المحطة رقم 5 الفرزة الثالثة

المحطة رقم 5 الفرزة الثالثة
في عـام 1952 قامـت حركة الـضباط الاحرار بانـقـلاب بـمصر زمن الملك فاروق من قِـبَلِ مجموعة من صِـغـار
الضـباط أسمت نفسها بالضباط الاحرار يتزعمها اليوز باشي جمال عبد الناصر ورتبة اليوزباشي هي رتبة
الملازم أول الذي يحمل فوق كتفه كوكبتين ولأنّ الموقف يحتاج الى قائد له رتـبـة وموقع قيادي عسكري
في الجيش أدخلوا عند انقلابهم كرئيس لهم الـفـريـق الـركن مـحـمـد نـجـيـب وهو لا يعلم بالانقلاب وقـد
نُـحـيَّ عن منصبه بـعـد عِـدّة شـهـور حين إسـتـقـرت الامــــور الى الانـقلابـيـين وهـذا العـمل لا يـنـسـجـم مع معايير
الـقـيـم والاخـلاق لأنهم عرّضوا مصير إنسـان الى الموت دون علمه وخراب بيته اذا ما فشل الانقلاب لكن
الغاية تبرر الوسيلة ووجود مثل هذه الرتبة العسكرية الكبيرة مـهـمٌ في إنـجـاح الانـقـلاب ولولاها لتعرض
الانقلاب الى الفشل ولكن الانـقلابـيـين عملوا بـالـمـفهوم الـمـيكافـيلي الذي يقول : الغايةُ تُبررُ الوسيلةَ وهو منهج
لا يعمل به أصحابُ المبادئ ولكي يـتـماشى الوضع مع الانـقلابـيـين مـنحو انـفـسهم رُتَـبًا عـالـيةً مـتـجـاوزين بها
الفترة الزمنية في الـقـانون العسكري ويبقى الـقـانون لُـعـبـةَ بيد القـابض عـلى الـسـلـطة وكان إتـجاه الانـقـلابـيـين هـو
الاتـجاهَ الـقومي الـعـربي المُـناوئ للـسـياسـة الاسـرائيلية الـبريطانـية الـفـرنـسـية الامـريـكـية وشـعـارهـم وحـدودي وهـذا
مـا لا يـروق للغـرب وخططه فحاصرها الغرب مما دفع الـحـكومة الـجـديـدة في مـصـر الى التوجه للـكـتـلة الـشـرقـية
التي كانت بـزعـامة الاتـحــاد الـسـوفـياتي وحلفـائهِ من الـدول الاوربيه الاشـتـراكية آنَ ذاك ويُقال أن الانقلاب كان
بعِلمْ وموافقة امريكية ولكن مما يظهر أن الانقلابيين بعد نجاحهم قلبوا الطاولة على الغرب وامريكا كما سبق
وفعلوها مع رئيسهم محمد نجيب .
وقـد قامت حكومة الانقلابيين بعمل أثار ثائرة الغرب وهو تأميم قناة السويس في عام 1956 واصبحت القناة
تحت ادارة الحكومة المصرية من هـنا خـطط الـغـرب لـعـمل عـسـكري لـلإطـاحة بهـذه الـدولة الـولـيـدة فـقـامتْ كل
من إسـرائـيـل وبـريـطانـيـا وفـرنـسـا بِـشـنِّ الـحـرب دون سـابـق إنــذار عـلى مـصـر صـيـف عـام 1956 مـمـا أثـار هـذا
مـشـاعـر الـوطـنـيـين بالـوطـن الـعـربي والـعـراق كان في مُـقـدمـتها فخرجت التـظـاهرات الشـعـبـيـةِ بكل الـمُـدن وأبـرزها
إنـتـفاضة السجناء السياسيين الدامية في سـجن الـكوت في آب من نـفـس العام وكُـنتُ وقـتَها واقـفًا أمام دارنـا
ظهـيرةَ ذلك الـيوم فشـاهـدتُ الـشـيخ هــادي الاسـدي عـالم الـدين الـشـيعي في مـديـنة الكوت ومعه رجـل يتبعه
وهما عائـدان من شـارع السـجن وسَـمعتُ بعـد ذلك إطـلاقاتٍ ناريـةً ثـم خَـيّـم الـسـكون في الـمـدينـة كُلِّها وتَـسـرّبَ
بـعـدها في الـيوم الـثـاني للحـادث أن الـشـيخ هـادي قـد أفـتى بـتـكـفـير الـمـنـتـفـضـين وإبـاحـة قـتـلهـم وبهـذه الـفـتـوى
سقط سـبع ضـحـايا وتم دفـنـهـم من قِبَـلِ الـحـكومـة في مـقـبـرة الـيهود الـواقـعـة اليوم قرب الملعـب الرياضي في
حي الحاوي أو حي الـربـيع وبهـذه الـفـتوى خَـسِــر الـشـيخ هـادي محـبّـةَ كثـيـرٍ من الـناس وتـبـين بعد زمنٍ أن
الـشـيخ هـادي قـد وقـع في فَـخٍّ أو مُـنـزلـقٍ قام به جهـاز الامـن وهـو أنّ الـشـيخ هـادي طلب مُـقـابـلة أحـد الـسـجـناء
فـجـاءوا لـه بـشـخص مُـتـفـق مـعـه مُـسـبـقًا لا عـلاقـة لـه بالمنتفضين السياسيين يُـقـال أنّـه شـخص سـاقط أخلاقـيًّا
أي بمصطلحنا هو بايع ومخلص قـد قابـل الـشـيخ مُـدّعـيًّا أنّـه مِـن الـشـيوعـيـين ولا يعـترف بالله ولا بـالاسـلام
مـما أعـطى للـشـيخ التصور بأن الشيوعيين مُـلـحِدين وان المنتفضين على شاكلته وعـلى هـذا بـنى الـشـيخ فـتـواهُ
بـتـكـفـيرهم وهنا لا أعطي للـشـيخ هــادي العذر وعليه في مثل هـذا الـمـوقـف أن يـدخـل الى داخـل الـسـجـن ويـرى
ويَـتَـبـينَ حـقـيقة الـمـوقـف بـنـفـسه ولا يـذهـب لوحـده كعـالم ديـن شـيعي من غـير أن يـصـطحب معـهُ عـالم الـديـن
الـسـنّي الـمـوجـود في الـمـديـنـة ولكـن بـسـاطةَ الـشــيـخ وحُـسـنَ الـنـيّـةِ أوقـعـتـه في الـفـخِّ بـحـيـثُ جـعـلـوا مـنـهُ أداةً
لـتـنـفـيـذ غَـرضـهم وهذا مـما جـلـب الـنـقـمـة عليه وخسارة الكثير من سمعته .
والـشـيئُ بالـشـيئ يُـذكر عـنـد قـيام الـثـورة الـشـعـبانية في الـعراق عـلى الـساقط صـدام قام باحضار الـسـيـد الامـام
الـخـوئي وكُنـتُ أشـاهـد الـتـلـفـاز مساءً في فندق الغدير في الكوت وقد ظهـر لي أنّ الـسـيد الخوئي قـد تـعرض الى
نـوع من العُـنـف وذلك بمـشـاهـدتي يـاقـة الجـبة معـقـوفـةً وبعد كـلامٍ قـلـيـلٍ مـن المجرم صدام مع الـسـيـد الخوئي
ســأل صدام السيد : مـا تـقـول سـيـد بـحـق هــؤلاء الـمـجرمـيـن فـأجـابـه الـسـيـد : أن حـكـمهـم هو التوبـةُ عـنـدهـا
انـتـهت الـمـقـابـلـة بجـواب الـسـيـد الـخـوئي التي لـم تُــعـجب المجرم عبد الله الساقط .
أعود الى حادثة الانتفاضة فأقـول وبهـذه الـحـادثـة يـكون سجن الكوت قـد شَـهِـدَ آخـر حـادثـةٍ بـيـن جـدرانـه
وقد سبق ان حصلت حادثة هروب 14 سجينًا سياسيًا عام 1953 تم القبض عليهم واعادتهم للسجن .
وعلى أثـر الانـتـفـاضة في سـجن الـكوت إنـتـفـضت مـدينة الـحي وسـيطـر المواطنون عـلى مـرافـق الـمـديـنة الـحـيـويـةِ
وبـقـيـت الانـتـفاضة زُهــاء شـهـر مـما تـطلّـب من الـحكومة الـملـكيةِ إرسـال فـرقـة مـن الـشـرطة الـمُـسـمّاة بـالـقــوة
الـسـيارة وهي فـرقـة طوارئ مجهـزة للـحـالات الـصعـبـة مع قـرار بـمـنـع الـتجـول داخـل الـمـديـنة واعلان الاحكام
العُرفية في العراق وبـقـيـت هذه القوةُ فـي الحي الى أن إسـتعـادت الـسـلطة سـيـطرتها وقد انـتهـتْ الانـتـفاضة
بـاعـدام إثـنـيـن هـمـا عــطـا الـدبّـاس وعـلـي الــشــيـخ حـمـود شـنـقًـا فـي وســط مـديـنة الـحـي وكـان ذلك فـي تـشـرين
الـثـاني من نـفـس الـعـام وفي ذلك الوقت كان أخي نافع يعمل مراقبًا بعد فصله من الدراسة لأسباب سياسيه
في عمل الخال عبد الامير لبناء مُسـنّاة على ناظم نهر الغراف ويسكن في بيت العم عبود وكان تَخَلّصه من
ورطة منع التجول المضروب على المدينه ووصوله الى الكوت لها قصة وحديث سيأتي لاحقًا .
وبخصوص العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 سمعتُ من الاذاعة البرطانية البي بي سي خبرًا الى الآن
لا أعرف مصداقيتَهُ ولم تؤكد أو تنفي اذاعة موسكو العربية الخبر وهو أن ثلاثة أجسام ظهرت في سماء
ولاية تكساس عَـطّـلـتْ جميع الاجهزة الكهربائية لساعات وقام سلاح الجو الامريكي بمطاردتها ولكنها
اختفتْ ولم تُحقق الطائرات الامريكية غرضها ولكنْ أُشيعَ أنها أسلحةٌ سريّةٌ روسيةٌ .
وفي بداية الـسـبعـيـنات من الـقـرن الـماضي تحـول سـجـن الـكوت الى مـسـتـودع لـخـزن الـمـواد الـغـذائـيـة من قِـبَـل
وزارة الـتجـارة وفي عــام 2004 وجـدتُـهُ قـد تـلاشـى وأصـبح دكـاكـيـنًـا هـو والـبـيـوت الـمـلاصـقـة لـه ويـعـودُ تـأريـخُ
بـنـاء السجن الـى الـعـهـد الـعـثـمـاني .
وهـنا أودُّ الاشـارة وتـوضـيح مـا اخـتـلـط عـلى كـاتـبـيـن كـتـبا عن مدينة الكوت هما الـدكـتـور عـادل الـبكري
والـمحـامي مـحـمـد عـلي الـصـوري اللـذانِ ذكـرا في كتابيهما أن انـتـفاضة الـسـجناء في ســجن الكوت هي في عــام
1953 والصحيح هـو مـا ذكـرتُـهُ اي في آب عام 1956 ، أمّـا عـن الحَـدَثِ الـذي حَـدثَ في سـجـن الـكوت عـام
1953 فهـو هـروب مجـمـوعة من الـسـياسـيـين عـددهـم أربـعـة عـشـر سـجـيـنًـا تَــمَّ الـقـبـض عـلـيهـم وقد
أُعيدوا ثانيةً الى الٍـسـجـن وكـان هـروبـهـم عـن طـريـق حـفـر نـفـق من داخـل الـسـجـن الى خـارجـه حـيـث الـمـقـبـرة
الـتي تـقـع في ظـهـره وجـاء هـذا الـخَـلـط مـن الـكـاتـبـيـن لأنـهـمـا لـيـسـا من أبـنـاء مدينة الكوت الاصـلـيـيـن وأنهما لم
يـتـحـريا عـن الـمـوضوع مـن مـصـادرٍ رسـمـيّـةِ فـاخـتـلطت عـليهما أوراق الحادثتين .
أمّـا عـن موقفي مـن هـذا الـحَـدَثِ الكبير وهو العدوان الثلاثي على مصر فـقـد كـان لـي شـرف الـمـسـاهـمـة حيث
كنتُ يومها بالـصف الـخـامـس الابـتـدائـي ومـحـور التحريض للخروج بالـتـظاهر هـما الطالبان مـحـمـد سـعـيـد
عـبـد الامـيـر أبـو الـهـوا زميلي في نفس الصف وقـريـبه زهـيـر مـحـمـد أبـو الـهـوا والذي هو في الصف السادس .
جـاءني مـحـمـد سـعـيـد الى الـصـف وطـلـب مـني أن نـقـوم بـتـظـاهـرة عـنـد انـصـرافـنـا من الـمـدرسـةِ وأبـلغـني أنّـهُ قــام
بـتحـشـيـد الـطـلـبـة للـتظـاهـر وتـبـدأ مـن الـشـارع الـمـؤدّي الـى الـسـوق وبعـد أن أنهـيـنا الدوام وانعطفـنا الى الـشـارع
أعـطاني محـمـد سـعـيـد اشـارةً بالـبـدئ فصـدحَ الـهُـتـافُ من حُـنجرة زمـيـلـنا صاحـب الصوت الـجهـوري ولـيـد
نُـعـمــان بـســقوط حـكـومة نـوري سـعـيـد وتـوقـعـتُ أن يُـردد الـطـلـبة الذين حولنا سـويّـةً بهتاف يـســقـط إلّا
أنّهُ لم يـحـصل حـتى من زمـيـلـي مـحـمـد ســعـيـد أوقـريـبه زهـيـر اللـذان حـشـدا ثم اختفيا ولم أجـد لـهـما أثــرًا
و بعد هذا الهُتاف اليتيم خـيّم الـسـكـون الا من ردّي الوحيدعلى الهتاف بيسقط .
أكـمـلـتُ وزمـيـلي ولـيـد نـعـمـان طـريـقـنـا الى بـيـتـيـنا وكأنَّ شـيءً لـم يـكنْ واني الى الان لا أدري كـيـف وصـلَ إسـمي
مع إسـم ولـيـد الى إدارة المـدرسـة حصرًا حـيـث استدعانا في اليوم التالي مـديـر المـدرسـة هـاشـم الخـطـيـب وقد
اغلظ في معاقبتنا بـلوح الـسـاج الخشبي الـذي يحتـفـظ بـه لعـقاب المـذنـبـين والمـشـاغـبـين وهـددنـا بـالـنـقـل
الى المـدرسـة الـشـرقـية الـسـيـئة الـصيـت بـسـبـب مـديـرهـا عـبـد الـقـادر حَـمـد الـجـبـوري الـمـشـهـور بـقـسـوتـه .
وهنا أقـول : أنّ المغـفـلين هـم مَنْ يصـدقـون كلام الاخـرين حيث يُغرر بـهم باسم الـوطـنـيـة وشـعـاراتها الـتي
كثيرًا ما تُـخـفـي وراءهـا غـايـات ومـطـامـع كمـا في عـراقنا بعد سقوط المجرم صدام وانخداع الشعب بـالاحـزاب
التي حملت شعارات الوطنية والدين واجهةً للوصول الى الـبرلمان والحكومة وما هم الا تكتلات للصوص
تـواطأتْ على نَهْـبِ ثروة الوطن ومـوارده من اليوم الاول لتـسـلـمها الـسـلـطةَ في نـيـسـان عام 2003 والى يـومـنا
هـذا في نيسان 2020 ولا أدري مـتى سـتـنـتهي مـأســاة هذا الشعب .

الدنمارك / كوبنهاجن الثلاثاء في 16 / حزيران / 2020
الحاج عطا الحاج يوسف منصور

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here