هنا، فإن مفهوم الديمقراطية الذي نعرفه اليوم من العالم الغربي (أوروبا وأمريكا الشمالية) سيتم فهمه وإدراكه بشكل مختلف في المستقبل. لأن الديمقراطية المعروفة، والتي هي أساس فصل السلطات والإشراف المتبادل ، فقد تعطل عملها بشدة. أو أن حماية الخصوصية ، التي تعد أحد مكونات هذه الديمقراطية ، غير موجودة حاليًا في الممارسة؛ أو فقدت العقود المدنية (مثل الشركات والالتزامات تجاه بعضها البعض) فعاليتها فعلياً. على سبيل المثال ، يريد المستخدم تحميل تطبيق / تطبيق (مجاني أو تم شراؤه) ، ويجب عليه النقر فوق الشروط العامة للعقد (GTC / AGB) (أي التوقيع / تنفيذ إجراء قانوني) ، وإلا فلن يتمكن من استخدام هذا التطبيق. كما نرى، تراجعت التناظرية (analog) لصالح الرقمنة (digital).
وكما نشهد، تراجعت النظائرية لصالح الحياة الرقمية ولتصبح السمة الغالبة. وفي هذه الأيام فإن إدراك البشر للمشاركة السياسية وللديمقراطية تتغير بشكل هادئ وبطيء وبشكل ملموس.
الفوضى والنظام في العالم الرقمي
يسير العالم بسرعة صوب الرقمنة، وسندشن في مستقبل غير بعيد حالة معينة تسمى الرقمنة(12). والرقمنة هي عملية في طور التكوين ، ولكن الرقمنة هي حالة أشبه بالحداثة. فالهياكل التي نعيش فيها ليست أبدية ، ولكنها تخضع للعمليات المتغيرة ، جوهرها هو وسائل الإنتاج (ماركس) أو ، بلغة اليوم ، الاختراعات التي تعتبر معلم التغيير. ولكن ماذا يعني أن تكون الحالة رقمية؟ كان البشر، وخاصة منذ تشكل الرأسمالية الكلاسيكية (13)، يجمعون دائماً “البيانات” بشكل منهجي ويسجلونها في “ملفات” تناظرية. وبالتالي ، فإن جمع “البيانات” حول مختلف جوانب الحياة كان موجوداً دائماً ، ولكن مع ظهور الكمبيوتر، أصبح جمع هذه البيانات بأبسط الأشكال وفي الوقت نفسه بأكثرها تعقيداً: صفر وواحد. لذلك ، فإن عملية “جمع البيانات” كانت موجودة قبل الكمبيوتر بوقت طويل. وتتمثل المهمة الرئيسية لاختراع الكمبيوتر هي في تقسيم هذه البيانات إلى أصغر مكوناتها ، أي تقليلها إلى صفر واحد ، بحيث تتم معالجة سرعة التقسيم الاجتماعي بسهولة.
قبل الرقمنة ، كانت الحكومات تحتكر جمع البيانات بشكل أساسي ، ولم يكن بإمكان المواطن الوصول إلى البيانات إلا بمساعدة الوكالات الحكومية وموافقتها. أما اليوم ، فقد اختفى هذا الاحتكار الحكومي تقريباً ، ويمكن للمواطن الوصول إلى الكثير من البيانات. هذا الاعتراف يعني أنه يمكن لكل مواطن جمع ومعالجة البيانات في هذا المجال أو ذاك من مجالات اهتمام وفقًا لقدراته وإدخال وعي معين في شبكة الويب العالمية.
ويطرح الآن السؤال التالي وهو أنه إذا ما فعل جميع المواطنين ذلك – وهو ما يحدث الآن بغض النظر عن شعورنا وإرادتنا – فسيكون هناك الكثير من الاضطرابات في العالم الافتراضي بحيث لن يتمكن أحد من العثور على طريقه في هذا المحيط المضطرب.
إن جميع العناصر والعوامل المشاركة في عملية الفوضى تتفاعل دائماً مع بعضها البعض ، سواء رأينا هذه التأثيرات أم لا. وهذه التفاعلات غير المرئية بين العناصر المختلفة والمستقلة، التي يعزف كلٌ عنصر منها لحنه الخاص، تولد عملية تسمى”فوضى التنظيم الذاتي” (selforganizing chaos). وتعني الفوضى الذاتية إن العلاقة الفوضوية للعناصر المختلفة (الأنظمة ، المنظومات) أن تؤدي عملية التفاعلات في النهاية إلى تكوين هياكل مستقرة نسبياً.
إذا أخذنا هذه الظروف في الاعتبار لبضعة مليارات من مواطني العالم (14)، فهذا يعني أن المواطنين ، سواء بمفردهم أو في شبكاتهم الخاصة ، هم عناصر (منظومة) في هذه الحالة من الاضطراب. وعلى الرغم من أن مطالب أو آراء المواطنين في هذا المحيط المضطرب تبدو “ضائعة ومدفونة” ، في الطبقات غير المرئية من هذه التفاعلات ، فإنها تترك آثاراً ذات أهمية بالغة في تشكيل الهياكل التالية. وباختصار، فما نعتبره كمواطن، هو أشبه بالفراشة الصغيرة التي يمكن أن يكون لها تأثير كبير على البيئة والعالم “مؤثر الفراشة”(Butterfly effect).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)«مته ماتیك» تعني العلم وتحولت مع مرور الزمان إلى معنى الرياضيات.
(2) يقسم علماء الاجتماع وءائل التواصل إلى ثلاث مراحل تاريخية :1) تشكل اللغة،2) تشكل اللغة المكتوبة،3)طبع الكتب،4) التواصل الرقمي أو الثنائي (Binary).
(3)مازال ، في المجتمعات العلمانية، يقف الخطيب على غرار القس أو الملا أمام الميكرفون ويتخذ المستمعون(عامة الناس) مكانهم أمام الخطيب لمسافة محددة. ومازال هذا التقليد قائماً ، لأنه لا يجوز المس بهذا المشهد.
(4) المقصود من “الأدبيات” هي وجهات النظر في إطار العبارات والجمل، التي اذاما تناولناها من إطار علم المعنى وعلم الجُمل/النحو فإنها لا تتلائم مع هيكلية الانترنت ولا تصلح إلا للمؤتمرات الحزبية التي توحي بأن المنصة أو المنبر هو مكان مقدس غير قابل للنسيان.
(5) لا يختلف هيكل الأحزاب العلمانية عملياً إلى الآن عن هيكل الأحزاب الدينية.فعلى كل عضو من أعضاء هذه الأحزاب أن يكون وفياً لبرنامج هذه الأحزاب ونظامه الداخلي، وإلاّ لا يسمح للعضو المشاركة في النشاط السياسي. ساختار احزاب سکولار تاکنونی عملاً با ساختارهای دینی تفاوت ماهوی ندارد. هر کس باید به برنامه و اساسنامۀ حزب وفادار باشد وگرنه آن حزب معین در هیچ کارزار سیاسی نمی‌تواند شرکت کند.
(6 ) في عام 1995، وفي الدورة الثانية من رئاسة هاشمي رفسنجاني، تم ترجمة “قانون الأحزاب السياسية” الألماني إلى اللغة الفارسية. وسعى حزب النشطاء بزعامة رفسنجاني الاعتماد على هذا القانون صياغة قانون للأحزاب في ايران وعرضه على المحلس للمصادقة عليه, ولكن قبل أن يصل مشروع القانون إلى أروقة المجلس تم وضعه على الرف ولم يجر مناقشته.
(7) مفهوم “الدولة” و”الحكومة”جرى التعامل معه بشكل غير صحيح منذ تدوين قانون المشروطة وحتى الآن.
(8) إن الحكومة بإعتبارها السلطة التنفيذية تتعامل مع السياسة، لأن جزء من أجزاء السلطة التنفيذية مثل الشرطة والأقسام التنفيذية من القضاء قد مسخت سلفاً.
(9) لقد نصب في الصين كامرا واحدة لكل شخصين. وأدرجت كل المعلومات عن المواطن الصيني في “الهوية الوطنية” إضافة إلى التصوير البيومتري وسوابق المواطن في بنك المعلومات. وبتصل بنك المعلومات بألغوريتم حساس مرتبط بالكامرات بحيث يتحسس أي حركة للهدف.
(10) يرفض الجزب الشيوعي الصيني رفضاً قاطعاً الدمقراطية الغربية، في حين تلتزم الصين بالإعلان العالمي لحقوق الإسان. ويعلن الحزب الشيوعي الصيني أن مهمته الرئيسية هو تأمين العمل وإزالة الفقر في الصين، أي أن الحاجة الأساية للفرد الصينية هي تأمين لقمة العيش. وطبقاً للإحصائيات التي نشرتها هيئة الأمم المتحدة أنه في خلال 40 سنة الماضية استطاعت الصين إزالة 750 مليون نسمة من خط الفقر، إلى جانب أن الصين تملك أكبر التوظيفات على النطاق العالمي.
(11) تشكلت حركة حماية الطبيعة من قبل جيل ولد بعد عام 2000، وأضحت گرتا تونبرگ (Greta Thunberg) الناطقة بأسم هذه الحركة، وهو يدل على مسؤولية جيل المستقبل.
(12) قام آرمین ناصحي، المنظر الألماني في كتابه ” نظرية المجتمع الرقمي” بتفكيك هذين المفهومين واستطاع أن أن يقدم صورة مقروءة نسبياً للمجتمع الرقمي. وأضحى موضوع المجتمع القائم على “المعلومات” ثم على الرقمنة أحد الموضوعات الأساسية في علم الاجتماع المعاصر والذي تتوج بنظرية نيكولاس لومان حول “نظرية النظم” (Systems theory)، إضافة إلى نظريات جون ديرك بيكر وعلماء آخرون.
(13) إن أهم مؤسسة قامت الرأسمالية بتأسيسها من أجل جمع المعلومات الاجتماعية-الاقتصادية هي مؤسسة الإحصاء.
(14) يبلغ عدد سكان الكرة الأرضية 7 مليار و 593 نسمة، ويبلغ عدد مستخدمي الانترنت 4 مليار و 21 شخص، وعدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي 3 مليار و 193 شخصاً.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here