حقيقة ثورة العشرين (اقتباس)

حقيقة ثورة العشرين، (اقتباس)* بقلم د. رضا العطار.

سبق لي ان نشرت هذا البحث التاريخي الهام عام 2015 في 36 حلقة اسبوعية، في موقع صحيفة صوت العراق الموقر، بعد استحصال موافقة المؤلف الكريمة،
وذلك بهدف التأكيد على حقيقة ثورة العشرين الخالدة والوقوف على تفاصيل احداثها استنادا الى الوثائق البريطانية الاصلية ومذكرات شهود العيان من بريطانيين وعراقيين، وبهذا يواجه آثار نزعة التنقيح التاريخي Historical revisionism التي تبنتها الحكومات المستبدة المتعاقبة في اعادة كتابة تاريخ ثورة 1920 بهدف طمس وتشويه وتزيف متعمد لحقائق تاريخية، مورست منذ 100 عام والى يومنا هذا، من اطراف عدة، ولأهداف مقصودة، من قبل الانظمة السياسية التي حكمت العراق، ملكية كانت أم جمهورية.
هذا المقال هو موجز الموجز لكتاب (ثورة 1920 حاولت جهد الامكان التأكيد على اهم الاحداث والمراقف التاريخية التي وردت فيه.

كانت ثورة 1920 ضد الاحتلال البريطاني حدثا حيويا في تاريخ العراق الحديث. فالعراقيون، وغالبيتهم من عشائر منطقة الفرات الاوسط، قاتلوا القوات الغازية في سلسلة من المعارك، عبر عدة شهور متوالية، مما أثار غضب الشعب البريطاني جراء كلفة الحرب الباهظة، الذي حدى بالحكومة البريطانية عن ايجاد تسوية، اريد منها تهدئة الوضع الداخلي والخروج من العراق وتأسيس حكومة وطنية على الرغم من انها لم تكن من النوع الذي طمح اليه العراقيون، لكنها على كل حال حققت اهدافها اكثر من الغايات.
كانت النتيجة بداية مشروع بناء الامة. وهم يعدون فيصل الاول، اول ملك عربي لدولة العراق بعد حوالي 650 سنة من الحكم الاجنبي، أي منذ الغزو المغولي عام 1258

ـ ـ ان الغاية من سرد هذا التاريخ هو دراسة ثورة العشرين ونتائجها من خلال مذكرات محسن ابو طبيخ، وهو ابرز قادة الثورة نفوذا وتأثيرا، واكثرهم فاعلية في حقبة تأسيس الدولة العراقية.
كما ان مذكرات المشاركين الاخرين في الثورة تكشف عن عقلية الرجال الذين لعبوا ادوارا رئيسية في الثورة، واهدافهم وادًعاءاتهم، كما انها تسلط الضوء على التعارض بين العادات الراسخة والمعتقدات المهيمنة في منطقة الفرات الاوسط من جهة ونموذج الحكومة المستوردة التي ترعى مصالح بريطانيا دون تهيأة الظروف للانتقال لمرحلة الاستقلال. هذا القسر هو الذي اشعل شرارة ثورة العشرين.

ان الموقف المعادي الذي اتخذته حكومة البعث منذ ان استحوذ على الشرعية عام 1963 اقتضى اعادة توطين ثورة العشرين زيفا ونقلها من منطقة الفرات الاوسط الى منطقة الفرات الاعلى وضياع قادتها الحقيقيون واستبدالهم بأشخاص كانت ادوارهم في الثورة عارضة. هكذا اغفل ذكر المحافظات والمدن والقرى التي كانت ساحات معارك عام 1920 و شوًه التاريخ حتى في الكتب المدرسية، واعيدت تسمية عديد من المناطق التي شهدت المعارك، فغيرت اسماء بعضها، مثل بلدة الرارنجية، التي تغيًر اسمها الى بلدة الرستمية، كذلك بُدًل اسم السوارية الى المشخاب، و سُمًيت مدينة ابوصخير بالمناذرة، و بلدة الحمزة بالمدحتية، وهذا غيض من فيض من العبث والتلاعب. فبهذه الطريقة السمجة تعرض تاريخ العراق الحديث الى التشويه.

كان احساس قادة ثورة العشرين، هو الاحساس نفسه للمسز بيل، سكرتيرة المندوب السامي البريطاني في العراق التي كانت منزعجة من تخطيط حكومتها لمستقبل العراق بطريقة لا تنسجم مع اسلوب حياة العراقيين.
فقد جاء في رسالة لأمها في لندن مايلي : (اصلًي من اجل ان يسترشد الاهل في الوطن بالحق ويدركوا ان الفرصة الوحيدة هنا هي الاعتراف بالطموحات السياسية منذ البداية. فالعالم يتحرك بسرعة شديدة، والفوضى يعمً بلاد الرافدين، يجب على اصحابنا في لندن ان يروا هذا الامر وان يعوه جيدا. لا يمكن ان يكونوا على هذا العمى
اصبح واضحا من ان ثورة العشرين كانت ثورة وطنية في المقام الاول وكانت العوامل المحلية هي التي حفزتها وانجزتها. و ان تنفيذ الثورة وتمويلها كان من مصادر محلية خالصة. وان الثوار لم يكونوا يعملون بوحي خارجي او يتلقون مساعدة من اي جهة، وانهم كانوا يمولون تكاليفها من مواردهم المحدودة الخاصة.

جاء في احدى رسائل الكابتن مان، الحاكم العسكري البريطاني لمنطقة غماس ما يلي :
ضباطنا الناشئين يفتقرون الى الخبرة (كان عمر احدهم 26 سنة) وقد وُضعوا في مناصب ذات سلطة مطلقة، على مجتمع عشائري متمرد، مؤكدا على عجرفتهم ضد السكان واجبارهم على اعمال السخرة. كانوا لا يثقون بأداء اليمين للمتخاصمين اثناء دعاويهم، فكانوا يرسلون بهم الى كربلاء لأداء الحلف بالعباس، وهو قسم، نادرا ما يقسم به احد كذبا.

من الغريب ان رجلا اجنبيا لم يكن يعرف لغة اهل البلد ويتميز بفكر ابعد ما يكون عنهم، يوضع مباشرة في منصب لا سيطرة لاحد عليه فيه، ان مثل هذه السلطة المطلقة مشفوعة بميل الضباط لاحتقار (رعاياهم)، ادًت الى وضع خطير تسبب في ان يُقتل عدد كثير من الضباط الانكليز على ايدي شيوخ العشائر الذين امتهنت كرامتهم.

فمثلا عندما توقف الكولونيل ليجمان عند خيمة الشيخ ضاري زعيم عشيرة زوبع يشتمه باقذع الالفاظ في لغة نابية، لم يخطر بباله ابدا ان تكون هذه الكلمات سببا في قتله. فقد كان مقتل ليجمان منسجما مع تقاليد الشرف العشائري، ففي المحاكمة لم يأت الشيخ ضاري بذكر الثورة ابدا، بل انما اكد ان سبب قتله هو اهانة الكولونيل اياه.
حدث ذلك بعد شهر ونصف من بداية الثورة، فجاء انضمام مناطق الفرات الاعلى الى الثورة عرضا ولمدة محدودة، ومع ذلك فقد افضى الشيخ ضاري ذو المكانه الاجتماعية البارزة عبر تضحيته الشجاعة على مقاتلي الثورة في الجنوب دورا ايجابيا محمودا وزخما معنويا عاليا، تُرجم ذلك على ان ثورة العشرين كانت ثورة العراقيين كلهم.

ترجع مثل هذه الاعتداءات الى افتقار الضباظ الذين وضعوا مباشرة في مناصب لا سيطرة لاحد عليهم فيها الى معرفة ثقافة سكان البلد المحتل. فهم لم يكسبوا وعيا بتعقيدات الثقافة العراقية، فما كانت العواقب إلا الحاق الإهانة لا يستحقونها. ولعل الحادث الاتي يبين خطورة الافتقار الى معرفة العادات والآداب العربية.

ذات يوم، كان الشيخ صكبان ابو جاسم، زعيم عشيرة آل بدير يجلس في مكتب الكابتن ريب، معاون الضابط السياسي في ناحية عفك، فجاء كلب الكابتن واخذ يتشمًم عباءة الشيخ، فصاح الشيخ بالكلب وطرده بخشونة. فسأله الكابتن عن سبب تصرفه هذا، فاخبره الشيخ ب (انه نجس)، فأجابه الكابتن ب (انه انظف منك)
فخرج الشيخ غاضبا وهو يقول : (العن ابوك وابو الانكليز كلهم) !
وبسبب ذلك القول فقد البريطانيون دعم عشيرة هذا الشيخ الى الابد.

كانت الشرارة التي اشعلت الثورة، نشوب نزاع ثانوي لدَينِ مزعوم، كان على شعلان ابو الجون، وهو شيخ بارز في مدينة الرميثة، ان يسدده للحكومة. اصدر حاكمها الرائد ديلي اوامره بالقاء القبض على شعلان وارساله الى الديوانية على متن اول قطار. لكن شعلان استشعر بالخطر فطلب الى ابن عمه ان يعبًي العشيرة من اجل اخراجه من السجن المحلي الذي هو فيه قبل وصول القطار، وهو ما حصل بالفعل، ولذلك خسر البريطانيون الرميثة امام اشد العشائر تمردا في العراق.
يقول احد الضباط البريطانيين (ان اخراج رجال العشائر شعلان من سجن الرميثة اشعل فتيل ثورة العشرين في الفرات الاوسط).

لا يجب الميل الى ان هذه الحادثة هي السبب الوحيد الذي يقف خلف ثورة العشرين، كانت هذه الحادثة في الواقع هي القشًة التي قضمت ظهر البعير.
في تلك الايام كانت ثمة حركة تمرد في طور التصاعد في المدينتين كربلاء والنجف، حيث يتهيأ علمائها البارزون واعيان السادة وشيوخ العشائر في الفرات الاوسط لثورة شاملة ضد الانكليز الغزاة.
في الحقيقة عُقد اجتماع في المشخاب لتهيئة الامور للثورة، وذلك قبل يومين من اعتقال شعلان ابو الجون. وارسلت رسائل الى الشيوخ تعلمهم بالأمر، كان السبب الاكبر لقيامها هو السياسة البريطانية في التنكر لوعد الاستقلال، وكذلك المعاملة القاسية لأولئك الذي يطالبون به، دع عنك الادارة العسكرية المتغطرسة و المظالم المباشرة هي التي اوصلت الامور الى الغليان.

وقد ذكر السيد محسن ابو طبيخ في مذكراته بان ثورة العشرين كانت حتمية بسبب رغبة العراق في تقرير المصير، بعد ان رفض البريطانيون الوفاء بوعودهم في منح العراق استقلاله. (لقد عجًل الانكليز بوقوعها لجهلهم بنفسية العراقي وكثرة اخطائهم السياسية التي ارتكبوها في عموم البلاد)

عندما القي القبض على شعلان ابو الجون كان يدري ان الاذلال بانتظاره في الديوانية على يد الرائد ديلي، فعمد الى استعمال كلمات الحِسجة لتضليل الملازم هيات الذي عجز عن فك شفرتها، فهي تقضي تجربة و موهبة خاصة بين قائلها ومتلقيها. ابلغ الشيخ شعلان احد مرافقيه الذين جاؤوا معه للمقابلة، ان يذهب الى ابن عمه غثيث الحرجان وان يطلب اليه ارسال عشر ليرات ذهبية عثمانية قبل مغادرة قطار الديوانية. لم يخامر الشك الملازم هيات، إذ ليس من ضرر ان يحصل السجين على بعض المال قبل هذه الرحلة البغيضة. لكن غثيث الحرجان فهم حقيقة مراد ابن عمه، فأختار عشرة رجال اشداء، وارسلهم الى السجن لأخراج الشيخ شعلان منه، وكان لهم ما رادوا.

في اعقاب اطلاق الشيخ شعلان ابو الجون من السجن ادركت العشائر ان مطاردة الانكليز لهم مسألة وقت، فقرروا كسب الوقت في الاعداد للدفاع عن انفسهم ضد هجوم وشيك، فدمروا ابتداء، خطوط السكك الحديد شمال السماوة وجنوبها، واعلنوا بعد ذلك مباشرة الثورة الشاملة ضد الانكليز.
كانت المهمًة اللاحقة للبريطانيين هي التحرك ضد العشائر الضعيفة ومهاجمة اسواقها ونهبها وقتل وحرق القرية المعادية. وبينما كان الجنود مشغولين بألحاق الاذى، وصلت قوة عشائرية قوامها 1500 مقاتل، اشتبكت مع القوات البريطانية المعتدية وانتهت بهزيمة المحتلين.
أثارت هذه الفضاعة المزيد من الاعمال العدوانية من العشائر، وكان الاثر البعيد لهذه الحادثة هو تحول المواقف العشائرية في مدينة السماوة من العداوة الكامنة الى العداوة الصريحة.

ظلت القوات البريطانية في الرميثة تواجه مصاعب شديدة، لا سيما نقص المؤن والذخيرة. فلجأ الجنود اخيرا الى الهجوم على المحلات ودكاكين البقالة ونهبها، وحمل ما يمكن حمله الى ثكناتهم العسكرية. كما انهم عانوا من الاصابات وموت عدد من الجنود حينما كانوا يحاولون جلب الماء من النهر. واهتدوا الى حل هذه المعضلة بحفر آبار داخل المعسكر.

في السادس من تموز وصلت قوة بريطانية بقيادة المقدم ماكفين الى منطقة العارضيات، شمال الرميثة، فاعترضتها قوة من رجال العشائر تقدر باقل من 5000 رجل، وبعد معركة حامية الوطيس، عمد القائد الى التقليل من خسائره بسحب قواته مستفيدا من هبوب عاصفة من الغبار، تاركا 48 قتيلا و167 جريحا، ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، اصبح لزاما تزويد المعسكر بالمؤن والذخيرة عن طريق الجو.

تقدمت قوة ضخمة نحو الرميثة بقيادة الجنرال كونينغهام مدعوما بقطار يحمل الذخيرة، وقاتلت العشائر التي تألفت قوتها من 5700 مقاتلا. وبدأ القتال، وبعد معركة خطيرة كان الميل فيها للعشائر. انتهى اليوم الاول دون حسم لاي من الطرفين.
في اليوم الثاني عبرت النهر ثلاثة فصائل من غوركا (وهم جنود نيباليون) ووضعت العشائر في موقف صعب، واجبرتهم على الانسحاب مخلفين وراءهم عددا كبيرا من القتلى والجرحى، وطبقا لهالدين تكبد البريطانيون 35 قتيلا و152 جريحا.

ظلت القوات البريطانية في الرميثة تحت الحصار 16 يوما كبدتهم 148 اصابة. بيد ان البريطانيون لم يبقوا في الرميثة. فبعد كسر الحصار عن معسكرهم، أخلوا قواتهم وتوجهوا الى الديوانية لتهيئة اخلاء قواتهم هناك ايضا. وصدرت الاوامر لجميع القوات بالتجمع في الحلة لمواجهة اي هجوم محتمل من رجال العشائر كآخر خط دفاع قبل ان تمتد الثورة لتصل مقرات القيادة البريطانية في بغداد
استمرت شرارة الثورة، فوصلت الى منطقة ابو صخير قرب النجف. فقد تقدمت عشائر من منطقة الشامية لتطوق معسكر ابو صخير، والتحقت بهم في اليوم التالي عشيرة بني حسن. انهت هذه الخطوة فترة اسبوعين من القتال.
حوصرت البلدة مدة اسبوع حتى تمكن الانكليز من انقاذ قوتهم من خلال وساطة قام بها رجال الدين في النجف،
بدأ حصار الكوفة في 20 تموز ووضعت خطة لأستكمال الاستيلاء على المدن الاخرى في الفرات الاوسط.
بعد الاستيلاء على الكفل، احكمت العشائر المناهضة للبريطانيين سيطرتها على جميع مناطق الفرات الاوسط عدا الحلة، وبذلك سيطروا على السماوة والرميثة والديوانية والشامية وابوصخير والكوفة والنجف وكربلاء، وكانت الخطوة اللاحقة هي الاستيلاء على الحلة لتكون العشائر على ابواب بغداد.
طُلب من العشائر التي ظلت في الكوفة ان تشارك في القتال على جبهة الهندية، بين الحلة وكربلاء، كان الهدف من التحرك حماية سدة الهندية.
عند هذه المرحلة لم يكن العدو الاكبر هو تهديد القوات البريطانية، بل نقص الغذاء والمؤن والاشاعات ايضا.
وحسب قول الرواة : كان الشيخ علي سليمان رئيس عشائر الدليم وحليفه رئيس عشيرة شكر وكذلك الشيخ فهد الهذال رئيس عنزة قد حالا دون توسيع الثورة ، وقالا للملك فيصل الاول : (نبايعك فقط لان البريطانيون يريدونك)

لقد امتدت ثورة العشرين الى ديالى، وقطعت العشائر فيها خطوط سكك الحديد، ين بغداد والمناطق الشرقية، الامر الذي اجبر الجنرال هالدين على ارسال وحدة الاحتياط الوحيدة لديه في بغداد، بقيادة العميد يونغ، فالتحمت القوة في قتال مع الثوار فوقع البريطانيون في حالة من الفوضى العارمة، ثم تدبروا الامر واعادوا تجميع قواتهم لكنهم سرعان من بوغتوا بهجوم آخر، بيد ان السكان تدبروا فيما بعد في تشكيل حكومة محلية لحفظ النظام.
وفي غضون ذلك شهدت بلدة دلتاوة (الخالص) ثورة مشابهة. و بعد يومين من سقوط بعقوبة ودلتاوة هاجمت عشيرة بني تميم بلدة شهربان مدعومة من سكان البلدة، وبذلك اضحت جميع عشائر شمال ديالى متورطا في الثورة. وانتشرت الفوضى الى مناطق ابعد مثل كركوك ومن ثم الى اربيل.

الثورة تلفظ انفاسها :

دامت الثورة بضعة اشهرـ وكلفت البريطانيين 40 مليون باوند واعداد كبيرة من الجنود الانكليز والهنود المرتزقة. لكن الثمن الذي دفعته العشائر لم يكن قليلا ايضا. فقد كان اثر الحرب عليها قويا حين خاضت حربا بلا وسائل لتزويد المقاتلين بالسلاح والمؤون سوى ما كان يؤخذ من البريطانيين في ساحات المعارك. بالمقابل، اتى البريطانيون بالمزيد من الجنود المرتزقة واستغلوا قواتهم الفتاكة ضد مقاتلي العشائر المسلحين تسليحا بسيط.
في 12 تشرين الاول تقدمت القوات البريطانية صوب طويريج. وعلى الرغم من المقاومة المستميتة، استولى البريطانيون على طويريج وأزالوا آخر حاجز بينهم وبين كربلاء. وتفاديا للدمار الذي سيلحق بالمدينة المقدسة، واحتمال الاساءة الى رجال الدين، عرضت مدينة كربلاء الاستسلام. تم قبول عرض الاستسلام تحت شروط مجحفة.

في الوقت نفسه توجهت قوة بريطانية صوب الكفل، وقوة اخرى لكسر الحصار الذي فرضته العشائر على معسكرها. وكما كان الحال مع طويريج وكربلاء مهًد سقوط الكوفة الطريق لاستسلام مدينة النجف دون قتال، وفرضت شروط مماثلة على النجف
لكن العشائر رفضت الاستسلام بسهولة، بخلاف سكان المدن. وعلى الرغم من القصف العنيف والمعارك الضارية، قاتلت قوات العشائر قتالا مُشرًفا في الشامية وابو صخير.
وكان اخر اعلان حرب بريطاني في منطقة الشامية، إذ اعلن عن نهاية الاعمال القتالية في المنطقة وطُلب من الاهالي العودة الى حياتهم الاعتيادية والتعاون مع السلطات.

كان مقاتلوا عشائر السماوة اخر الذين واصلوا القتال ضد البريطانيين ورفضوا الاستسلام تحت اي شروط. وحين شعر البريطانيون ان ليس من الممكن تحقيق نصر سهل على عشائر بني حجيم، وافقوا على التفاوض على وقف اطلاق النار وهكذا استطاعت العشائر ان تتجنب الشروط القاسية التي فًرضت على المدن. وكان بين شروط الصلح ان ليس على العشائر تعويض البريطانيين عن خسائرهم بالارواح والمعدات وافق البريطانيون على ان يشملوا في الاتفاقية كأول بند فيها، تأسيس ( حكومة عربية مستقلة) وان لم تكن مستقلة كما تمناها العراقيون.

بعد موت المجتهد محمد تقي الشيرازي.ادى الفراغ السياسي الى التقاء قادة القوات المقاتلة في منطقة الحسينية في كربلاء وتم تشكيل حكومة مدنية وطنية موقتة، واختير السيد محسن ابوطبيخ رئيسا للحكومة الجديدة. وقد جرى الاحتفال في دار البلدية وسط الحشود التي كانت تضمن عشرات الالوف من العراقيين ورفعت اول علم عراقي على البناية الذي اتخذته صراي للحكومة وسط هتافات داوية وزغاريد النسوة والهوسات والاهازيج الشعبية . . . وبعد رفع العلم اشرف رئيس الحكومة على الجموع واظهر سروره العظيم مما احرزه المجاهدون من التقدم في الفرات الاوسط وتطهيره من المحتلين، وحث الامة على المحافظة على الامن واحترام القوانين السائدة التي سيعمل بها موقتا.
فكان للعراق الحديث يومذاك حكومتان، احداها تناغي الاخرى، احداها في بغداد وكانت برئاسة عبد الرحمن النقيب والثانية في كربلاء ويرئسها محسن ابو طبيخ.

كتب القيادي البارز محسن ابوطبيخ تقييمه لثورة العشرين وهو يستعيد احداثها، فيقول :
( الثورة العراقية حصلت من سوء تقديرنا للامور وتبطرنا المفرط. فقد حظينا من السلطات البريطانية من التقدير والتكريم الزائد ما لا يقارن بما كنا عليه في عهد الاحتلال التركي البغيض وما كنا نلاقيه من خشونة التعامل والاضطهاد. ان الولاة الانكليز كانوا يبالغون في احترامنا ويؤمنون مصالحنا على احسن وجه.
لكننا اسأنا لهذا التقدير منهم وافتعلنا المبررات للثورة والخروج عليهم باسم الاستقلال لنمهد كراسي الحكم لحضرات الافندية الذين تنعموا بالمناصب العليا ايام حكم الاتراك.

قمنا بالثورة العراقية الكبرى وحاربنا الانكليز وفقدنا خيار ابنائنا شهداء في هذا السبيل ليأتي هؤلاء الذين تحولوا من عملاء للاتراك الى عملاء للانكليز.
كما بقيت روحيتهم التركية هي المسيطرة عليهم ولغتهم التركية هي لسانهم الغالب في كافة المجالس، اما نحن رجال الثورة فكان مصير اغلبنا ما بين النفي والاعتقال والتشريد والحرمان ).

فيا لها من ثورة خائبة * * نحن زرعنا الزرع والغير حصد (احمد صافي النجفي)

ومع ذلك فان خيبة امل ابوطبيخ لم تغير على الاطلاق رايه ( بان ثورة العشرين كانت ثورة كبرى مقدسة، قد اثرت تأثيرا بليغا في احداث التاريخ، وهو ما تمخضت عنه تحقيق هدفها الاسمى وضالتها المنشودة في تكوين الدولة العراقية الحديثة).

* مقتبس بتصرف من كتاب ثورة 1920 لمؤلفه الدكتور عباس كاظم، الطبعة الاولى، دار الطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 2014 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here