شبكة استقصائية: اللجان اقتصادية تمسك إمبراطورية العقارات في أيسر الموصل وتلاعب القضاء بـ استبدال المدراء

نوزت شمدين

تعطل العمل في دائرة التسجيل العقاري في الجانب الأيسر من مدينة الموصل يوم الثلاثاء 26 آذار 2019. إذ تعاملَ المداهمون التابعون الى هيئة النزاهة بخفة مدرّبة مع أهدافهم المحددة داخل الدائرة. توزعوا من دون سابق إنذار على شُعَب الأضابير والحسابات والتدقيق والأرشيف.

ما هي إلا دقائق حتى تبعهم فريق متخصص من عناصر التحقيق القضائي وجهاز الأمن الوطني، فتشوا في أوراق الدائرة العقارية وأمروا بتقييد مدير الدائرة فرحان حسين طه، ثمّ ساقوه في عربة مصفّحة إلى سجن التسفيرات، تمهيدًا لمحاكمته بتهم تتعلق بالتزوير، بحسب تقرير استقصائي لشبكة نيريج تابعته (المدى).

بحسب هيئة النزاهة، فإن المدير السابق لدائرة التسجيل العقاري (الطابو) فرحان حسين طه، تلاعب بمستندات عقارية لأراضٍ تابعة للدولة، مستخدمًا أختامًا مزورة بمعاونة موظفين من الدائرة نفسها.

وصدر بحقه لاحقًا حكم قضائيّ بالسجن 5 سنواتٍ وشهرًا واحدًا بعد محاكمة سريعة وفق المادة (340) من قانون العقوبات العراقي المتعلقة بإحداث الموظف أضرارًا بأموال عامة موكلة إليه.

المثير في أمر الدعوى وبخلاف دعاوى مماثلة يحضر فيها كبار المحامين للترافع عن موكليهم، لم يوكّل الرجل من يدافع عنه، بل استسلم لمجريات التحقيق دون حتى أن يواجهها ولو بتصريح إعلامي. وعمدت المحكمة بحسب قانون المرافعات العراقي إلى انتداب محامٍ من الدولة حضر للدفاع عنه بنحو صوري فقط.

ويقول محامي الانتداب الذي طلب عدم ذكر اسمه: “لم أطلع على ملف موكّلي إلا خلال الجلسة التي نُطق خلالها بالحكم ضده”.

غياب محامٍ مختص للدفاع عن طه أثار أسئلة كثيرة. فهو مدير دائرة حكومية مهمّة، يتقاضى مرتّبًا يزيد عن مليونين ونصف المليون دينار شهريًا فضلًا عن المخصصات. كما أنه متّهم أصلًا بالتلاعب بأملاك قيمتها تصل إلى 48 مليار دينار عراقي. وبحسب من يعرفه، فإنه رجل ميسور الحال لم يكن يعجز عن دفع توكيل فريق من المحامين.

قضية طه بقيت محجوبة عن الإعلام، ولم يسمح لشبكة التحقيقات (نيريج) بالإطلاع على أوراقها، لمعرفة قصة الـ48 مليار دينار والعقارات المرتبطة بها. كما أن التواصل مع المحامي المنتدب للحصول على معلومات إضافية لم يجدِ نفعًا.

كان محامي الانتداب خائفًا عند لقائنا به. وعلى رغم ورود اسمه في ملف القضية، إلا أنه شدد على عدم ذكر اسمه في هذا التحقيق. كل ما قاله جاء ترديدًا للعبارة نفسها: “لست مستعدًا لأخسر حياتي من أجل 30 ألف دينار”، قاصدًا، المبلغ الذي تخصصه المحكمة للمحامين المنتدبين بدلَ أتعاب. وهم في العادة يحضرون بنحو صوري فقط من دون أن يكون لهم أي دور أو تأثير.

بعد جولة اتصالات مع محامين يعملون في أروقة محاكم استئناف نينوى وصلنا إلى المحامي (أ.ب) الذي كان على وشك أن يتوكل عن مدير التسجيل العقاري السابق، لولا مكالمة هاتفية تلقاها من شخص قال إنّه يمثل المكتب الاقتصادي التابع لفصيل مسلح في الموصل.

هذا المحامي ذكر أن فحوى الاتصال كان عبارة عن تهديد بصيغة رجاء. “لقد حذّروني من تمثيل فرحان حسين طه أو تداول أي معلومات تخص قضيته. علمتُ لاحقًا أنّ كثرًا من زملائي تلقوا مكالمات مشابهة فامتنعوا عن الترافع لمصلحته”.

وبعد تطمينات له هو الآخر بعدم إيراد اسمه قال إن “مدير التسجيل العقاري كان وقّع (بالاشتراك مع موظف آخر) على معاملات عدة تتعلق بأراضٍ تابعة للدولة تم تمليكها لأشخاص مقابل مبالغ زهيدة. بعد ذلك حصلت عملية تقطيعها وبيعها بمبالغ كبيرة مجموعها يصل إلى 48 مليار دينار”.

وأضاف: “الأشخاص الذين حصلوا على الأراضي ببدلات ورسوم تسجيل زهيدة، يمثلون المكاتب الاقتصادية التابعة لفصائل مسلحة في نينوى أو يمثلون شخصيات قريبة منها وتتعامل معهم. ومدير التسجيل العقاري كان متورطًا معهم”.

محامٍ آخر طلب عدم نشر اسمه، مطّلع على ملف القضية، قال إن مدير الطابو السابق “لم يكن لديه خيار سوى قبول ما يفرض عليه. لقد دفع الثمن بمفرده في نهاية الأمر من دون أن يسمحوا لأحد بالدفاع عنه حتى لا تظهر أسماء المتورطين بملفات الفساد العقارية”.

لمبنى التسجيل العقاري في الجانب الأيسر من الموصل المعروف بـ”طابو الزهور” قصة طويلة مع عمليات سرقة وإخفاء الملفات أو تزويرها والتلاعب بها، منذ سقوط النظام السابق 2003 ولغاية اليوم.

طوال 12 عامًا تعرّض هذا المبنى لاستهداف الجماعات المسلحة وبقي مغلقًا ولم تفتح أبوابه إلا لأسابيع قليلة قبل 2014.

وخلال فترات العمل البسيطة تلك قتل اثنان من المديرين فيه على يد مجهولين، واغتيل موظفون وهُدّد آخرون وترك بعضهم البلاد وسُرقت آلاف الأضابير العقارية وحجج الملكية منه.

وما أن سيطر داعش على المدينة منتصف عام 2014 حتى استولى على “إمبراطورية العقارات” فاختفت أضابير وحجج ملكية لنحو 25 ألف عقار تعود في معظمها لمسيحيين مهجّرين ولمواطنين مطلوبين من التنظيم جلهم منتسبون للشرطة والجيش العراقيين ومسؤولين محليين وبرلمانيين.

عمليات التلاعب والتزوير في طابو الزهور لم تتوقف بعد إنهاء سلطة داعش وسيطرة فصائل مسلحة واللجان الاقتصادية المرتبطة بها على مفاصل المدينة.

في العامين الأخيرين لحق بالمديرين السابقين – لكن إلى السجن هذه المرة- فرحان حسين طه والمدير الآخر الذي عين محله، لكن أطلق سراحه خلال أيام بتدخل سياسي.

بحسب النائبة عن محافظة نينوى بسمة بسيم (وهي من المطالبين بغلق المكاتب الاقتصادية ومنها التابعة لفصائل في الحشد الشعبي) فإن “هناك أكثر من 9 آلاف إضبارة عقارية مفقودة”.

الداخل إلى المبنى يقرأ الارتباك والتذمّر على وجوه الموظفين. يقول أحدهم: “طاقمنا الوظيفي قوامه 55 شخصًا يتعامل حاليًا مع 245 ألف إضبارة عقارية وأكثر من 70 ألف قرار نقل ملكية قضائيّ غير مفعّل، مع عشرات الآلاف من المواطنين الذين يريدون الحصول على صور قيد عقارية جديدة… إنها مهمة ثقيلة جدًا، وبوجود الفصائل المسلحة التي تحكم الموصل على الأرض، صارت المهمة مستحيلة”.

يضيف الموظف أن اللجان الاقتصادية التي ظهرت بعد تحرير الموصل منتصف 2017 وتوزعت داخل المدينة “استغلت العقارات التي كانت في حوزة داعش خصوصًا تلك التي لم يعد إليها مالكوها الأصليون، وحولتها إلى استثمارات لمصلحتها أو مقرات ومكاتب لها”، وأن “هذا الأمر زاد من حالة الفوضى”.

وأشار إلى أن فصيلا مسلحا كان يملك حصة استثمارية فيما تعرف بجزيرة الموصل السياحية في منطقة الغابات وسط الموصل، والتي غرقت فيها عبارة تقل أكثر من مئتي شخص في 21 آذار 2019، مات نصفهم، معظمهم أطفال ونساء.

ولفت إلى أن هذا الفصيل وغيره، يفرضون نسبًا على المشاريع وإلا تمنع منح رخصها. وهو من الأسباب الرئيسة التي أبعدت المستثمرين من سوق نينوى والموصل الواعدة، بحسب تعبيره.

وذكر النائب عن محافظة نينوى عبد الرحيم الشمري أن برلمانيين أيضًا يملكون مكاتب اقتصادية في الموصل، ويحصلون على عقود مشاريع واستثمارات لمصالحهم الشخصية، أحدهم حصل على (100) مليار دينار مقابل توفير آليات لدوائر حكومية. لم يورد اسمه صريحًا لكنه قال: “هو من محافظة مجاورة ويلقب بالزعيم”. وهي إشارة واضحة إلى عضو البرلمان أحمد عبد الله الجبوري أو المعروف بالزعيم أبو مازن.

وتحدث النائب الشمري عن برلماني آخر قال إنه حصل على مبلغ 9 مليارات دينار لمشروع ماء. وأكد الشمري أنه بدأ جمع وثائق رسمية تدينهم مع آخرين وسيقدمها لدائرة النزاهة حال إكمالها.

المدير السابق فرحان حسين طه، بحسب (نيريج) “وقع ضحية صراع الأجهزة والفصائل المتحكمة بالموصل”. إذ صدر قرار من وزارة المالية بنقله إلى دائرة رعاية القاصرين مطلع تشرين الأول 2019. لكن وقبل تنفيذ القرار اعتقل من قبل الأمن الوطني وسيق إلى المحكمة.

ولسد الفراغ الإداري كلّفت وزارة المالية موظفًا آخر بتسلّم مهماته، لكن الأخير “تلقى تهديدات مباشرة بالقتل إذا ما زاول عمله”، بحسب زميل عمل معه، وبعدها بأيام ورد من الوزارة كتاب يقضي بنقله إلى دائرة التسجيل العقاري في الجانب الأيمن من الموصل.

ما هي إلا أيام قليلة حتى صدر قرار جديد بتعيين محمد حسين الأعرجي مديرًا للطابو، وهو من مدينة تل عفر مقرّب من فصائل الحشد الشعبي.

يقول موظف في طابو الزهور بدرجة مدير شعبة، إن قرار التعيين كان صدمة له ولزملائه، خصوصًا أن الأعرجي لا يتمتع بأي خبرة إدارية وهي من شروط تولي إدارة التسجيل العقاري، وصِفته الوظيفية قبل تعيينه كانت “مساعد مسّاح” لا غير.

وكما حدث مع سلفه فرحان حسين طه، وفي مشهد يكاد يكون مستنسخًا، داهمت قوة من جهاز الأمن الوطني مبنى الطابو العقاري يوم الخميس 14 تشرين الثاني 2019 واعتقلت الأعرجي مع موظفين آخرين.

سيق الرجل إلى المحاكمة وخلّف وراءه عشرات الأسئلة، تمت الإجابة سريعًا على أهمها. إذ أفرج عن الأعرجي بقرار قضائي أشار إلى عدم كفاية الأدلة التي تدينه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here